كتابات – عيسى البراق
ليلة رحيل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في 14يناير2011م، كنت في محل الحلاقة الكائن في الدور الأرضي للعمارة التي نسكن إحدى شقق الدور الثاني منها في شارع16 أمانة العاصمة صنعاء، قفزتُ فرحًا وجريت بكل قوتي وصعدت إلى الشقة مبشرًا بنجاح الثورة التونسية في إسقاط نظام بن علي وترحيله، كان هناك الرفاق: بسام الحداد وميزر الجنيد وعبدالرؤوف ومعمر الشرعبي على ما أذكر.
قال بسام: نصدر بيان الثورة وتحمس ميزر للفكرة وشرع بسام بكتابة البيان وكلا يدلي بدلوه، وبعد الفراغ من البيان تداولنا أفكارًا عدة حول كيفية توزيعه، إزدادت حماسة الرفيق ميزر وتأهب للذهاب لغرض التواصل مع توكل كرمان وأحمد سيف حاشد وبقية الناشطين بشأن التنسيق والإعداد لانطلاق المظاهرات الثورية المنادية بإسقاط نظام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح.
تم توزيع البيان في اليوم التالي أي الـ15من يناير من قبل الرفاق عبدالرؤوف ومعمر الشرعبي وآخرين في جامعة صنعاء وغيرها (في ذات اليوم كانت قد انطلقت تظاهرة صغيرة من طلاب الجامعة إلى السفارة التونسية مؤيدة للثورة التونسية ومنادية بإسقاط نظام صالح).
في ذات اليوم كان الرفيق ميزر قد قام بالتنسيق المطلوب وذهب إلى سكرتير منظمة الحزب الإشتراكي في أمانة العاصمة الرفيق عبدالعزيز الزارقة واستخرج منه تكلفة طباعة اللافتات الكبيرة والمنشورات الورقية وتم طباعتها في مطبعة الرفيق عبدالسلام الخطيب، كنت حديث التخرج من قسم المحاسبة جامعة صنعاء ولم أكن قد حصلت على وظيفة في مجال تخصصي لذا كنت أعمل في مهنة تشكيل الأحجار (الوقيص) التي أعتز بها كثيرًا وهي مهنة حرة لا تسمح بالتخلف عن الدوام اليومي لأنك ستسبب بتعطيل عاملين آخرين لا سيما البناء ومساعده ومع ذلك قررت المشاركة في أول تظاهرة حاشدة تحمل اللافتات العريضة المنادية بإسقاط النظام، والتي كان موعدها بحسب التنسيق والإعداد المسبق المشار إليه آنفًا صبيحة الـ16من يناير، في الليلة الماضية كانت اللافتات قد تجهزت و كانت بحوزتنا في الشقة.
وأمسينا من الفرحة والإستعداد كالأطفال عشية العيد وأصبحنا كذلك، انطلق الرفاق و خرجت أنا بمفردي قاصدًا البوفية للصبوح والمقوات لشراء الفذحة ومن ثم انطلقت صوب الجامعة الجديدة حيث مكان انطلاق المظاهرة وعند وصولي كانت هناك لافتتين كبيرتين إحداهما يرفعها الرفيقين ميزر وعبدالرؤوف الشرعبي والأخرى يرفعها الرفيق فارس القدسي والآخر لم أركز من يكون، في الأثناء كان الرفيق ميزر يتلقى اتصالًا هاتفيًا عن حادثة تعرض الرفيق ابراهيم الأزرقي لاحتجاز من قبل أمن الجامعة على خلفية توزيعه مقصوصات ورقية تدعو للمشاركة في المظاهرة، وبمجرد وصولي طلب مني الرفيق ميزر الحلول بدلًا عنه كي يذهب لإنقاذ الرفيق إبراهيم من قبضة عساكر الأمن ولم أتردد إذ رفعت الطرف الآخر لتلك اللافتة العريضة التي لم أعد أذكر عبارتها بالتحديد لكنها كانت منادية بالتغيير وإسقاط النظام.
كان الوقت وقت قدوم الطلاب للجامعة وكان هناك طلاب من الجنسين يتعمدون المرور بجانبنا وهم ينعتونا بعبارات على نحو: هذولا مخربين يشتوا البلاد تتخرب سعما تونس.. كان المشهد عصيبًا تحاشاه كل الرفاق الذين كنت أناديهم للحلول مكاني ريثما أذهب لشراء الماء كوني مفذحًا بالقات الذي لا أتعاطاه بدون وجود ماء بحوزتي، تجاهلني الجميع وظلوا في حركة مستمرة على الرصيف المقابل الفاصل بين خطي العبور أمام بوابة الجامعة، وأتذكر أن أحد المصورين قدم لتصويرنا لكن لم أجد الى حد الآن صورة لذلك المشهد.
بعد أكثر من نصف ساعة تقريبًا قدمت توكل كرمان مصطحبة ميكرفون صغير ووقفت على مسافة قريبة منا وهي تردد الأبيات الأولى لأنشودة أبي القاسم الشابي الشهيرة: إذا الشعب يومًا أراد الحياة، حينها تجمع المتظاهرين وأطلقوا الهتافات مما سمح لي بالذهاب إلى البقالة لشراء الماء و لم أعد أتذكر من الذي حل بدلي في المشاركة برفع اللافتة، وعند رجوعي كانت المظاهرة قد بدأت بالتحرك صوب السفارة التونسية وبالفعل وصلنا الى هناك وتظاهرنا أمام السفارة وذهبت مجموعة لتسليم السفارة بيان المظاهرة وبقينا هناك إلى ما قبل الظهر ومن ثم تفرقنا.
في الأيام التالية كنت أذهب الى عملي والمظاهرات مستمرة، قوامها طلاب الجامعة ومن معهم من الناشطين وكنت أعود مساءً إلى الشقة التي كانت تمتلئ بالثوار من الاشتراكيين وعدد من الناصريين سواء الذين يسكنون معنا أو غيرهم وأتلقى أخبار المظاهرات أولًا بأول ويتم تجميع اللافتات المطبوعة وإعداد اللافتات التي كان يكتبها بخط اليد الرفيق الخطاط يوسف الأصبحي وأشارك في صياغة الشعارات والأفكار الثورية المقترحة، وظللت أتحين الفرصة للمشاركة في الفعاليات النوعية.
كانت ثاني فعالية أشارك فيها تاريخ 3فبراير حين دعت أحزاب اللقاء المشترك الجماهير اليمنية للإحتشاد في مختلف محافظات الجمهورية حيث تم الإحتشاد في أمانة العاصمة في أماكن مختلفة أبرزها الإحتشاد الكبير الذي شاركت فيه رأس شارع الحرية المقابل للجامعة الجديدة، ومنه انطلقت المظاهرة التي شاركت فيها أيضًا وصولًا إلى ميدان السبعين كأول وآخر مظاهرة ثورية وصلت إلى ذلك المكان قبل سقوط نظام صالح، في الليلة السابقة كان النظام قد خوف أصحاب المحلات التجارية ودعاهم إلى التسلح بالأسلحة النارية الشخصية للدفاع عن ممتلكاتهم تحت زعم حمايتها من النهب، وفي ذلك اليوم بالتحديد أسس النظام ساحة التحرير التي جمع فيها بلاطجته ومؤيديه.
ثالث فعالية شاركت فيها كانت ليلة الـ17 من فبراير حيث تجمعنا بعد العشاء أمام بوابة جامعة صنعاء تنديدًا بمقتل متظاهر في ساحة المنصورة بعدن (لقبه العوني تقريبًا)، وكانت ليلة عصيبة جدًا حيث حشد النظام عددًا كبيرًا من بلاطجته الذين توافدوا من ساحة التحرير ومن مناطق مختلفة من العاصمة ممتشقين العصي الغليظة والخناجر والمسدسات وحشرونا في زاوية ضيقة خلف معلم الجامعة، كنت أرفع لافتة صغيرة حمراء نوع بنر مكتوب عليها كلمة إرحل بالخط الأبيض العريض وقررت المغامرة والتوجه إلى واجهة المعلم أي المكان المحاذي تمامًا للحشود البلطجية وعلى رصيف المعلم المرتفع نسبيًا عن الخط الإسفلتي وقفت أمام حشودهم رافعًا اللافتة عاليًا وبعد قليل وقف إلى جانبي شابا آخر رافعًا نسخة أخرى من اللافتة وبدأ البلاطجة بقذف الأحجار تجاهنا والضغط أكثر على تجمعنا والتضييق وصولًا إلى هجومهم علينا بكل قوة و لم يتركوا لنا أي مجال للهروب سوى بالإنحشار بينهم و اتجهنا بين حشودهم القادمة من الشمال وأغلبنا فقد أحذيته وساعدنا الإنحشار بينهم على عدم قدرتهم فيما بعد على تمييز الأشخاص مما ممكننا من الخروج من بينهم بشكل فردي والعودة إلى مساكننا.
عدت حزينًا محبطًا للغاية تلك الليلة ولم يعود إليّ الأمل إلا في اليوم التالي حين سمعت بخروج تظاهرات ثورية عقب صلاة الجمعة، ومن الجدير بالذكر أن يوم السبت الذي أعقبه مباشرة حدثت فيه هزة ثورية إثر قيام البلاطجة بمطاردة الطلاب الثوار واعتدوا عليهم وسقط عدد من الجرحى أبرزهم الرفيق بسام الأكحلي، وفي اليوم التالي مباشرة أي يوم الأحد الموافق: الـ20 من فبراير تم تأسيس ساحة التغيير ـ صنعاء، وقد تلقيت الخبر المفرح جدًا حينها عند عودتي من العمل.
لم أتمالك نفسي واتجهت صوب الساحة، وقررت التوقف عن العمل والإستمرار بالاعتصام و الفعاليات الثورية بشكل دائم حتى أني لم أذهب إلى مقر العمل لأخذ عدة العمل التي فقدتها حيث كنت قبلها أنتوي الاحتفاظ بتلك العدة للذكرى حين اتوظف في مجال تخصصي (المحاسبة) كونها أي العدة مصدر رزقي الوحيد الذي تمكنت من خلال عملي بها من جمع مصاريف الدراسة الجامعية وما بعد الجامعة.
لم أشم هواء وأعيش أجواء غامرة بالحرية ومفعمة بالأمل كالأيام الأولى في الساحة، وحين كان يقدم البلاطجة أو جنود النظام على الإعتداء على الساحة كنت ودون شعور مني أتوجه مباشرة إلى الخطوط الأمامية للحشود الثورية حرصًا على الدفاع عن الساحة بما في ذلك يوم جمعة الكرامة حين توجهت أنا وأحد أبناء قريتي لجلب مطارق وأدوات لهدم ذلك الجدار المستحدث وعند وصولنا الى الحاجز المجاور للجدار وجدنا المفتشين قد انسحبوا من ذلك الحاجز ربما نتيجة توقعهم لحدوث هجوم وشيك حيث كان البلاطجة يعدون لذلك الهجوم البشع بشكل واضح طيلة الأسبوع، وعلى الفور قررنا القيام بمهمة التفتيش دون خوف مما سيحدث لنا تحسبًا منّا لأن يتسلل بلاطجة متسلحين بالمسدسات ويطلقون النار من بين المتظاهرين لإعطاء مبرر للبلاطجة.
من حسن الحظ أني لم أصب في كل المخاطرات الثورية والإعتداءات المسلحة التي تعرضنا لها سواء داخل الساحة أو في المظاهرات، وما أكثرها، عدى بقنبلة غازية وقعت ذات مرة على رأسي بشكل مباشر صبيحة السبت الموافق الـ11من مارس إثر هجوم عنيف نفذته قوات الأمن المركزي آنذاك على الساحة التي كانت قد توسعت يوم الجمعة المنصرم حتى بلغت الجدار الذي حدثت عنده مجزرة الكرامة يوم الجمعة نهاية ذاك الأسبوع الموافق:18مارس 2011م.
أثناء الثورة قمت بتأسيس حركة تمدين التي انضمت لإئتلاف شباب التحديث الذي كنت ضمن قيادته، ثم أسسنا ملتقى قوى الحداثة الذي كان مكونًا رئيسيًا من المكونات الثورية حيث تشكل من عدة ائتلافات من ضمنها ائتلاف شباب التحديث وكنت ضمن قيادة ملتقى الحداثة أيضا، شاركت بشكل نشط في تحرير صحيفة التحديث الأسبوعية التي كان يصدرها إئتلاف شباب التحديث وكان يرأس تحريرها الرفيق سام أبو أصبع.
في فترة ما حصل ائتلاف شباب التحديث ومن ثم ملتقى قوى الحداثة على حق إدارة برنامج المنصة يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع وكان يترأس فريقنا الإعلامي الرفيق محمد الأصبحي، و كنت أعد فقرات عدة من البرنامج لاسيما الفقرة الفنية الممتعة في ختام البرنامج، كما كنت أشارك بشكل بارز في إعداد الفعاليات الثقافية و التوعوية وغيرها من الفعاليات التي كان ينظمها ملتقى قوى الحداثة بما في ذلك إعداد اللافتات أثناء المشاركة في المسيرات والمظاهرات المختلفة.
في الذكرى الأولى للثورة قررت اللجنة التنظيمية لساحة التغيير ـ صنعاء إصدار صحيفة تحمل اسم 11فبراير، وتم اختياري لأكون ضمن طاقم التحرير إلى جانب الأخوة: محمد مغلس وعبدالخالق عمران (المختطف في زنازين الحوثي منذ يونيو 2015م هو ومخرج الصحيفة الأخ توفيق المنصوري وقد صدر بحقهما الى جانب إثنين آخرين حكم إعدام من قبل محكمة تابعة لمليشيا الحوثي الإرهابية) وحمدي الشرجبي (لم يشارك فعليًا)، كانت صحيفة تصدر بمناسبتي ذكرى الثورة وذكرى جمعة الكرامة ويتم طباعتها في المطابع المملوكة للدولة وبالتحديد مطابع صحيفتي الثورة أو 26سبتمبر الرسميتين، ومنذ التحضير لأول عدد لها تمكنت من فرض خطًا تحريريًا ثابتًا وواضحًا يتلخص في استبعاد كل ما من شأنه الخروج عن الخطاب الثوري والنزوع باتجاه الخطابات أو الأجندة الحزبية الضيقة، ورغم الخلافات الحادة التي كانت تحدث كل مرة بيني وبين الأخ عبدالخالق (فك الله أسره) لكننا كنا نتفق نهاية المطاف بفضل حجية الخط التحريري على الجميع.
كانت صحيفة رائعة تتكون من 8صفحات فحسب لكنها كانت تتضمن مادة صحفية تليق بمسمى الصحيفة كما لو أنها صحيفة رسمية بل كانت على وشك أن تغدو صحيفة رسمية بقرار من وزير إعلام حكومة الوفاق الوطني علي أحمد العمراني لولا الجائحة الحوثوفاشية التي وصلت حينها إلى عقر دار الدولة والتهمت كل شيء.
ختامًا أضيف أني كنت أيضًا ضمن المشاركين في مؤتمر حوار الشباب الذي انعقد في عموم المحافظات برعاية رسمية حكومية وتم تسليم مخرجاته للأخ رئيس الجمهورية من قبل أعضاء اللجنة التنفيذية لحوار الشباب كوثيقة معززة للحوار الوطني الذي كان حينها في أشده بين ممثلي مختلف المكونات و الفعاليات على الساحة الوطنية.
تلك أبرز ذكرياتي في ثورة الحادي عشر من فبراير المجيد التي أعتز كثيرًا بمشاركتي الفاعلة بها منذ لحظاتها الأولى وسأظل أفخر بذلك مدى عمري.