علي عبد الفتاح
الحلقة الأولى
في عام 1948م كان عبدالله باذيب في المدرسة الثانوية يردد الكلمات النبراسية الوضيئة الأولى ويقف مواقف مبدئية استراتيجية الطابع ويكتب عدداً مكثف من الكتابات الصحفية المتنوعة الموضوعات من مواضع ومضامين الثورية الوطنية وأثر تصريحاته وكتاباته عن وفي كل شيء في انتشار بعض سمات الديمقراطية الثورية أو كرد فعل لها في وسط الفلاحين بعامة والأبناء الشباب بخاصة التي تجذرت مع الخمسينات وتسربت وبدأت تقطن الريف اليمني وتؤدي إلى تبلور بعض الشرعية شبه الجماهيرية لها تحت تأثير ذلك القلم الصادق الفعال الدقيق والنشاطات القائمة على المعاناة الأصدق إلى جانب ما تراءى من تحالف بين جورج حبش وجمال عبدالناصر كبديل لخط البعث العربي الاشتراكي ذي المسار الديمقراطي الثوري المواكب الآخر والذي أنشأ الكوادر الأولى له منذ أواسط الاربعينات في عدن وصنعاء على أنه في هذه الأثناء كان عبدالله باذيب يتهيأ بسرعة كماركسي لينيني وذلك في خطى ملموسة محسوسة مع 49- 50 – 1951م بتأثير أولي مباشر على الكفاح المسلح الناشئ ضد الاستعمار والمتكون في بعض المناطق كالضالع مثلاً فالمبشر بدوره عبر شتى الكتابات الصحفية التقدمية المتنوعة المختلفة بالسبيل التفصيلي لليمن السعيد المرتقب ثم تدشين الوضوح الفكري السياسي الاستراتيجي المبكر جداً ضد المخططات الاستعمارية وأعوانها وحلفائها ومن أجل المشروع المبدئي الكبير الخاص بالوحدة الديمقراطية لليمن وطناً وشعباً وذلك في خطى منعكسة عن تنامي شرعية عبدالله باذيب والآخرين في المجالين الأيديولوجي والسياسي في مستعمرة عدن وبعض الامتدادات القليلة إلى ما تسمى لاحقاً بالمحميات. والكفيلة بالبعض القليل من الحريات الديمقراطية جوهر أماني الجماهير فالكثير نسبياً لاسيما على الأصعدة النقابية الناشئة مع الصحفية الإعلامية السريعة الانتشار بحماس ثم إصدارات ركيكة من حيث الشكل لا المضمون وفي هذه الظروف كانت استراتيجية الاستعمار وحلفاءها تكمن في رفض الاستقلال الناجز للجنوب على عكس موقفه لاحقاً مع تأبيد تخلف الشمال المستقل الأمر الذي تصدى له باذيب ورفاقه فما كان من الاستعمار سوى طرد باذيب إلى الشمال بعد أن حاول طرده مكرراً إلى الشحر البعيدة جداً والمنعزلة جداً فالمتأخرة جداً حينها ومع الثلث الثاني من الخمسينات إثر تبلور الطبقة العاملة المنظمة في نقابات ديمقراطية بدأت تنشأ الخلايا الماركسية شبه المنظمة فالمنظمة الموازية لاستهلالات تبلور نشأة الكفاح المسلح التحرري ضد الاستعمار المتوجة في نشأة اتحاد الشعب الديمقراطي فمنظمة رفاق السلفي بخط سياسي اجتماعي شديد الوضوح قائم على استراتيجية يمنية وطنية ثورية تحررية لم تكل من وفي دفاعها عن هذا الخط الاستراتيجي الصائب والعلمي الدقيق في الجنوب الاستعماري أو في الشمال الملكي المستقل الإمامي الإقطاعي شبه المنغلق التي سرعان ما شهدت تأرجحات تأزمية في اتجاه التغير الثوري فقيام ثورة وجمهورية سبتمبر الوطنية الثورية بزعامة السلال وعبدالله جزيلان ثم لتباشر فوراً بالاسهام في تفجير الثورة المسلحة في الجنوب بفترة وجيزة تقدر سنة وشهر واحد مع تباشير تشرب الثورة منذ البدايات الأفكار العلمية التي لم تكن تخلو مع ذلك من التضبب الاستراتيجي الذي بدأت تتراجع نسبياً مع تعمم وتعميم الثورة في كل أنحاء الجنوب مدعومة من الشمال بزعامة السلال وعبدالله جزيلان في ظروف تبني حركة القوميين في الشمال للأفكار الماركسية بحماس والتي عززت من تفارقها مع الطابع القومي الشوفيني لبعض المكونات والعناصر اليمينية وذلك لصالح الخط الأممي، نعم حيث تبنت الماركسية اللينينية بل والأممية البروليتارية حينها الأمر الذي فرض التحالف بين اتحاد الشعب الديمقراطي وكل من الجبهة القومية والحركيين في اتجاه التجذر نحو اليسار الديمقراطي الثوري الذي تأسس لاحقاً في 1968م في الأعبوس وزنجبار بعد تأسيس اتحاد الشعب عام 1960م ثم نشأت النقابات في الشمال كنقابة الصيقل عام 58- 1959م ثم نقابة اتحاد الخريجين بعد الثورة مباشرة ثم سائر الاتحادات والنقابات الحركية المتوجة باتحاد عمال اليمن ذي الصلات الأممية لا الدولية.
على أن هذه التحولات داخل الحركيين إنما تمت إثر انقسام الحركيين وغير اليسار الحركي إلى الماركسية فيما كان دور باذيب والطلائع الثورية الجنوبية وبالذات الشمالية المبكرة مفصلياً في هذا الزخم الثوري المستضيء بالتجارب الأممية والدور الشخصي لباذيب في تعز وصنعاء والحديدة ولقاءاته مع الشباب ورجالات السلطة.. إن باذيب قد مهد فكرياً وسياسياً بمعاناة كبيرة في إطار ما يسمى بالحركيين وبعد تمهيد ماركسي باذيبي أممي في الشمال عند لحظة وصوله إليه وتأسيسه للخلايا الماركسية الأولى وفتح إذاعة تعز وإصدار صحيفة الطليعة العلنية النافذات الوضيئات على المواطنين بعامة والشباب بخاصة والمتوجة بتأسيس نقابة أو اتحاد الخريجين بعد الثورة كما أشرنا سابقاً الذي ترادف مع نشاط نقابي لاهب ممتد في كلا الشطرين، على أن الحزب الديمقراطي الثوري تميز بتأسيسه على الجماهيرية أو شبه الجماهيرية انطلاقاً من مقدمات الطلائع النوعية للحركة الثورية في عموم اليمن بما في ذلك الشمال تحديداً كنشاط آل باذيب ورفاقه وتحالفات الحزب الديمقراطي مع عبدالناصر في البدايات وعلى أساس ذلك فإنه سرعان ما انتقل إلى اليسار الديمقراطي الثوري إثر تجاوزه العاصف للحركية إلا أن ذلك قد عرض الحركة الوطنية لتأزمات وتلكؤات عديدة أهمها انقسام الصف الوطني الثوري الجمهوري والتضبب في صفوفه جميعاً حول الديمقراطية وطابع ضرورتها الحتمية القطعية كما أكدت ذلك الوقائع التالية ليس في الوطن اليمني فحسب وإنما في العالمين العربي والإسلامي وبلدان العالم الثالث عموماً وهو ما أصبح قطعي وحتمي الوجوب في عالم اليوم.
على أن البداية الحقيقية لهذا المجرى قد تبلور عالمياً مع نشوء أول حزب شيوعي أممي هو عصبة الشيوعيين بزعامة ماركس وانجلز ونشاطهما مع رفاق آخرين في ضرورات أولويات الحرية الديمقراطية للجميع وفي مقدمتهم الشيوعيين لا أولويات الاشتراكية وإن كان ذلك يعني فتح الطريق الثابت من أجل الديمقراطية ومن أجل الانتخابات الحرة وتثبيتها وتكرارها كما يوضح ذلك تاريخ أول حزب شيوعي معروف بعصبة الشيوعيين وسائر مواقف وكتابات قادة العصبة الشيوعية حينها لذلك لم يتحالفوا مع الاشتراكيين حينها أبداً وإن حدثت بعض السجالات معهم من أجل الاستضاءة الثابتة بالديمقراطية لكنهم كانوا في مجرى آخر في الوقت الذي تتحالف فيه العصبة مع الحكومات الديمقراطية التي انقض عليها كلٌ من الاشتراكيين والاحتكاريين وعليه فإن نضال الحزب الشيوعي الناشئ في أي بلد كان منذ القدم عند التأسيسات الأولى إنما هو بهدف تحقيق طريق الحريات الديمقراطية الحقة إنه الطريق الديمقراطي المتحالف مع الديمقراطيين أكانوا مع الحكام الديمقراطيين أو في المعارضة من أجل الثبات واليقين الدستوري والديمقراطي الحر والعملي التطبيقي المتكرر للديمقراطية والتناوبات والتداولات الديمقراطية للحكم أو السلطة لذلك كان الشعار المركزي للحزب الشيوعي ولا يزال هو الطريق الديمقراطي الدستوري وهو ما ينسجم تماماً مع الأوضاع البنيوية الديناميكية الراهنة والكونية الطابع راهناً.
وعليه فإن علينا أن نمضي على هذا الدرب الطويل الممتد توطئة لتأهيلات واقعنا ومجتمعنا لذلك عوضاً عن الخصومات فضلاً عن التناحرات التدميرية والتقتيلات المزمنة الجارية, أما بالنسبة لـ لينين فقد تمثل ذلك تماماً ومن موضع المعارضة الجدية رغم الخيانة التامة القطعية الواسعة للقيصرية والحركة الإقطاعية الليبرالية الكاذبة والحكومة العسكرية المؤقتة ثم المناشفة أيضاً وهي القوى والحركات العاجزات عن ربط الأقوال بالأفعال بل المتحالفة مع أعداء الوطن الآتين من خارج الحدود لتعضيد أعداء الديمقراطية من الاحتكارات الاستعمارية المتحالفة مع جميع القوى الطامعة المؤدية إلى إعادة تسليم الأوضاع للقيصرية الخاضعة للنفوذ الاستعماري فالتسلط الأجنبي المضاد الكابح وهو ما بات يرفضه راهنية عصرنا القائم على الانفراج الوطني والأممي الثابت والأفضليات والتشابكات المتداخلة الديمقراطية المستقلة إلخ إلخ لأننا نعيش عصر البدائل العالمية فالتضامنية الديمقراطية المعززة والداعمة للتقدم العلمي التكنيكي الدينامي الجاري وبالتالي فإن علينا التقيد لبرامجنا الانتخابية القائمة على التنافس الحر حيث لا عبرة للفاشلين على ذلك من المستقويين بأهداب التغولات المشبوهة فالنفوذ الخارجي الأجنبي أو المرتهنة بالانقلابات العسكرية أو للاعتبارات الأخرى اللاشرعية فرضاً للتشدد والقسرية والإكراه. إن نجاحات البناء الاجتماعي السياسي القديم رغم الركود البيروقراطي الشمولي قد راكم محصلات كبرى على طريق إعادة البناء لاسيما مع بيروسترويكية المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وكونفرنسه التالي بقيادة جورباتشوف وأثره في انتزاع الانفراج الثابت وتحقق إنجازات الأفضليات وتشابك وتداخل المجتمعات على أسس الاستقلالية والخصوصية والسلم والسلام وإطراد الثورات العلمية التكنيكية قد أدى إلى تعافي روسيا وإطراد تقدمها وتطورها المائز المتفوق في ظروف استحكامات الأزمات البنيوية الجذرية الأطلسية المتوافقة مع إطلالة التنمية الجبارة للصين علماً بأنها الآن (أي الصين) تشرئب غائيةً نحو الديمقراطية وإن بتدرج والمسألة بالنسبة لها عارضة مؤقتة شديدة التوقيت معززة باقتدارها التنموي السريع وجديتها التكوينية الوحدوية الجارية وبالمقابل فإن عودة الاتحاد السوفياتي إنما يجري تحت التأثير الحضاري الكلي للإنجازات البنيوية القائمة على العلم الديناميكي التطبيقي النافذ في أجواء متنامية الحريات الديمقراطية الليبرالية الفتية وحركة الاستبصار الكلي الشفاف ومشاركة العالم في حركة بنائها (أي روسيا) الجديدة المثمرة جداً لأنها تجري في أرضية ليبرالية فتية لا شائخة كحال الأطلسي وفي تناسبات تطبيقية علمية منهجية ومنهاجية دقيقة جداً حيث نلمسها ونصادفها كإنماء للثمرات المتوالية المتناغمة لا للتأزمات أو الركود أو المراوحات وهو ما ينعكس في صحة العلاقات القائمة على تلازمات تأجيجية لكلٍ من الديمقراطية الليبرالية والتقدم المطرد المتناسب.
وعود على بدء فإنه ومنذ هزيمة الأتراك على يد الإمامة منذ العشرينات من القرن العشرين بدأت حركة التفتح المحلي المرتبط بالجنوب الاستعماري في اتجاه تجاوز الطابع القبلي المغلق وبالتالي القادر شيئاً فشيئاً على السير نحو اتخاذ القرار العام والخاص المواكب للمتغيرات المجاورة الحادثة في أحشاء الواقع اليمني والمعززة لنتائج الهجرات الحاصلة وأثره في تحريك وتحرك جنوب الشمال بعد فترة من التغول الاستعماري والتربية الاستعمارية الانتقالية المؤثرة في الواقع اليمني الانتقالي بدوره فالثقافات المدنية المتشابكة مع الثقافات العربية المزدادة تكونية وازدهاراً والآخذة بالاتصال والتفاعل النقدي مع التأثيرات الأجنبية للاستعمار فيما كان شمال الشمال متقوقعاً بشدة في مجتمعاتها القبلية المنغلقة ودلالات ذلك في بقاء رسوخ العصبية الرواسبية والمشاعر والأحاسيس الثابتة المغلقة إلى حين عارض مؤقت لذلك كانت التطورات اللاحقة خاصة بعد الثورة السبتمبرية قد أخذت فوراً في التفتح العام لصالح الامتزاج الجزئي فالعام للمنطقة داخل شبه الجزيرة العربية وداخل القطر اليمني (الشمال) أسوة بالجنوب المتقدم نسبياُ حتى بدأت تتنامى مظاهر ضخامة المدن كصنعاء ومعظم عواصم المحافظات لتتجاوز منطق الانغلاق لصالح المجتمع المفتوح الرحب وأثره في إضعاف الأسس الاجتماعية الاقتصادية للديمقراطية الثورية الفلاحية الانتقالية وعليه فإن اليمن الآن تتفتح على سائر السبل الكفيلة لتفتيح اتجاهاتها وتشابك تمازجاتها التام الشامل وذلك في اتجاه الحوار الجاد المسؤول الكفيل باستعادة اللحمة الوطنية وتعميقها على درب البناء والاعمار المدني الحضاري وتجدده وتجديده شرط السلم والاستقرار فالنماء المستدام.
على أن أهم حدث في التاريخ المعاصر لليمن هو تعمم وتعميم الثورة المسلحة اليمنية بعد الانتصار الحادث لسبتمبر 62م وتجذرها الاجتماعي الناجم عن كلٍ من الطابع الشعبي الجماهيري المفقر للكفاح المسلح في الجنوب والطابع شبه البروليتاري لأنحاء مستعمرة عدن سابقاً والطابع شبه الأممي لها مع تعزز الطابع الأصيل المؤصل لصنعاء الأبية مما أفضى إلى تسنم السلطة ليسار الجبهة القومية إلا أن تضبب قيادة حركة التحرر الممثلة بهذا اليسار وعفويته الرومانسية وميكانيكيته قد أفضت إلى العكس حث سادت خطاها التجريبية القاتلة بادئ ذي بدء في صورة عفوية طفولية مغامرة وكابحة حيث وحين كرست ذلك بدون تصحيحات جسورة شديدة الوضوح واثره في هزيمة أو نكسة يناير الدموية الفاضحة المفضوحة مع مواكبة تلك التضببات المريعة لمجرى حركة الطفرة النفطية المدوية الغالبة للتأثير اللجب للبترودولار وثقافة الصحراء والتصحر حينها للآن ومع ذلك وبسبب الضغوطات المتبادلة بين الشطرين وحقائق ووقائع المساعدات الشقيقة والأممية فقد كادت الشطرين أن تمتص ذلك التأثير إذ نجحت نسبياً في خلق وإبداع بعض التناسبات في حركة المواصلات المتناسبة فتكون ونمو حركة المدن وترابطاتها الملموسة إلى جانب انتشار التعليم بما في ذلك نجاحات التعليم الجامعي ونجاحات البعثات الجادة إلى الخارج ونجاحات انتشار الإعلام وأهمها التلفزيون حيث بذلك امتصت جزئياً جملة التأثيرات السلبية المدمرة للتصحر والصحراء وثقافة كل من التطور الزميت والتطور الاستهلاكي الزاخم الناجم عن الهجرة والعمل في البلدان النفطية حينها وابتداءً لجباً من 1973م حتى الثلث الثاني من الثمانينات حين بدأت المراحل الأولى لانحسار التطور الزميت والتطور الاستهلاكي الباذخ والطفيلي بل المشبوه لصالح الدور القيادي الإداري المتنامي للمدن ومراكزها على أرياف وقرى اليمن الفلاحية الانتقالية حيث اعتبر ذلك إسهاماً في إضعاف البنية التحتية للحركة السياسية للفلاحين الثوريين اليمنيين والانحسار التالي للتثاقف العلمي الثوري المنهجي للكوادر وأعضاء الأحزاب التقدمية الفلاحية الطابع لصالح تنامي كل من الورش والمعامل والمصانع والجامعات والفندقة والخدمات بصفة عامة وحركة البناء والعمران بصفة خاصة بما ينمي كل من دور العمال والفلاحين والمثقفين والموظفين من الآن وصاعداً وهو الأمر الذي كشف ويكشف عن الأسباب الواقعة وراء تعاظم وشرعيات آل باذيب ورفاقهم المؤصلين والطموحات الطليعية النوعية المتزايدة في حركة إعادة بناء الأحزاب على أسس طليعية نوعية لا الانجرار وراء الأصولية أو المشبوهية أو الارتزاق وذلك وأيضاً منذ الثلث الثاني من الثمانينات وصعوداً إلى أيامنا هذه فتصاعداً متنامياً إلى الآفاق المنظورة المرئية.