المواطن/ كتابات ـ عيبان محمد السامعي
أولاً: خلفية تاريخية:
جاء الاستقلال المجيد في 30 نوفمبر 1967م تتويجاً لمسار نضالي وطني طويل وشاق خاضه أبناء الشعب اليمني ضد المستعمر البريطاني.
لم يخضع شعبنا ولم يستكن في أيّ وقت من الأوقات, بل قاوم ببسالة الاحتلال البريطاني منذ أول وهلة.
وعلى الرغم من ذلك أوجدت إدارة الاحتلال البريطاني أعواناً من بني جلدتنا قدموا لها التسهيلات والمساعدات في بسط السيطرة الاستعمارية على جنوب اليمن ونهب ثرواته واستغلال مقدراته وتوظيف الموقع الجغرافي والممر المائي الهام الذي تطل عليه عدن وعموم الجنوب لصالح الشركات البريطانية والمصالح الأجنبية.
وقد حرص المستعمر البريطاني على تأمين الخط المائي الواصل بين عدن والهند لانتقال وتدفق البضائع والمواد الأولية من الهند إلى العالم الغربي والعكس. وقد تحقق له ذلك بعد أن عقد عدة معاهدات مع بعض السلاطين في الجنوب, حيث تم توقيع أول معاهدة عام 1802م بين ممثل بريطانيا العظمى والعبدلي سلطان لحج الذي كان يقع ميناء عدن تحت سيطرته.
وبموجب هذه الاتفاقية أُعلن عن مرفأ عدن ميناءً حراً لدخول البضائع البريطانية والسماح لشركة الهند الشرقية (البريطانية) بإقامة سوق تجاري في ميناء عدن. الأمر الذي مثّل الخطوة الأولى نحو الوجود الاستعماري في جنوب اليمن.
وأعقب هذه الخطوة بسنوات اتخاذ الحكومة البريطانية قراراً بإرسال قوة عسكرية بحرية من بومباي الهندية للاستيلاء على ميناء عدن لمزيد من تأمين الممر المائي.
وفعلاً تمكنت تلك القوة العسكرية بقيادة الكابتن (هينس Hins) من السيطرة على الميناء واحتلال مدينة عدن في 19 يناير 1839م بعد معركة غير متكافئة بين قوات الإمبراطورية البريطانية وعناصر المقاومة الوطنية.
لقد كانت الدوافع وراء احتلال بريطانيا لعدن ولمينائها تتمثل في الآتي:
1- رغبة بريطانيا في امتلاك محطة تموين لسفنها وجعلها حلقة وصل هامة مع مستعمراتها في جنوب شرقي آسيا وغيرها من المستعمرات في مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط.
2- خوف بريطانيا من أن يقع ميناء عدن في يد محمد علي باشا.
3- موقع ميناء عدن الهام وصلاحيته لأنْ يكون مخزناً عاماً للفحم طوال السنة ولأنْ يكون ملتقىً عاماً للسفن المارة عبر طريق البحر الأحمر.
4- إنّ موقع عدن الاستراتيجي قد أهلّها لأنْ تكون قاعدة عسكرية كبيرة تمكّنت بريطانيا بفضلها من الاستفادة من تجارة الخليج العربي والبحر الأحمر والساحل المصري المحاذي والغني بمنتجاته وحماية ذلك.
5- حاجة بريطانيا الاستعمارية الماسة لعدن كقاعدة لمواجهة قوى الامبراطوريات الاستعمارية المنافسة لها.
عقب السيطرة على عدن أرغمت بريطانيا سلطان لحج على توقيع معاهدة حماية في 18 يونيو 1839م.
تضمنت تلك المعاهدة التزام السلطان العبدلي والقبائل الموالية له بعدم التعرض للمصالح البريطانية وتأمين طرق النقل والمواصلات في المناطق الخاضعة لسيطرته مقابل أن تقدّم له بريطانيا مساعدة مالية سنوية, وسرعان ما عُممّت هذه المعاهدة مع بقية السلطنات والمشيخات القبلية في الجنوب اليمني.
إلا أن هذه المعاهدات لم تمنع في واقع الحال من استمرار مقاومة القبائل للوجود البريطاني, وقد اتسمت هذه الانتفاضات بالطابع العفوي غير المنظم والنزعة القبلية التي لم تسمح بوجود رابطة وطنية مشتركة تجمع كل القبائل والمناطق في مسار واحد, مما أدى ببريطانيا إلى الاستفادة من هذا التمزق وسحق تلك الانتفاضات وبكل وحشية. إضافة إلى اعتمادها سياسة (فرّق تسد) المعروفة والتي مكّنت الاستعمار البريطاني من الاستمرار ردحاً طويلاً من الزمن (قرابة 128 عاماً.(
أما في عدن, فقد بدأت أشكال المقاومة السلمية للاحتلال البريطاني في النشوء وبشكل جنيني مع ثلاثينيات القرن العشرين, من خلال تنفيذ الإضرابات العمالية والمظاهرات النسوية والطلابية, ثم تعمقت في الخمسينيات من القرن نفسه.
لقد عمل الاحتلال البريطاني على تقسيم الجنوب إلى عدة محميات وعلى النحو الآتي:
1- المحميات الغربية, التي تضم: إمارة بيحان, وسلطنة العوالق العليا, وسلطنة العوالق السفلى, وسلطنة العوذلي, وسلطنة الفضلي, واتحاد دثينة, وسلطنة يافع العليا, وسلطنة يافع السفلى, وسلطنة لحج, ومشيخة العقربي, ومشيخة العلوي, ومشيخة الحواشبي, وإمارة الضالع, ومشيخة شعيب, ومشيخة مفلحي, ومشيخة ردفان.
2- المحميات الشرقية: سلطنة القعيطي (في الشحر والمكلا) وسلطنة الكثيري(في سيئون), وسلطنة الواحدي (في بئر علي) وسلطنة المهرة, وغيرها.
3- مستعمرة عدن: التي حظيت باهتمام كبير من قِبل الاستعمار البريطاني, نظراً لأهميتها الاستراتيجية وموقعها المطل على الممر المائي.
وبفعل ذلك فقد تحولت عدن إلى مركز اقتصادي وإداري وتجاري وفد إليها المهاجرون من مختلف البلدان والأصقاع الخاضعة للسيطرة الاستعمارية البريطانية. الأمر الذي انعكس لاحقاً على التركيب الديمغرافي والاجتماعي والبنية الثقافية لعدن.
ومع تغيُّر الظروف المحيطة وصعود حركة التحرر الوطني في العالم العربي في مستهل الخمسينيات من القرن العشرين, فقد أدركت بريطانيا انعدام الجدوى في الاستمرار في شكل الاستعمار السافر وشكل معاهدات الحماية بشروطها السابقة, لذا لجأت إلى ابتداع أسلوب مختلف يغلّف احتلالها وذلك بتشكيل اتحاد يضم السلطنات والوحدات السياسية في المحميات وحكومة ائتلافية تتكون من السلاطين والمشايخ مع الاحتفاظ بجوهر التجزئة وتأمين مصالح الاستعمار.
وفي فبراير 1959م أُعلن عن قيام (اتحاد إمارات الجنوب العربي) وهو اتحاد كونفدرالي ضم سلطنات ومشيخات المحميات الشرقية والغربية, وقد تغير الاسم فيما بعد إلى (اتحاد الجنوب العربي) وذلك بانضمام عدن إلى الاتحاد.
هدفت بريطانيا من وراء إقامة الاتحاد الإبقاء على وجودها في الجنوب اليمني وفي عدن على وجه خاص, ولمواجهة الاعباء والالتزامات العسكرية التي تواجه بريطانيا على الصعيد الدولي, خصوصاً بعد خروجها من مصر والعراق وغيرها من البلدان.
كما هدفت إلى مواجهة الحركة الوطنية التحررية المناوئة للاستعمار ومحاصرتها وذلك بتوحيد السلاطين وممثلي الإقطاع والرجعية الموالين لها في سلطة سياسية ائتلافية موحدة.
وقد قوبلت هذه الخطوة بمعارضة شديدة من مختلف القوى التحررية والوطنية والنقابات العمالية.
وفي الحقيقة فإن هذا الاتحاد قد ولد ميتاً, فقد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه وخاصة إقناع الجماهير بكونه حاملاً سياسياً يعبر عن مصالحها وانكشفت حقيقته باعتباره واجهة ديكورية يحرّكها المحتل البريطاني.
ثانياً: تطور أشكال النضال الوطني ضد المستعمر البريطاني:
مع بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين بدأ الكفاح ضد المستعمر البريطاني يتخذ أشكالاً تنظيمية سياسية ذات قاعدة شعبية عريضة, ويعد حزب رابطة الجنوب العربي أولى هذه الأشكال. ومن أبرز مؤسسي هذا الحزب: محمد علي الجفري وشيخان عبدالله الحبشي وقحطان الشعبي وعبدالله باذيب وغيرهم.
وكان الحزب أشبه بائتلاف سياسي ضم مختلف الفئات الاجتماعية والتوجهات الفكرية, فقد ضم العناصر الشابة والمثقفة والنقابية وبعض السلاطين والمشايخ الساخطين من الاستعمار. وقد تمثلت أهداف الحزب بمواجهة الاستعمار سياسياً وفضح العناصر الموالية له, ومواجهة المشاريع الانفصالية مثل مشروع (الجمعية العدنية) التي رفعت بشعار (عدن للعدنيين), والدعوة إلى وحدة الجنوب.
وعلى الرغم من الدور الريادي للرابطة في مقارعة الاستعمار, إلا أنه ما لبث أن خفت نجمها بسبب مواقفها الغامضة تجاه الوحدة اليمنية, فضلاً عن انعدام توفر الانسجام الفكري والطبقي في بنيتها الداخلية.
وبذلك بدأت الانشقاقات تدب داخل الرابطة, فقد انشق عنها العديد من العناصر المؤثرة, مُشكّلين الجبهة الوطنية المتحدة التي مثلت تجمعاً وطنياً ضم عدداً من الجمعيات الثقافية ذات الطابع الوطني, كما ضمّت الاتحاد اليمني وعناصر من اليمنيين الأحرار المعارضين لنظام الإمامة في شمال اليمن.
وقد انبثقت عن الجبهة المتحدة أول تنظيم نقابي في اليمن في عام 1956م, هو اتحاد نقابات عمال عدن الذي جمع النقابات العمالية الست الأولى, ثم تطور ذلك بتشكيل المؤتمر العمالي بزعامة عبدالله الأصنج وانضوى في إطاره 32 نقابة عمالية. وقد تركز نضال المؤتمر العمالي على النضال المطلبي والدفاع عن حقوق العمال والمطالبة برفع الأجور وتحسين ظروف العمل وحرية تكوين النقابات والنشاط النقابي. كما كان له دور مشهود في النضال السياسي والطبقي بتبني مواقف اشتراكية مطلبية ومناهضة الاستعمار والاتحاد الكونفدرالي المزيف وممثلي الإقطاع السلاطيني, كما أكد على وحدة اليمن ووحدة شعبها في الشمال والجنوب وإيمانه بالوحدة العربية الشاملة.
إلا أن اقتصار المؤتمر العمالي على الوسائل المطلبية والسلمية في مناهضة الاستعمار وأعوانه والمراهنة على العلاقات التي تربطه بحزب العمال البريطاني قد أوجدت حالة من الخلافات العميقة في أوساطه, وبدأت الكفة ترجح لصالح التيارات اليسارية التقدمية التي بات تأثيرها على النقابات يتنامى بصورة غير متوقعة.
وخوفاً من انفلات زمام الأمور من يدها, عمدت قيادة المؤتمر العمالي إلى تأسيس حزب تحت اسم (حزب الشعب الاشتراكي) الذي مزج بين الأفكار الناصرية والبعثية وحزب العمال البريطاني في آن واحد.
وبسبب مراهنة الحزب على علاقته بحزب العمال البريطاني وموقفه السلبي من الكفاح المسلح الذي تبنته الجبهة القومية فقد أدى هذا إلى ضمور الحزب وتلاشيه. ولم تفلح محاولاته اللاحقة من تصحيح موقفه تجاه الكفاح المسلح بتشكيل جبهة التحرير فقد ظل تأثير جبهة التحرير محدوداً.
وفي مقابل ذلك بدأ نجم الجبهة القومية بزعامة قحطان الشعبي وعبدالفتاح اسماعيل بالبروز, وقد ساعدها على ذلك موقفها المبدئي بتبني الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني وتحقيق الاستقلال والوحدة اليمنية.
واستندت الجبهة القومية على المناطق الريفية بدرجة رئيسية, حيث شكلت تلك المناطق قاعدة إمداد بشري وكفاحي ضخم, مكّنت الجبهة القومية من إنزال ضربات موجعة للمحتل حتى أرغمته على الرحيل في 30 نوفمبر 1967م.
بموازاة ذلك كان لاتحاد الشعب الديمقراطي بزعامة المناضل والمفكر البارز عبدالله عبدالله باذيب دوراً مميزاً في الكفاح الوطني ضد المستعمر البريطاني, واتحاد الشعب هو أول تنظيم سياسي يتبنى أفكار الاشتراكية العلمية في الجزيرة العربية.
وقد تميّز اتحاد الشعب بتقديم تصورات ورؤى سياسية ناضجة لمختلف القضايا الوطنية والاجتماعية ولطبيعة الثورة ومهامها. وقد جمعت اتحاد الشعب بالجبهة القومية علاقة وطيدة قادت إلى تحالف وثيق.
وكان للحركة النسوية إسهام مشهود في حركة التحرر من الاستعمار, فقد سجل التاريخ بأحرف من نور دور المناضلات الماجدات من أمثال: عائدة سعيد, ورضية شميشر, وزهرة هبة الله, ونجوى مكاوي, ودعرة, وغيرهن.
ثالثاً: الاستقلال الناجز وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية:
يتضح مما سبق أن تحقيق الاستقلال الوطني لم يكن محض صدفة, ولم يحدث فجأة, أو كان بناءً على قرار ذاتي من الاستعمار. بل كان محصلة تراكمية لمسار نضالي طويل وشاق خاض غماره شعبنا على مدى عقود من الزمن وقدم فيه التضحيات الجسيمة واعتمد الأشكال النضالية المختلفة: الأساليب السلمية والكفاح المسلح.
وقد شكّل اندلاع شرارة ثورة 14 أكتوبر عام 1963م والتي انطلقت من جبال ردفان إنعطافة هامة في مسيرة حرب التحرير الشعبية, فقد التقطت الجبهة القومية هذا الحدث التاريخي لإعلان الكفاح المسلح, مستفيدةً من نضوج الشروط الذاتية والموضوعية حينها. فقد قامت ثورة 26 سبتمبر في الشمال اليمني ضد حكم الإمامة, وتزايد السخط في أوساط أبناء القبائل في ردفان والمناطق المجاورة لها, لاسيما بعد أن مارس البريطانيون ضغوطاً على أبناء ردفان العائدين من شمال اليمن والذين كانوا قد شاركوا في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر بغية تسليم أسلحتهم وهو الأمر الذي رفضه أبناء ردفان وبشكل حاسم, ما أدى بهم إلى خوض مواجهة مسلحة غير متكافئة مع المستعمر في 14 أكتوبر 1963م, واستشهد على إثرها القائد الوطني راجح غالب لبوزة رحمه الله.
لقد أدى هذا الحدث الثوري الهام إلى تنامي وتيرة الكفاح المسلح واستطاعت الجبهة القومية من إسقاط مناطق كثيرة وبشكل متوالي, ومن تلك المناطق: كريتر, والضالع, وشعيب, والمفلحي, ولحج, والعواذل, وزنجبار, ويافع, والعوالق, وبيحان, وحريب, والمهرة, وغيرها. وقد لجأت الجبهة في فرض سيطرتها على تلك المناطق بالالتحام بالجماهير وإشراك أبناء تلك المناطق من خلال تشكيل لجان شعبية, مدنية وعسكرية, تتولى القيام بحفظ الأمن والنظام وإدارة المناطق بشكل ديمقراطي يكفل مشاركة أوسع للجماهير. الأمر الذي عزز من حضور الجبهة القومية في أوساط الشعب وبالتالي انحسار تأثير البنى السلاطينية والمشيخية والرجعية الموالية للاستعمار البريطاني.
لقد أصبحت الجبهة القومية وبجدارة الممثل الحقيقي للشعب في الجنوب, وهو ما عزز من موقفها وأرغمت المستعمر على الدخول في مفاوضات ندية حول الجلاء من الجنوب.
وتشكّل الوفد المفاوض عن الجبهة القومية من: قحطان الشعبي وعبد الفتاح اسماعيل وفيصل عبد اللطيف وسيف الضالعي ومحمد أحمد البيشي.
وجرت المفاوضات في مدينة جنيف وأسفرت عن خروج آخر جندي بريطاني من الجنوب اليمني وإعلان الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م, وقيام الجمهورية الجنوبية اليمنية الشعبية, التي تغير اسمها لاحقاً إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية واستلام الجبهة القومية بزعامة قحطان الشعبي مقاليد الحكم.
وقد شهدت الدولة الجنوبية التي امتد عمرها 23 عاماً فقط (منذ الاستقلال في 67م وحتى قيام الوحدة اليمنية1990م) الكثير من التحولات وحققت العديد من المنجزات على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبنى المؤسسية.
ومما يحسب لتجربة الدولة الجنوبية أنها أرست مداميك دولة النظام والقانون وحققت العدالة الاجتماعية عبر التشريعات القانونية واتخذت جملة من الاجراءات الاقتصادية التي هدفت إلى توزيع الثروة الاجتماعية بين جماهير الشعب وفق التعاليم الاشتراكية, وكفلت للفئات الضعيفة والمهمشة الرعاية الاجتماعية ومكّنت المرأة من تبوأ مواقع متقدمة على صعيد الدولة والمجتمع, وقضت على الرواسب السلبية في المجتمع اليمني كظاهرة الثأر والأمية والتخلف, وحطمت أسس نظام الاستغلال الإقطاعي والكمبرادوري والتصورات الظلامية, وتم إحلال قيم جديدة مثل: المشاركة الشعبية والمساواة أمام القانون والانتماء الوطني والاندماج الاجتماعي والعقلانية واحترام قيمة العمل والإنتاج والتقدم الاجتماعي.
أما أهم المآخذ على التجربة, فهي: المغالاة في اجراءات التأميم والشمولية وفرض النمط الواحد وتغييب الحريات العامة والانزلاق في دورات الصراعات البينية.
إجمالاً يمكن القول: إن التجربة الاشتراكية في الجنوب اليمني هي ككل التجارب التقدمية في العالم العربي والعالم الثالث, لها ما لها وعليها ما عليها, ومحكومة بشروط الزمان والمكان, وهي في محل نقد تاريخي.
وعموماً فقد قام الحزب الاشتراكي اليمني بمراجعة نقدية جادة وجريئة للتجربة وفي وقت مبكر, حيث أصدرت اللجنة المركزية للحزب (الوثيقة النقدية التحليلية عام 1987م) التي تضمنت تحليلاً نقدياً موضوعياً لمسار الدولة في الجنوب منذ فجر الاستقلال وحتى منتصف الثمانينيات.
رابعاً: النظام السابق وتدمير مكتسبات نوفمبر المجيد:
بنى نظام المخلوع صالح سياساته ومنذ الوهلة الأولى على أساس التبعية والاندماج في إطار الاستراتيجية الرأسمالية كنقيض لمصلحة الشعب اليمني والسيادة الوطنية.
لقد أفضت هذه السياسة التبعية إلى تدمير الاقتصاد الوطني وتجريف الإنجازات الاجتماعية التي تحققت بفعل توجهات ومضامين النظام التقدمي في الجنوب والحركة التعاونية في الشمال.
ولقد اتضح ملامح ذلك التدمير أكثر ما يتضح في مستوى معيشة المواطنين حيث اتسع الفقر وتفاقمت البطالة وازداد التضخم وتصاعدت نسب الأمية والهشاشة الاجتماعية إلى مستويات كارثية.
كما تم خصخصة القطاع العام وبيع مؤسساته بأثمان زهيدة في سياق سياسات الانفتاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي استجابة لروشتات صندوق النقد والبنك الدوليين.
ناهيك عن ممارسة سياسة الفيد والنهب لموارد الدولة. وبناء شبكة مصالح انتفاعية تضم طابور من المحاسيب والازلام وتكوين طبقة طفيلية مافياوية مكونة من: القيادات العليا في الدولة (عسكرية وإدارية)، وقيادات في الحزب الحاكم، ومراكز مشائخية نافذة تشابكت مصالحها مع الرموز التجارية الكومبرادورية.
وكان من نتائج ذلك إفلاس الطبقة البرجوازية الوطنية وسيطرة طبقة طفيلية على الأنشطة الاقتصادية التي تركزت في: قطاع التوكيلات التجارية والقطاع الخدمي والاستثمار في القطاع النقدي والقطاع العقاري ما وسم الاقتصاد بوسم الاقتصاد المافيوزي أي ذلك الاقتصاد القائم على المضاربات وتدوير الأموال والربح السريع.
تضافر ذلك مع الاعتماد شبه الكلي على الاستثمار الأجنبي في قطاع النفط والغاز، وما يشوب هذا الاستثمار من صفقات مشبوهة فاسدة أبرمها نظام المخلوع مع الشركات الأجنبية.
كل ذلك قد أدى إلى تمركز الثروة في يد أقلية مافياوية لا تتجاوز نسبة 5% من مجموع السكان، فيما الأغلبية الساحقة تعيش في حالة فقر وحرمان وتهميش.
لقد قادت هذه الأوضاع الكارثية إلى تفجر الثورة الشعبية في 11 فبراير 2011م في وجه النظام وعبّر فيها الشعب عن تطلعاته المشروعة في العيش الكريم وبناء نظام وطني ديمقراطي عادل. ولا يزال مسار الثورة قائما وإن مر بمراحل مخاضات وانتكاسات قد تثير الإحباط في نفوس البعض، إلا أن ذلك لا يعد نهاية المطاف، فلا يزال الأفق واعداً ولا يزال الشعب فاعلاً سياسياً.
خامساً: نوفمبر حاضراً:
تأتي ذكرى تحقيق الاستقلال الوطني والوطن اليمني يمر بظروف قاسية, فما تزال سلطة الانقلاب تجثم على عدة محافظات في البلاد بما فيها العاصمة صنعاء, وتوشك الحرب على طي عامها الرابع متسببة في أسوأ أزمة إنسانية على مستوى العالم بحسب الأمم المتحدة..
يضاف إلى ذلك تحوّل اليمن إلى ساحة مفتوحة لصراع الأجندة الاقليمية والدولية لكلٍ من: إيران, والسعودية, والإمارات, وأمريكا, وبريطانيا, وفرنسا, وروسيا, وقطر, وتركيا, وعُمان, وغيرها, مما أفقد البلد السيطرة على مواردها وعلى أرضها وعلى قرارها الوطني.
إن المهمة الملحة التي تنتصب – اليوم – أمام الوطنيين هي استلهام الـ30 من نوفمبر , وإعادة طرح مسألة السيادة الوطنية على جدول الأعمال بأسس تستوعب الشروط الجديدة للعصر وبما يعيد زمام المبادرة للشعب, وتغليب منطق “الاعتماد على النفس” على منطق الارتهان والاتكال على الخارج في حل أزماتنا.
________________________
استفاد الكاتب في إعداد هذه المادة من المراجع الآتية:
1- د. أحمد عطية المصري, النجم الأحمر فوق اليمن.. تجربة الثورة في اليمن الديمقراطي, مؤسسة الأبحاث العربية, لبنان, ط3/1988م.
2- سعيد أحمد الجناحي, الحركة الوطنية اليمنية من الثورة إلى الوحدة, مركز الأمل للنشر, عدن, ط1/ 1992م.
3- د. سلطان عبدالعزيز المعمري, مساهمات ورؤى في بعض قضايا التاريخ اليمني.. دراسات تحليلية تقويمية, ط1/ 1998م.
4- عيبان محمد السامعي, سؤال السيادة الوطنية في السياق اليمني الراهن.. دراسة تحليلية نقدية, الحرف 28, ديسمبر 2018م.