كتاب المواطن – روجيه جارودي
وحين أطلقت شرارة الثورة الثقافية في عام 1996، كانت غالبية جهاز الحزب الشيوعي الصيني ورئيس الجمهورية ليو شار شي تستلهم جوهرة وأساسية النموذج السوفياتي: فقد كانت تنزل أولوية الصناعية الثقيلة (انتاج وسائل الإنتاج) على الصناعة الخفيفة (إنتاج السلع الاستهلاكية) منزلة العقيدة المطلقة، وتؤكد على ضرورة المشاريع الجبارة واستخدام الحوافز المادية (العلاوات، الخ) لإنارة حماسة الشغيلة للعمل، وتتبي التصور الغربي والسوفياتي عن النمو: الرفع المتواصل لمستوى الاستهلاك والرفاه كهدف أول للمجتمع.
في عام 1996 أطلق ماوتسي تونغ الشعب الصيني في هجوم كاسح على جهاز الحزب وتصوره عن الاشتراكية. وكان رأي ماوتسي تونغ أن شيخوخة الحزب البيروقراطية لا سبيل إلى «تقويمها» و «اصلاحها»، مثلها مثل الدولة البورجوازية التي لا سبيل الى اصلاحها والتي لا بد، كما كان يقول ماركس، «تحطيم جهازها»، اذا كانت الرغبة صادقة في وضع حد لثنائية الحكام والمحكومين البيروقراطية. وبذلك بات من الضروري تفكيك أوصال جهاز الحزب نفسه وجهاز الدولة كذلك: وهكذا جرى تغيير 80% من الملاكات السياسية والإدارية لا في شكل تطهير وتصفية القادة القدامى، بل عن طريق إعادتهم إلى العمل في الانتاج. وهذا النضال ضد البيروقراطية أتاح إمكانية تخفيف وزن الادارات و «اللجان» الحزبية التي كانت تنافس الوزارات في عملها.
وقد وُضع أيضاً حل لامتيازات القادة: شقق فخمة، سيارات، مخازن خاصة للتمون. وأُخذ بمبدأ دوران الملاكات بحيث تعاود هذه الملاكات اتصالها بالشغيلة دورياً بعملها في ميادين الإنتاج شهرين على الأقل في السنة.
والحق أن الشيوعيين الصينيين في سبيلهم إلى بناء نموذج التطور هو بمثابة بديل جذري عن نموذج الحضارة الغربية والسوفياتية: فها هي ذي، في مواجهة حمى النمو والمزاحمة، مدن بلا مصارف وبلا إعلانات وبلا مخدرات وبلا كحول وبلا سيارات خاصة. ولم تعد شانغهاي المركز العالمي للافيون والبغاء، وتقدمت المواصلات المشتركة على السيارة الفردية.
وهذا كله ليس من نتائج التخلف کما يزعم الزاعمون، لأن البلدان المتخلفة غالباً ما نجمع بين بؤس معمم وبين ترف «غربي» لطبقة هزيلة من أصحاب الامتيازات. وإنما نحن أمام اختيار انساني أساسي يتطلب المزيد من الثورات الثقافية حتى يستمر نمط الحياة الاشتراكي في الاختلاف عن سائر الأنماط الأخرى في غاياته كما في وسائله.
ما الوسائل المستخدمة لخلق علاقات اجتماعية جديدة؟
في المقام الأول تسيير المشاريع من قبل «لجان ثورية» تتألف في غالبيتها من عمال ومهندسين وكوادر تقنية، لا من قبل دولة ممركزة أو من قبل جهاز الحزب أو من قبل تكنوقراطيين.
هذا النظام يقتضي – مثله في ذلك مثل كل تسيير ذاتي – رفعاً مستمراً الثقافة الشغلية ، رفعة مستمرة لا لمعارفهم التقنية فحسب بل أيضا لوعيهم مسؤوليتهم تجاه المستقبل. وهكذا فإن المعول عليه في زيادة الانتاج ليس التحريض المادي وإنما تطور «اللحظة الذاتية» في العمل الثوري، أي ذلك الإيمان الذي يزعزع الجبال ويغير موضعها. ولا ريب في أنه يسهل علينا أن نسخر من عبادة شخصية ماو التي لا سبيل إلى إنكارها، كما يسهل علينا أن نهزأ من التلقين المذهبي الدوغمائي بواسطة «الكتاب الأحمر الصغير» ومن صراعات الزمر والأجنحة داخل الحزب ومن الأسلوب الواهن الديموقراطية المستخدم في حلها، ولكن المشكلة كانت مشكلة ترسيخ الثقة في مدى سنوات معدودات لدى ثمانمئة مليون إنسان كان معظمهم أمياً ومشوهاً ومسحوقاً منذ ألوف السنين، ترسيخ الثقة بقدرة الإنسان على تغيير العالم بقواه الذاتية وبث الشعور بالمسؤولية الشخصية لكل فرد عن هذا التغيير، ولم يكن هناك مناص من استخدام الوسائل المتاحة مباشرة أو النكوص عن هذه المهمة، أي النكوص عن شق طريق جديدة أمام التاريخ الإنساني.
لقد هبت العاصفة على نطاق القارة الصينية المترامية الأطراف، فخرجت من هذا الزلزال الذي دام أعواماً ثلاثة صين جديدة لم تضل قط طريقها: الطريق المفضي إلى تولي الشعب بنفسه تسيير دفة كل شيء.
ولقد كانت النتائج المادية نفسها إيجابية: فالأرقام التي أعطاها شو إن لاي لأول مرة منذ ست سنوات (۱۸ مليون طن من الفولاذ و۲۰ مليون طن من النفط)، ناهيك عن النجاحات العلمية التي أدهشت العالم، تدل على تجلية جديرة بأن تنتزع الإعجاب، لا سيما وأن الصين لم تتلق مساعدة طوال تلك الأعوام الستة لا من الكتلة الرأسمالية ولا من الكتلة السوفياتية.
وأخيراً، ضربت الصين مثالا على زراعة اشتراكية ناجحة (وهذا أمر غير معهود حتى اليوم!).
ومن المظاهر البارزة الأخرى في الثورة الثقافية اختراع وسيلة جديدة في تكوين المجتمع لكوادره. لا عن طريق بذل مجهود جبار لتصفية الأمية فحسب (يتردد مئة مليون طفل على المدارس الابتدائية)، بل عن طريق إلغاء كل انتقال مباشر وفوري الى الجامعة. فبعد أن ضُرب الصفح عن المناهج القديمة من خلال وقف كل تعليم عال طوال أعوام أربعة تقريبا بصرف النظر عن كل ما ترتب على ذلك من مصاعب، جرى إدخال تغيير جذري لا على مضمون التعليم فحسب، بل أرسيت أيضاً قواعد نظام يوجب على جميع الطلاب بلا استثناء عند تخرجهم من المرحلة الثانوية أن يمضوا ثلاث سنوات على الأقل في العمل في المصانع أو في الريف. وبذلك باتت أبواب الثقافة العليا لا تفتح إلا أمام رجال عرفوا طعم هذه الحياة العمالية أو الفلاحية. كما أن الولوج منها ما عاد مرهوناً بالولادة أو بالمال، وإنما باختبار رفاقهم في العمل.
لقد نوهت ببعض سمات هذه الثورة الثقافية الصينية لا لأدعو الى تقليدها في الوقت الذي تنطرح فيه المشكلات في بلادنا بصورة مغايرة كلياً، وإنما لأنها تشكل النموذج التاريخي الوحيد لمحاولة ترمي الى تغيير وسائل الثقافة وغاياتها والى خلق مشروع جديد للحضارة.
***
لقد قدمت الكنيسة طوال قرون المبادئ الأساسية فيما يتعلق بغايات ثقافتنا ومضمونها: ففي مجتمعات العصر الوسيط الأوروبي القدسية تولت الكنيسة تحديد «النظام المرام من الله»، فكانت جميع الفضائل العامة أو الخاصة تنبع من التقيد بهذا النظام.
وابتداء من عصر النهضة حلت دراسة الآداب القديمة محل تعليم الكنيسة. وكان ذلك بمثابة عودة إلى المنابع: سبق أن ذكرنا أن الكنيسة المسيحية دمجت بها منذ عهد القديس أوغسطينوس ثنائية الفلسفة الإغريقية، ومنذ عهد الإمبراطور قسطنطين ميراث التنظيم الروماني للدولة. ودراسة الآداب القديمة تمثل، بعد عشرة قرون ونيّف من هيمنة الكنيسة، عودة إلى منبعي هذه الهيمنة: الثنائية الإغريقية والنظام الروماني.
وفي وسعنا أن نلقى لدي شيشرون المبدأ الأساسي للتمييز بين الشغلية اليدوين والحكام السياسيين: «يترك للفنون اليدوية ما يستخلص من الأشياء والحيوانات التي نستخدمها، ويُستبقى لحكمة عظام الرجال وفضيلتهم واجب توجيه النشاط الانساني بهدف إنماء الصالح العام» (شيشرون «مقالة الواجبات»).
ولم يضع الدرس في طيات النسيان. فقد صرح أشأم سياسي عرفته فرنسا، أدولف تيير، أثناء مداولات اللجنة التي عُينت من خارج البرلمان لتكميل قمع ثورة حزيران 1848 بقانون مدرسي، صرح بصدد تعليم اللاتينية بقوله: «إني لأؤثر أن يُحدَّث الطفل على امتداد أعوام ثلاثة عن سيبيون و كاتون على أن يُحَّدث عن المثلثات والزوايا القائمة. فحين يدب الوهن في الدين في بلد من البلدان، يمسي العماد الأول للأخلاق أمثلة الماضي الكبيرة».
لا مجال للشك إذن في أن المعنى الطبقي والقمعي لتعليم اللاتينية ذاك ما كان غائبا عن أذهان السياسيين الذين لم يفرضوه في عصر علماء الآداب القديمة المكافحين في عصر النهضة ضد قيم الماضي القدسية، وإنما في عصر البورجوازية المعقود لها إزار النصر والموطدة العزم على الدفاع عن تصورها عن النظام.
ولقد كانت اللاتينية أداة ممتازة مثلى لتكوين «النخب» السياسية: فشعب الجنود والمستعمرين والقانونيين ذاك له أدب وفن على قياسه، من دون أي محاولة للخلق والإبداع تهدد بأن تكون هدامة. وفي المستطاع أن يُغرق بملء الأيدي من هذه النصوص لاصطناع أعيان ورجال أمن وموظفي قانون ومعجبين بالقوة، وكذلك لاصطناع سفسطائيين قادرين بالتناوب على إثبات الـ «مع» و «الضد».
ما من نص من تلك النصوص يثير القلق لدى الانسان ويحمله على توکید تعاليه. وإذا ما تم تمثل الميراث اللاتيني المكين على الوجه الأكمل أمكن للمرء أن يطمئن إلى أن الخيال لن يتربع يوماً سدة السلطة!
ولقد نابت «العلوم الانسانية» بدورها خلال الأعوام العشرة الأخيرة مناب «الآداب القديمة» في أداء دور مماثل: فاتجاهها العام أن الشعور بنظام ضروري، بل بقدر مقدور يتولد معه شعور ببطلان كل مشروع يرمي إلى تغيير النظام جذرياً. فالمؤسسات الاجتماعية القائمة لا سبيل إلى تجاوزها.
وسأكتفي بأن أضرب على ذلك مثالين:
إن المؤلفات الرسمية في الاقتصاد السياسي (تلقى مؤخراً واحد من مؤلفيها جائزة نوبل بعد أن ترجم الى مختلف لغات العالم ان الرأسمالي) تنحي جانباً كلمة «الاستغلال» بالذات بوصفها كلمة «جدلية لا علمية» وتمحو كل أثر للمناقضة. وهكذا توصف، في صيغ رياضية بقدر أو بآخر، «أواليات» اقتصادية بحيث تبدو السيطرة والهيمنة وكأنها نابعتان من القوانين الموضوعية للتطور التقني.
ويسهم علم الاجتماع بقسطه من «المفاهيم القمعية». ومن الأمثلة النموذجية البارزة على ذلك أطروحات ماكس ويبر بصدد البيروقراطية: فانطلاقاً من تجربة الدور الذي لعبته البيروقراطية البروسية في تكوين الوحدة القومية الألمانية والذي لعبه نظام تايلور في تطوير إنتاجية المشاريع الأميركية يصور ماكس ويبر التنظيم البيروقراطي الطراز على أنه شكل متفوق من العقلانية، شكل هو بمثابة قدر مقدور لكل مجتمع يتطلع إلى النجع والفعالية.
ولكن بصرف النظر عن هذه الأطروحة الخاصة أو تلك، فإن منهج هذه «العلوم الإنسانية» هو خير ضمانة للنظام القائم. فمنهجها هو منهج الوضعية التي تحدد العلم بأنه ملاحظة لعدد معين من «الوقائع» وتحديد للعلاقات الدائمة بين هذه الوقائع. والحال أن مثل هذا التصور قد بلي ودالت دولته منذ أمد طويل على صعيد علوم الطبيعة: فليس هناك من «واقعة» لها معنى في حد ذاتها، وإنما يتأنى معناها من صلتها بالنظرية التي تؤكد تلك الواقعة نفسها صحتها أو بطلانها.
والوضعية على مستوى العلوم الإنسانية أشد ضرراً وفتكاً أيضاً: أولاً لأن الواقعة الإنسانية ليست معطى وإنما ما فعله إنسان أو جماعة من الناس. كما أنها ليست موضوعاً، وإنما مشروع متحقق. وهذا يعني أن ثمة مشاريع أخرى كانت ممكنة، وأن تحقيق هذا المشروع دون سائر المشاريع الأخرى لم يكن محتماً حتمية سقوط الحجر أو حدوث التفاعل الكيميائي. إن الوضعية في العلوم الإنسانية هي مدرسة الجبرية: فحين يُحبس الفكر في نطاق المعطى يُحبس الإنسان في حدود النظام القائم.
إن أسماء علم الاجتماع، وعلم النفس، والآن «علم المستقبل»، تخلق بذاتها التباساً أول إذ توحي بأن المسألة هي مسألة علوم من نفس طراز علم الأحياء أو علم وظائف الأعضاء اللذين يعالجان ظاهرات الطبيعة. وهذا الالتباس هو من ميراث الوضعية التي كان سان سيمون أول من صاغها. ففي رأيه أن «علم الإنسان» يجب أن يكون نسخة طبق الأصل عن نموذج علوم الطبيعة. وقد قال بأن من الواجب أن يضفي عليه طابع وضعي «بتأسيسه على الملاحظة ومعالجته تبعاً للمنهج المستخدم في سائر فروع الفيزياء». وسوف يفتن أوغست كونت «الروح الحقيقية للوضعية» انطلاقاً مما يسميه بـ «العقيدة العامة القائلة بثبات القوانين الطبيعية» وهي تسمية لها في حد ذاتها دلالتها.
ومن هنا يمسي مفهوماً الدور الذي أمكن لفكر ماركوز أن يلعبه في التمرد على تلك الثقافة القمعية وعلى تلك المعرفة الوضعية «ذات البعد الواحد» مثلها مثل المجتمع الذي هي في آن واحد تعبيره وحارسه.
وإلى ماركوز يعود الفضل في التذكير، بعد ماركس، وفي ظروف جديدة، بالمدلول الثوري للجدل، إذ ينوه بسمتيه الأساسيتين:
أ- كان هيغل يقول: «إن الفكر هو في جوهره نفي المعطى الماثل أمامنا». والجدل هو نقيض الوضعية: فنقطة انطلاقه ليست ما هو «إيجابي» (معطى) في الواقع، وإنما ما هو «سلبي»، أي كل ما ليس هو بالظاهر المحسوس المباشر، أي مجمل العلاقات التي تربط هذا الظاهر بما هو مغاير له، أعني شبكة العلاقات التي تعطيه معنى داخل كل محدد: هكذا حلل ماركس «البضاعة» لا بصفتها شيئاً يقع مباشرة تحت متناول الإدراك وإنما بصفتها علاقة بين بشر. فحتى يصبح نتاج العمل بضاعة ينبغي أن يكون هناك بائع ومشترٍ، أي جملة من علاقات اجتماعية تقود البشر الى مقارنة منتجاتهم والمقابلة بينها في سوق محددة. والأمور لم تسر دوما على هذا النحو ولن تسير دوماً عليه.
كذلك ليست الملكية الخاصة محض واقعة: فهي غير قابلة لأن تُحدد وتُفهم إلا بوصفها نفياً لتملك البشر الجماعي للطبيعة، أي ليس بوصفها معطى ثابتة لا يتبدل ولا يحوَّل، وإنما بوصفها واقعاً متغيراً ولد في لحظة محددة من التطور التاريخي وقُدر عليه الموت في مرحلة أخرى من هذا التطور.
ب – إن الممكن يؤلف جزءاً لا يتجزأ من الواقعي. والوضعية في العلوم الانسانية تبتر من الواقع بعده الأساسي: فنظراً إلى أنها لا تقيم اعتباراً إلا للوقائع المتجمدة في «معطيات» نجدها تجهل أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم (ولكنهم لا يصنعونه عسفاً وإنما في ظروف متحددة دوماً بالماضي). والوضعية طريقة عجيبة غريبة في طرح المشكلات: «ماذا سيحدث إذا ضربنا صفحاً عن كل تدخل انساني وإذا امتنعنا عن أي مجهود لتغيير مجرى الأشياء؟». وتجاه هذا العالم الذي ينفي عنه الانسان والذي تزعم الوضعية أنها تصفه «موضوعياً»، تعلق الشبيبة عظيم الرجاء على ثقافة تساعدنا على تصور وتحقيق الممكنات التي يمكن أن تولد من مبادرتنا وعملنا.