وسام محمد*
نجم عن انشطار خارطة تعز إلى عدة أجزاء، أن أصبح الزمن بطيئاً في هذه المحافظة التي كانت حتى وقت قريب معروفةً بحيويتها. فالمسافات تباعدت. وفُصلت مدينة تعز عن ضواحيها، وفُصلت الأرياف عن بعضها. وسيطر في كل جزء منها – حتى في داخل المدينة نفسها – فصيل مسلح مختلف، مدعوم من جهات اقليمية مختلفة… هي مشهد مصغر، يعكس وجه اليمن اليوم.
يشتهر الريف الغربي المحيط بمدينة تعز اليمنية، بإنتاج أجود أنواع الجبن، الذي يوزع على الكثير من الأسواق المحلية. باتت تدور هناك، منذ مطلع شهر آذار/ مارس الحالي، معارك خاطفة بين القوات المحسوبة على “الحكومة الشرعية”، وبين مسلحي جماعة الحوثي الذين كانوا يسيطرون على تلك المناطق منذ اندلاع الحرب في اليمن قبل ست سنوات.
خلال أقل من أسبوعين، تمكنت القوات الحكومية من السيطرة على مناطق واسعة من ريف تعز الجنوبي. وعلى إثر ذلك بدأ السكان الذين كانوا قد نزحوا من قراهم في السابق، بالعودة إلى منازلهم، على الرغم من الألغام التي لا تزال مزروعةً في كل مكان تقريباً. هذا التطور العسكري حدّث صورة الانقسام في تعز، وهو يغيّر من خارطة النفوذ والهيمنة على أجزائها، وقد يقود إلى تغييرات أوسع خلال الأسابيع القادمة.
وضع عسكري متفرد
تعز هي المحافظة اليمنية الأولى من حيث عدد السكان، بما يتجاوز 4 مليون نسمة، وبنسبة تزيد عن 12 في المئة من إجمالي عدد سكان اليمن. وهي تقع على مفترق طرق استراتيجي، يربط بين محافظات شمال اليمن وجنوبه، وتطل على شريط ساحلي طويل محاذٍ للبحر الأحمر، يمتد من باب المندب جنوباً، مروراً بميناء المخا التاريخي، وحتى محافظة الحُديدة شمالاً.
موقع تعز في وسط اليمن، وأيضاً دورها الوطني المتميز، وعوامل أخرى كثيرة، رشحتها لتصبح المحافظة اليمنية الوحيدة، التي تواصلت الحرب فيها بلا انقطاع على مدى ستة أعوام.
في منتصف آذار/ مارس من العام 2015، بدأت قوات عسكرية تتوافد من صنعاء، تمر عبر تعز، متجهةً نحو مدينة عدن الجنوبية، التي وصل إليها الرئيس عبد ربه منصور هادي فاراً من الإقامة الجبرية التي فرضتها عليه جماعة الحوثي في بداية انقلابها.
لكن تلك القوات لاقت رفضاً شعبياً، ظهر على شكل مظاهرات واحتجاجات واسعة. وعلى الرغم من ذلك، بدأت تتموضع في بعض المعسكرات المحيطة بالمدينة، التي أخذ قادتها يعلنون انحيازهم لانقلاب الحوثي وصالح تباعاً، باستثناء قائد اللواء 35 مدرع الذي رفض الخضوع، وخاض أول معركة عسكرية بمئات من الجنود والضباط الذين بقوا إلى جانبه.
منتصف نيسان/ أبريل من العام 2015، اندلعت حرب غير متكافئة على أطراف مدينة تعز الجنوبية، ثم امتدت سريعاً إلى وسط المدينة، داخل أحيائها وشوارعها المكتظة بالسكان.
بعد أشهر من الحرب، وتحديداً في منتصف أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، بدأت قوات الحوثي وصالح تفرض أول حصار مطبق على سكان وسط المدينة، حيث تتمركز المقاومة الشعبية. وكان أن منع عن السكان الذين لم يتبق فيها سوى ربعهم كل سبل الحياة. فانعدم الغذاء والدواء والمشتقات النفطية.
استخدم السكان الحطب القادم على ظهور الحمير من جبل صبر المحيط بالمدينة من الجهة الجنوبية، والذي لم يكن بمنأى عن سيطرة قوات الحوثي وصالح، لكن بشكل جزئي، بديلاً عن الغاز المنزلي الذي أصبح منعدماً.. وكابد السكان على مدى أشهر كل صنوف المرارات.
امتد الحصار المطبق لنحو عام كامل. وتم كسره بفتح المنفذ الغربي للمدينة، منتصف آب/ أغسطس من العام، 2016. لكنه متواصل من الجهات الأخرى إلى اليوم.
ليس وضع الحرب الدائرة منذ ست سنوات وأيضاً الحصار المستمر، هما ما يجعلان من معاناة تعز مختلفةً عن باقي المحافظات اليمنية التي وصلت إليها الحرب. ولكنه الصراع الداخلي بين فصائل الجيش والمقاومة الشعبية الذي أخذ يتصاعد طوال السنوات الماضية، ونجم عنه انشطار المحافظة إلى عدة أجزاء، كل جزء يخضع لسلطة مختلفة، هو ما جعل من الحياة في تعز أشبه بالمأساة.
في آخر صورة لتعز، أصبحت المحافظة منقسمةً إلى ثلاثة أجزاء، وكل جزء يخضع لسيطرة سلطة مختلفة. لكن التطور الأخير الذي ترتب على معارك الريف الغربي لتعز، بعد سيطرة القوات الحكومية على أجزاء واسعة من مديريات المعافر والوازعية ومقبنة وجبل حبشي، سوف يفرض رسم خارطة جديدة لتعز، سواء على مستوى المساحة، أو عندما يتعلق الأمر بتغيير قواعد الاشتباك.
وانقسام محافظة تعز إلى ثلاثة أجزاء هو الطور الأخير فيها، وكان قد ولد من رحم الحرب والحصار، وتعايش معهما، ومر بتقلبات عدة، ولا يزال منفتحاً على التشكل، تبعاً للتطورات في المشهد العسكري الذي عاد للالتهاب.
فطوال السنوات الماضية، ظلت خارطة السيطرة على أجزاء تعز، في تغيّر مستمر. فقد سعى كل طرف منخرط في الصراع، للحفاظ على ما تحت يديه من سيطرة ونفوذ، أو لتوسيع نطاق سيطرته ونفوذه. بغض النظر عن حجم القوة التي يمتلكها، وأيضاً حجم القاعدة الشعبية المؤيدة لكل طرف، لأن العامل الحاسم يكمن في الجهة الخارجية التي تقدّم الدعم والتمويل.
حيثيات
جماعة الحوثي الموالية لإيران، بعد خسارتها وسط مدينة تعز، وأجزاء واسعة من الريف الجنوبي خلال العامين الأولين من الحرب، وأيضاً مدينة المخا خلال العام الثالث، باتت سيطرتها منحصرةً في أجزاء المدينة الشرقية وامتدادها الريفي، وجزء من ريف تعز الجنوبي، وأيضاً جزء كبير من ريف المحافظة الشمالي. متمسكةً بحصارها للمدينة، ومواصلةً قصف الأحياء السكانية بالقذائف.
كما أن جماعة الحوثي، تحافظ على مناطق سيطرتها ولا ترغب بالتوسع، مكتفيةً بجني المليارات من الضرائب التي تحصّلها من المصانع، إذ تتواجد في مناطق سيطرتها في الحوبان معظم مصانع شركات هائل سعيد أنعم. وباستثناء مدينة المخا التي تمّ انتزاعها منها بهجوم قوات كبيرة عليها، فلا يوجد ما يغري جماعة الحوثي في السيطرة على تعز، إلا إذا تمكنت من تعديل ميزان القوى لصالحها، وسيطرت على كامل البلاد أو على الأقل على المحافظات الواقعة ضمن خارطة دولة اليمن قبل الوحدة. حينها فقط سيصبح للسيطرة على كامل تعز أهميةٌ، ولعل هذا هو الأمر الذي يدفعها لمواصلة حصار المدينة وخنق مئات الآلاف من السكان.
القوات المحسوبة على “الحكومة الشرعية”، والتي تهيمن عليها أطراف محسوبة على “حزب الإصلاح” (فرع الإخوان المسلمين في اليمن) أصبحت تسيطر على وسط مدينة تعز، بعد أن تمكنت من إزاحة الجماعات السلفية التي كانت موالية للإمارات. وقد تمت هذه السيطرة بعد صراع طويل، وصل في مرات عدة إلى حرب شوارع، لينتهي قبل عامين إلى طرد السلفيين من المدينة، وإنهاء نفوذهم فيها.
ثم أصبحت هذه القوات تسيطر على ريف تعز الجنوبي، الذي كان يخضع لسيطرة اللواء 35 المحسوب على اليسار والقوميين العرب، والمدعوم من الإمارات.
بعد إزاحة السلفيين من وسط المدينة، انتقل الصراع إلى ريف تعز الجنوبي (معظم مديريات الحجرية) بعد أن كان قد تمت التهيئة له إعلامياً لوقت طويل، لكنه ظل يتراوح بين مناوشات ومعارك صغيرة، عنوانها الأبرز البحث عن مطلوبين أمنياً، إلى أن استشهد قائد اللواء 35 مدرع في كانون الأول/ ديسمبر 2019، من خلال عملية اغتيال لا يزال يكتنفها الكثير من الغموض.
بعد استشهاده -وهو كان يستمد نفوذه من الالتفاف الشعبي حوله- تمّ تعيين قائد جديد للواء بصورة ما محسوب على جماعة الإخوان المسلمين، الذين يصل نفوذهم إلى الرئاسة اليمنية ويستطيعون التحكم بقرارات التعيين.
على أثر ذلك جرى تدشين حروب صغيرة لتصفية ضباط من اتباع قائد اللواء السابق الذين رفضوا تعيين قائد من خارج اللواء. لتتسع رقعة هيمنة القوات المحسوبة على “الإخوان” في تعز، ويبدأ التطلّع نحو توسعات جديدة، هدفها الإطلال على مناطق النفوذ البحري الواقعة تحت سيطرة قوات طارق صالح (ابن شقيق الرئيس السابق علي عبد الله صالح) الموالي للإمارات، خصوصاً مع وجود صراع معلن بين الإمارات وقطر، وأيضاً تطلع تركي، لم يعد خفيّاً، للبحث عن موطئ قدم بالقرب من مضيق باب المندب الاستراتيجي وعلى سواحل البحر الأحمر.
وهذا ما يفسر وجود عدة تشكيلات داخل هذه القوات، منها من يرتهن لدولة قطر وتركيا، ومنها من يظهر التبعية للسعودية، وجميعها تدّعي أنها تتبع “الحكومة الشرعية”، لكن هذا يظل دائماً بحاجة إلى تأكيد، وهو لا يتحقق إلا في مناسبات نادرة. فهي عندما تذهب في اتجاه إشعال معارك داخلية مع فصائل أخرى، أو عندما تمارس انتهاكات بحق السكان، فهي تصنّف تبعاً للأجندة التي تسعى لتحقيقها.
منذ مطلع شهر آذار/ مارس الحالي، اندلعت معارك في بعض مناطق ريف تعز الغربي، حيث تمكنت هذه القوات من دحر مسلحي جماعة الحوثي، وانتزاع ما يقارب 18 كيلومتر مربع من تحت سيطرتها. لاقت هذه المعارك التفافاً شعبياً واسعاً حول القوات التي عادت من جديد لتصبح حكوميةً، لكن مع تخوف يبديه كثيرون، من أن يكون هناك أجندة خفية تحرك هذه المعارك، تتمثل في الاقتراب من مناطق سيطرة طارق صالح، والقوات الجنوبية في مدينة المخا الساحلية. لهذا ستظل هذه القوات نصف حكومية ونصف مرتهنة إلى أن يطغى عليها أحد الأوصاف تبعاً لطبيعة ممارستها على الأرض.
تميزت محافظة تعز، بإعلائها من شأن التعليم والعمل. فهي المحافظة اليمنية الأكثف من حيث عدد الخريجين الجامعيين. كما أن سكانها يشتهرون في العمل بمختلف المهن، وينتشرون في كل المحافظات والمدن اليمنية. ويوجد عدد كبير من المنحدرين منها، مغتربون في دول الجوار، وفي دول أخرى في أنحاء المعمورة.
في الجزء الثالث من تعز، باتت قوات طارق صالح الذي انتقل إلى مربع مواجهة الحوثي – بعد قرار مجلس الامن بخصوص الحديدة وتعز في كانون الأول/ ديسمبر 2018 – تسيطر على الشريط الساحلي لتعز، الممتد من باب المندب وحتى حدود محافظة الحُديدة، والمناطق المحاذية له، يشاركه في هذه السيطرة خليط من القوات المحسوبة على السلفيين وعلى “القوات الجنوبية”، ومنها من يوالي الإمارات ومنها من يوالي السعودية.
وكان ميناء المخا مهملاً في عهد صالح. فقد تحول من ميناء تاريخي اشتهر بتصدير البن اليمني إلى كل العالم، (ومنه جاءت تسمية القهوة أو “موكا”) إلى مجرد مرفأ للتهريب. وكان هذا الميناء قد وقع في بداية الحرب تحت سيطرة الحوثي وصالح، كغيره من مناطق تعز. إلا أن قوات جنوبية مدعومة من الإمارات، قادت في العام 2017، معركة عسكرية واسعة تمكنت من خلالها من تحرير المخا ومناطق الساحل وصولاً إلى حدود محافظة الحديدة، لكن مع إبقاء هذه المناطق مفصولةً عن مدينة تعز التي يسيطر عليها “الإخوان”، ومن تعتبرهم الإمارات أعداء لها. لهذا ظلت جماعة الحوثي تنتشر في المناطق الريفية الفاصلة بين مدينة تعز وبين مدينة المخا. وعلى الرغم من سهولة دحر الحوثيين من هذه المناطق إذا ما اتفق خصومهم من الطرفين، إلا أن الأمر ظل على حاله إلى أن اشتعلت المعارك الأخيرة، التي ستجعل قوات محور تعز المحسوب على “حزب الإصلاح” في مواجهة مباشرة مع قوات طارق صالح الموالي للإمارات.
معاناة الزمن البطيء
نجم عن انشطار خارطة تعز إلى عدة أجزاء، أن أصبح الزمن بطيئاً في هذه المحافظة التي كانت حتى وقت قريب معروفةً بحيويتها. فالمسافات تباعدت. وفصلت مدينة تعز عن ضواحيها، وفصلت الأرياف عن بعضها. وكأن هناك عقاباً حل بهذا الجزء من اليمن باتفاق جميع الأطراف.
قبل الحرب كان الانتقال من وسط مدينة تعز إلى منطقة الحوبان (البوابة الشرقية للمدينة) لا يستغرق أكثر من 15 دقيقة. حالياً، أصبح هذا يتطلب ما لا يقل عن ست ساعات. وذلك من خلال الالتفاف على المدينة، والمرور بطرق جبلية وعرة، عبر سيارات الدفع الرباعي. لكن الأمر لا يقتصر على الانتقال من وسط المدينة إلى مدخلها الشرقي. بل أصبح الانتقال إلى ضواحي مدينة تعز، والتنقل بين أريافها والسفر إلى المحافظات الأخرى… كله أصبح يعتمد على طرق بديلة، غالباً ما تكون جبلية ووعرة، ويتطلب السفر عبرها ساعات طويلة.
وهذا الوضع يتسبب للمسافرين بكثير من المخاطر والأعباء. فالطرق الوعرة غير معبدة، وتشهد الكثير من الحوادث، يزيد فيها الازدحام كونها أصبحت بديلاً لتدفق المسافرين والبضائع، وهي عرضة للخراب ولا يوجد صيانة لها، وتصبح أكثر خراباً مع حلول موسم الأمطار.
بالنسبة لتكاليف السفر، فقد تصل أحياناً إلى عشرات الأضعاف. فمثلاً، قبل الحرب، كان الانتقال من وسط المدينة إلى الحوبان، يكلف أقل من ربع دولار (50 ريالاً، وسعر الدولار حينها 250 ريالاً). بينما اليوم أصبح يكلف نحو 10 دولار (8 الآف ريال، سعر الدولار اليوم 850 ريالاً). وتزيد كلفة السفر كلما زادت الإتاوات التي تفرضها بعض هذه النقاط على أصحاب مركبات نقل المسافرين.
يُطلق على تعز، اسم “عاصمة الثقافة اليمنية”، وكانت في الماضي بمثابة غرفة عمليات للحركة الوطنية. ومعظم مؤسسي الأحزاب السياسية، ورجالات الدولة في المناصب العليا ينحدرون من هذه المحافظة، إلى جانب أكثر من ثلث من يشتغلون بالتجارة في اليمن.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. إذ توجد في هذه الطرق عشرات النقاط العسكرية التابعة للأطراف التي تسيطر على أجزائها، وأحياناً من قبل مسلحين لا يمثلون أي طرف. ويقوم أفراد هذه النقاط بعمليات تفتيش دقيقة للمسافرين ولأغراضهم، فتتعرض هذه الأغراض للسرقة أو التلف.
يطلب من المسافرين المارين هذه الطرق البديلة، إبراز هويتهم (بطاقة شخصية أو جواز)، ومن لا يملك هوية، فسوف يتم إيقافه لساعات طويلة ولن يسمح له بمواصلة رحلته، إلا إذا كان لديه شخص نافذ ينتمي للطرف نفسه الذي ينتمي له أفراد النقطة العسكرية، حيث يمكنه التوسط عندهم للسماح له بالمرور، أما الحل الآخر فهو أن يدفع المسافر مبلغاً من المال لأفراد النقطة من أجل إخلاء سبيله.
والأمر الأكثر خطورة يحدث عندما يشتبه أفراد النقطة بأي شخص، سواء من خلال هيئته التي ربما قد توحي بأنه عسكري، أو لهجته التي قد توحي بأنه يتبع أحد أطراف الصراع، أو حتى لقبه، أو لأي سبب آخر. حينها يتم فتح تحقيق معه، ويفتش هاتفه بشكل دقيق، وإذا وُجد فيه ما “يدينه” (برأيهم)، يؤخذ على الفور إلى السجن. وهذه الطريقة كثيراً ما تتبعها النقاط العسكرية التابعة لجماعة الحوثي، والتي قد تفرض أحياناً عملية تفتيش لهواتف جميع المسافرين، وأي شخص يوجد في تلفونه ما يثبت أنه ينتمي لأحد الأطراف الأخرى المناوئة، وغالباً لمجرد وجود صور حمّلت من تطبيق واتسأب، يؤخذ الشخص إلى معتقل الصالح الشهير والواقع في الأطراف الشرقية لمدينة تعز.
أصبح من بديهيات السفر عبر الطرق البديلة في تعز، أن يقوم الشخص، بحذف كل شيء من هاتفه، وعدم ترك أي صورة أو رسالة أو حتى رقم من الممكن أن يستدعي الشبهة. كما يلجأ كثير من المسافرين إلى اصطحاب عائلاتهم، خصوصاً إذا كان يسافر على متن سيارته الخاصة، وذلك حتى يضمن إجراءات تفتيش مخففة من قبل هذه النقاط.
صورة اليمن
تتميز محافظة تعز، بكونها تعلّي من شأن التعليم والعمل. فهي المحافظة اليمنية الأكثف من حيث عدد الخريجين الجامعيين. كما أن سكانها يشتهرون في العمل بمختلف المهن. وينتشرون في كل المحافظات والمدن اليمنية. ويوجد عدد كبير من المنحدرين منها، مغتربون في دول الجوار، وفي دول أخرى في كل أرجاء المعمورة.
يطلق على تعز، اسم عاصمة الثقافة اليمنية، وكانت في الماضي، بمثابة غرفة عمليات للحركة الوطنية، إبّان ثورتي سبتمبر وأكتوبر. معظم مؤسسي الأحزاب السياسية ورجالات الدولة في المناصب العليا ينحدرون من هذه المحافظة، إلى جانب أكثر من ثلث من يشتغلون بالتجارة في اليمن.
لا يمكن اختزال الصورة الحقيقية لتعز، في معاناتها وفي أحلامها، في ثورتها وفي حربها، إلا إذا نظرنا إليها كمشهد مصغر، يعكس وجه اليمن… في المأساة وفي الأمل.
اكتسبت تعز سماتها هذه، من موقعها في وسط البلاد، ومن ضعف الروابط القبلية بين سكانها لصالح الإعلاء من شأن الهوية الوطنية واحترام القانون (هذه الحرب فرضت تغييرات كثيرة مثلت ارتداداً عن هذه الثقافة)، لكن أيضاً من قربها من مدينة عدن، التي كانت في النصف الأول من القرن العشرين تعد مدينةً عالمية، حيث ذهب كثير من أبناء تعز إلى عدن، بسبب افتقار محافظتهم للموارد، وهناك تعلموا، وانخرطوا في النضال ضد المستعمر، واحترفوا التجارة، وسافروا للاغتراب في دول كثيرة، خصوصاً في الحبشة.
موقع تعز الجغرافي، ومكانتها الوطنية، أهلاها للعب أدوار كثيرة في تاريخ اليمن الحديث. سواء عند اندلاع ثورتي “أكتوبر” و”سبتمبر” منتصف القرن الماضي، أو بعد ذلك على صعيد بناء الدولتين في الجنوب والشمال، أو مؤخراً عندما تفجرت “ثورة فبراير” عام 2011 من شوارعها، لتمتد إلى كل محافظات ومدن اليمن.
لكن هذه الأسباب والعوامل هي نفسها ما يجعل تعز تدفع فاتورةً باهظة. فهي منذ ست سنوات، تواجه حرباً وحصاراً وتقسيماً، وكل الأطراف المتضررة من دورها الوطني تسعى للانتقام منها. فأبناء تعز في الجنوب أصبحوا مكروهين من قبل المنادين بالانفصال بسبب الأفق الوطني لتعز الذي ساهم في تحقيق الوحدة اليمنية. كما أن جماعة الحوثي الطائفية، تنظر إلى تعز على أنها رافعة المشروع الوطني الذي قام بـ”ثورة سبتمبر” وتمكن من إنهاء حقبة دولة الأئمة الهاشمية التي تمثل الجماعة امتداداً لها. وهناك اتباع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الذين ينظرون إلى تعز بأنها كانت السبب وراء سقوط نظام صالح، ويحملونها مسؤولية الوضع الذي وصل إليه البلد.
إلا أن الصورة الحقيقية لتعز، في معاناتها، وفي أحلامها، في ثورتها وفي حربها، لا يمكن اختزالها، إلا إذا نظرنا إليها بكونها مشهداً مصغراً، يعكس وجه اليمن. في المأساة وفي الأمل.
* نقلًا عن السفير