المواطن/ كتابات ـ فهمي محمد
كانت ثورة سبتمبر تمر في ظروف صعبه ومعقدة للغاية لاسيما وأن أعضاء القيادة في تنظيم الضباط الأحرار الذين صاغوا اهداف الثورة وكانوا منسجمين سياسياً مع مشروعها الثوري، تخلوا عن قيادة سلطتها وتوزعوا في الجبهات بهدف مواجهة القوات الملكية التي عملت على ترتيب صفوفها وبدت قادرة على شن هجومها المضاد ، ناهيك عن كونهم كانوا في الأصل ضباط صغار في السن { كلهم برتبة ملازم حدثين التخرج ومثاليين سياسياً } لذلك اتفقوا على أن تسلم رئاسة الجمهورية إلى أحد الضباط الكبار ، ربما كانوا محتاجين لعامل الخبرة السياسية في التعاطي مع الحدث الثوري الكبير الذي كانوا يعدون له ، أو كانت هذه نقطة ضعفهم ، وعندما اقتربت ساعة الصفر اختاروا من بين اثنين ضباط كبار كانت أسمائهم مطروحه للنقاش المشير عبد الله السلال الذي لم يكن عضو في تنظيم الضباط الأحرار وانما تم إبلاغه بالحدث الثوري قبل ساعات من وقوعه ، وقد تم نقله بواسطة أحد الدبابات .
تسلم المشير السلال رئاسة الجمهورية وقيادة الثورة بشخصه وفي المقابل اختفى تنظيم الضباط الأحرار ودوره من المشهد السياسي في وقت كان يجب أن يتحول هذا التنظيم إلى قائد لمسار الثورة ، والجمهورية ، فضلاً عن استشهاد الملازم على عبد المغني الرجل الأول في قيادة التنظيم ، ما يعني في النتيجة أن الثورة لم تفقد حاملها السياسي فقط ، بل أصبحت الجمهورية مجرد سلطة قابلة للانقسام بين فرقائها بفعل الإحتشاد الثوري غير المتجانس للقوى المنضمة في صف الثورة ( وهي قوى أقل ما يقال عليها أنها لا تؤمن بفكرة الدولة أو بمشروع التغيير السياسي والإجتماعي ) وأكثر من ذلك أصبحت الجمهورية كفكرة سياسية وسلطة حاكمة مهددة بالانقلاب عليها ، لأنها أي الجمهورية افتقدت لمسألة التنظيم السياسي القادر على حشد طاقات المجتمع والقوى المؤمنة بمشروع التغيير في شمال اليمن .
مثل حادث الإنقلاب على الرئيس عبد الله السلال في 5 نوفمبر 1967م ، نتيجة طبيعية لِكون القوى التي احتشدت في الثورة وأصبحت لاعبه في معركتها السياسية ، عملت منذ البداية على تحويل الثورة والجمهورية إلى مجرد سلطة حاكمة “بدون مشروع ثوري” على أنقاض سلطة إمام السلالة السياسية ، ليسهل بعد ذلك الإنقلاب على رئيس السلطة في الوقت المناسب ، وهذه المألات لم تحدث في ثورة 14 أكتوبر 1963م في جنوب اليمن
فالثورة خاضت معركة التحرير ضد المستعمر البريطاني ، ومعركة الوحدة السياسية والهوية الوطنية الجامعة لليمنين ضد حكام السلطنات والمشيخيات بحامل سياسي عسكري ( الجبهة القومية ) التي أصبحت في الواقع قادرة على حشد القوى الوطنية حول مشروع الثورة ، ثم تحولت في ظل سلطة الثورة إلى تنظيم سياسي “حزبي” يقود عملية التغيير في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وفي كلا الحالتين لم يسمح هذا التنظيم السياسي على امتداد مسار الثورة لمثل هذا الاحتشاد غير المؤمن بمشروعها ، كما حدت في شمال اليمن.
وبغض النظر عن ما سوف يقال في نقد تجربة الثورة في الجنوب لاسيما بعد الاستقلال ، فالواقع يقول إن هناك ما يستدعي النقد والنقد ، إلا أن كل الإيجابيات التي تحققت وهي منجزات تاريخية بلا شك تعود في الأصل إلى حقيقة أن الثورة في الجنوب لم تفقد حاملها السياسي ولم تتخلى عنه بعد خروج المستعمر البريطاني ، كما أن الجمهورية كحقيقة سياسية ظلت بعد الثورة محمية بتنظيم سياسي لم يحمي سلطتها من الإنقلاب على مشروع الجمهورية فحسب ، بل حول السلطة في الجنوب إلى دولة النظام والقانون باعتراف خصومها ،
فالسطة في الجنوب لم تشخصن ولم يستطيع الرجل الأول فيها أن يختزل السلطة والتنظيم السياسي الحاكم فيها بشخصه وأسرته ، كما حدث في عموم التجربة العربية بعد الاستقلال ، بل على العكس من ذلك ظلت السلطة تمارس بفعل جماعي من خلال تنظيم سياسي حاكم ، وكثيراً ما أقدم هذا الأخير على إقالة الرجل الأول في قيادته وفي قيادة الدولة ، وهذا بحد ذاته كان يشكل نموذج استثنائي من بين جميع الأحزاب الحاكمة في الوطن العربي ، هذه المعطيات وغيرها تجعلني اصف ثورة سبتمبر بالحدث السياسي الكبير وأصف ثورة أكتوبر بالحديث التاريخي وفي هذا القول تفاصيل ومقارنات أهمها أن الثورة في الشمال نقلت السلطة من السلالة السياسية إلى القبيلة السياسية داخل المكون الزيدي، بحيث تولت القبيلة السياسية تصفية النظام الجمهوري في شمال اليمن،
فكيف حدث ذلك ؟ .