كتاب المواطن / سلامة كيلة
الماركسية والثورة
ربما يمكننا القول إن الماركسية تعيش أزمة إزاء الثورات التي شهدتها البلدان العربية، والتي يمكن أن تتوسع إلى كثير من بلدان العالم على ضوء الأزمة العميقة التي تعيشها الإمبريالية، فقد ظهر إن الماركسيين قد نسوا كل مفاهيم الثورة التي طرحتها الماركسية منذ عقود طويلة، وبعضهم بات يعتقد أن “التطور العالمي” قد فرض تجاوزها على ضوء الاستقرار الطويل الذي عاشته الرأسمالية، وأن “النضال السلمي” هو الخيار الوحيد الضروري لكي يتحقق التغيير، وأن الديمقراطية هي المدخل لكل تغيير يحقق مطالب العمال والفلاحين.
إذن، لقد جرى تجاهل الصراع الطبقي، وباتت المسألة تتعلق بـ”النضال الديمقراطي”، هذا ما حدث بالضبط للحركة الماركسية أوائل القرن العشرين، حين أصبحت تعتقد أن الصراع الطبقي أصبح يتخذ شكلًا جديدًا يتمثل في النضال المطلبي في إطار “النضال الديمقراطي” الذي أصبح ممكنًا بعد “المساومة التاريخية” التي أجرتها الرأسمالية مع الطبقة العاملة، والتي أفرزت الميل “النقابي” وأدت إلى انتصار الميل المطلبي، حيث بات ممكنًا للطبقة العاملة أن تُضرب من أجل تحسين الأجور، وباتت الرأسمالية مرنة إلى حدّ التنازل لها، هنا تحولّت الحركة الماركسية إلى حركة ديمقراطية اجتماعية (أو اشتراكية ديمقراطية كما جرى التعارف عليها).
وكان نشوء الأممية الثالثة هو الخطوة الضرورية لتجاوز هذا “الانحراف”، وبالتالي إعادة الحركة الماركسية إلى النضال، وتكريس مفهوم الثورة، كتاب لينين “الدولة والثورة” أتى في هذا السياق، ورغم أنه فهم عندنا ككتاب يؤكد دكتاتورية البروليتاريا فقط، فقد كان الهدف منه مواجهة ذاك التيار الذي انتشر في الحركة الماركسية، والذي اعتمد “النضال الديمقراطي” كطريق وحيد لنضال الطبقة العاملة، وللانتقال إلى الاشتراكية، لقد حدد الطابع الطبقي للدولة لكي يقول إن الطبقة المسيطرة لا تزول إلا عبر الثورة، وأن الصراع الطبقي هو صراع ثوري، وبالتالي ليس من الممكن وصول الطبقة العاملة إلى السلطة عبر “صناديق الاقتراع”، لكن الثورات هذه المرة نهضت في “الشرق”، حيث تحركت الصين، ومن ثم جنوب شرق آسيا (الهند الصينية).
مع انشغال الاتحاد السوفيتي في تطوره الداخلي، ومع الميل لربط الحركة الشيوعية العالمية بسياسة هذه الدولة، وبضبط تناقضات العالم بما يخدم تلك السياسة في صراعاتها العالمية، عاد الميل “الإصلاحي” لكي يفرض نفسه على هذه الحركة، لقد أصبح حسم التناقضات بالنسبة للحزب الشيوعي في كل بلدان العالم مرتبطًا بدور الاتحاد السوفيتي ضد الإمبريالية، انطلاقًا من سياسة عدم توتير الصراع العالمي بين الرأسمالية والاشتراكية خشية انجرار الاتحاد السوفيتي إلى حرب “سابقة لأوانها”، على العكس من ذلك بات مفروضًا على الحركة الشيوعية أن تنتظر اللحظة العالمية التي تفرض تصاعد التناقضات بين الرأسماليات لكي يتدخل الاتحاد السوفيتي لفرض الاشتراكية في البلدان التي يصل إليها (كما فعل في أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية).
هذا الوضع فرض أن تتمحور سياسة الحركة الشيوعية حول مستويين وإن كانا منفصلين في الممارسة، هما: النضال المطلبي دفاعًا عن “لقمة الشعب”، والنضال الديمقراطي من أجل “جمهورية ديمقراطية”، بالتالي جرى تقزيم الصراع الطبقي إلى نضال مطلبي، وجرى شطب حسم التناقض مع الرأسمالية والاستيلاء على السلطة لمصلحة “صناديق الاقتراع”، وهنا باتت الثورة التي يقودها الشيوعيون ليست في الحسبان، بل إن طرحها هو تعبير عن “نزق البرجوازية الصغيرة”، و”مرض اليسارية الطفولي (ومع الأسف فهذا هو عنوان كتاب للينين أصبح مجال استشهاد رغم أنه يناقش مسائل مختلفة).
بالتالي أصبحت الحركة الشيوعية حركة إصلاحية تمارس “النضال المطلبي”، وتخوض في “النضال الديمقراطي” دون أن تفكر في مستلزمات الصراع الطبقي الواقعي وكيف يمكن أن تنظم العمال والفلاحين الفقراء لكي يصبحوا هم السلطة، هذه السلطة التي بات التفكير في الاستيلاء عليها من المحرمات، والتعبير الأكيد عن “مرض الطفولة اليساري”.
الموجة التالية التي اتخذت من الصين وفيتنام، والثورة الطلابية في فرنسا مرجعية لها، والتي تسمت باليسار الجديد، لم تصمد طويلًا في ثوريتها، حتى غرت عن “نشاط طلابي” من جهة، وعن انتقال قومي إلى الماركسية بُعيد هزيمة حزيران، لقد كانت “صلبة” ضد “العدو الخارجي” لكنها سرعان ما تفككت في بعض البلدان، أو كانت إصلاحية في الوضع الداخلي، ومن ثم سار الكثير من كادرها نحو الليبرالية بشكل واضح، ملتقين مع كثير من كادرات الحركة الشيوعية الذين أصبحوا ليبراليين بُعيد انهيار الاتحاد السوفيتي.
هذا الوضع الليبرالي هو الذي هيمن على “اليسار” منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، فانقلبت ثورية اليسار الجديد (في الغالب) إلى إصلاحية مفرطة، وتلونت قطاعات من الشيوعيين بلون ليبرالي مفرط، هو مطابق لجوهر السياسة التي حكمتهم لعقود طويلة، وجاء هذا التحول (أو الانحدار) مع موجة العولمة التي انطلقت في بداية تسعينات القرن الماضي، وحملت “البشرى” بالحرية والديمقراطية إلى العالم، بعد أن كانت الحرية والديمقراطية قد انتصرتا في البلدان الاشتراكية، بما فيها الاتحاد السوفيتي، فانخرط هؤلاء في هذا المسار، الذي كان يوصل إلى إسقاط الموقف الطبقي من النغم الإمبريالية، وتغليب “النزعة الديمقراطية”، وبالتالي الانتقال إلى اعتبار هذه النظم “صديقة”، أو ليست معادية، فقد باتت الحرية والديمقراطية هي مفصل الصراع وليس الاستغلال الطبقي، أو حتى الاحتلال الوطني.
بالتالي بات مفهوم الثورة من الماضي ومن “التحجر الماركسي”، أو من “العنف الكامن في الماركسية”، أو نتاج الطابع الاستبدادي للماركسية، لقد أصبح مصطلح “ثورة” من المصطلحات “الشيطانية”، وبات كل من يتكلم عنها هو يساري طفولي، أو متطرف، أو مغامر، وأصلًا أصبح الميل هو للهروب من الماركسية كلها، صراحة أو عبر تمويهات لا تخفي الهدف منها.
في هذه الحالة حدثت الثورات في البلدان العربية، ولا شك في أنها أحدثت صدمة قوية لمنطق كان قد تشكل على أساس إصلاحي متين، وفي مفاجأة لم تكن متوقعة، أو يمكّن للمنطق الذي حكم كل هؤلاء أن يتوقعها، فقد أحل منطقه محل الواقع، و”فرض” أن تسير الأمور في سياق ديمقراطي، تطوري، “سلمي”، حتى مع الاحتلال، ولقد كان يرى أن العالم كان يسير نحو الوئام والسلام وانتصار الحرية والديمقراطية، وكانت الرأسمالية قد انتقلت إلى “مرحلة حضارية” أعلى تتجاوز كل “وحشية” الماضي، وتتسم بالتمدن والسلام، وتنغمس في دعم الحرية والديمقراطية ومساعدة الشعوب، فبات الكلام عن الصراع الطبقي تشويشًا، والحديث عن الثورة مؤامرة، وتلمّس مشكلات الشعب أمرًا لا معنى له.
كيف بالتالي يمكن لها أن تستوعب تحولًا بهذا الحجم؟
وإذا كانت القوى الماركسية، إلا القليل منها، قد رفضت أو انساقت خلف الشعب بعد أن تمرّد، فهي لم تستطع تجاوز منطقها القديم، ولم تفهم ما كانته، وبالتالي ما يجب أن تكونه، لهذا عادت في غالبيتها إصلاحية تريد الديمقراطية والحرية، وتتجاهل مطالب الشعب التي دفعته للثورة أصلًا، ومن الواضح أنها لم تفهم لماذا ثار الشعب، بل اعتقد بعضها أن الشعب قد فهم “مشروعها الديمقراطي” فنهض مطالبًا بالحرية والديمقراطية، ربما هذه نرجسية نخب، لكنها تعبّر عن السياق الذي أصبحت تسير فيه بعيدًا عن الشعب، ومحاولة الإفادة من ثورة الشعب للوصول إلى تحقيق مطلبها هي أي الديمقراطية، بغض النظر عن مطالب الشعب.
الماركسية ثورة، وهي مع الثورة كانت ولا زالت، لأنها تنطلق بالضبط من الصراع الطبقي، ومن فهم طبيعة الدولة وطابعها الطبقي، وأجهزة القهر التي تمتلكها للحفاظ على السلطة الطبقية والنمط الاقتصادي.
لهذا يجب أن تتأسس الماركسية الجديدة انطلاقًا من أن مهمة الماركسيين هي تغيير العالم بعد تفسيره، أو في الترابط بين الفعليين، وهذا يستلزم ثورة في الفكر تلاقي الثورة الشعبية القائمة، ثورة تؤسس لماركسية جديدة، ثورية وعلمية وواضحة الانحياز الطبقي.