المواطن / كتابات _فهمي محمد
منذ سقوط النظام الماركسي الحاكم فيما كان يعرف قبل ثلاثة عقود بدولة الإتحاد السوفيتي؛ لم يتشكل قط في فضاء النفوذ الإمريكي الذي بدا مفتوحًا على مصراعيه ، أي وجود لدولة ممانعة أو لمشروع سياسي معادي ومسلح عابر للحدود في منطقة الشرق الأوسط، كما شكلته إيران الدولة والمشروع السياسي الذي انتشر وتموضع بشكل متسارع ومخيف أكثر من اللازم على مساحة الجيوب المذهبية اللاوطنية خارج فضاء الدولة القومية في إيران وعلى وجه التحديد في الجغرافية العربية ، التي أصبحت تشكل اليوم شبه حزام شيعي مسلح يتلقى الأوامر من طهران ، ويطوق أنظمة دول “البترودولار” المتحالفة تأريخياً واستراتيجيًا مع الإداراة الإمريكية المتعاقبة في منطقة الخليج العربي ،
وهذا بحد ذاته يعد تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية لم يكن متوقع في حسبان ساساتها ولم يحدث من قبل بهذا الإنكشاف المعلن في معادلة صراع الشرق الأوسط ( وبشكل قادر على خلط الأوراق في وجه نفوذ الدولة العظمى ) حتى في زمن الصراع الحاد بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية = { الصراع الإيديولوجي القطبي } الذي كان يتسلح يومها بثلاثين ألف رأس نووي !
لكنه يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط من قبل دولة إيران وعبر أذرعها دون أن تملك في حوزتها رأس نووي واحد يمكن التلويح به ( كل ما تملكة هو توظيف للجيوب العربية المذهبية التي سوف تتحول الى مخالب قط في ساعة الصفر ) ، ناهيك عن بنائها لتحالفات سياسية يمنح الحليف مع طهران الموقف السياسي والدعم العسكري الخالي من الإبتزاز في وقت يتعرض فيها حُلفاء الأمريكان إلى الكثير من الإبتزاز والتحقير من قبل الإدارة الأمريكية التي يقف على رأسها اليوم رئيس أتى من عالم التجارة والأعمال وليس من عالم السياسة !
مشكلة إيران مع أمريكا العظمى؛ لا تكمن بكون خطرها أصبح يتمثل في امتلاكها ترسانه نووية كما هو الحال مع كوريا الشمالية ، أو أنها تملك مشروع اقتصادي ناجح ومنافس ، يضاف إلى خطر ترسانتها النووية كما هو الحال مع الصين على سبيل المثال ، بقدر ما تكمن مشكلتها في قدرتها وجراءتها اللامحدودة على خلق أذرع مضافة إلى قوة الدولة في إيران من خارج فضائها الجغرافي والقومي ، بمعنى آخر في مشروعها السياسي والمسلح الزاحف في منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه التحديد في المنطقة العربية ذات الجيوب المذهبية اللاوطنية والتي تمتد من العراق إلى سوريا ولبنان ثم اليمن مؤخراً، كل ذلك حدث وتشكل في ظل عجز تام على إحتواء هذا الزحف المكثف للمشروع الإيراني المسلح في منطقة ( جيوسياسية ) لا تعرف تأريخياً (المساحات السياسية والجغرافية الخالية من النفوذ الإقليمي والدولي)، فكل موضع قدم يسيطر عليه طرف من الأطراف المتصارعة في المنطقة؛ يكون بالضرورة على حساب قوة الآخر ونفوذه السياسي والعسكري، ناهيك عن نجاح النظام الإيراني في بناء تحالفات دولية متينة، وعلى وجه التحديد مع الدب الروسي العائد إلى مسرح المنافسة القطبية عالمياً بقيادة فلاديمير بوتين، وحتى مع الصين ،
مايعني في النتيجة أن تضخم القوة المضافة (المجال الحيوي المسلح لإيران) أصبح يتعاظم يوماً بعد آخر في المنطقة الحساسة على حساب المصالح الأمريكية، بل على حساب الأمن القومي لجل الدول النفطية المتحالفة مع أمريكا تأريخياً واستراتيجيًا، بمعنى آخر وبمنطق كرة القدم نستطيع القول أن إيران تفوز وتحصد النقاط خارج أرضها وجمهورها وهذا ما أدركته أمريكا بوقت متآخر.
من هنا تأتي أهمية القضاء على شخص بحجم قاسم سليماني رجل القيمة المضافة للقوة والنفوذ الإقليمي لدى إيران ومهندس المشروع السياسي الإيراني المسلح والزاحف في منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه التحديد على الجيوب المذهبية اللاوطنية داخل الجغرافية العربية هذا من جهة أولى ، ومن جهة ثانية : فإن مثل هذه الأهمية والقيمة في دور الرجل المحوري وقيادته الناجحة للمشروع السياسي العسكري الذي أصبح يسور ويحمي إيران أمنياً من خارج فضائها القومي هي التي جعلت ساسة النظام الحاكم في طهران ينعونه برجل القومية ( يجب التركيز على هذا التوصيف ) لذا ليس بمستغرب أن تذرف عليه دموع المرجعية والرجل الأول في إيران على خامنئي على شاشة التلفاز .
مما لا شك فيه أن النظام السياسي وحتى المجتمع الإيراني يشعران بالإختناق كل يوم على مستوى الداخل الإيراني بفعل العقوبات الأمريكية المتزايدة؛ لكن المفارقة أن العقل السياسي الحاكم في طهران كان ومايزال حتى اليوم يقول لن نأتي راكعين إلى واشنطن مهما يكن الثمن ، وعلى هذا الأساس تزداد حاجته ورهانه على دور القوة المضافة من خارج فضاء الدولة الإيرانية = { الأذرع الخاضعة لسيطرة قاسم سليماني وفيلق القدس } والممتدة من أفغانستان إلى لبنان ومن العراق إلى اليمن ( محور المقاومة كما يصفه الأتباع ) مايعني بالنتيجة أن النظام الحاكم في طهران أصبح يفضل في حالة الضرورة القصوى مبدأ المواجهة العسكرية على مبدأ الإستسلام والخضوع المذل تحت وطأة العقوبات الأمريكية بالدرجة الأولى ، وبالدرجة الثانية : في حال أن فكرت أمريكا بضرب إيران عسكرياً بشكل خاطف؛ فإن الشئ المؤكد أن الحرب لن تكون محدودة المكان والزمان وغير قابلة في نفس الوقت لمسألة التحكم والإمساك بتلابيبها ، وهذا ما أدركته الإدارة الأمريكية التي تراجعت خطوة للخلف بعد أن أقدامت طهران على إسقاط طائرة التجسس الأمريكية، واحتجازها لناقلة النفط البريطانية وحتى في اتخاذ القرار بضرب (شركة أرامكو الأميركية) في السعودية؛ لكن مسألة استمرار مثل هذا التراجع أمام الندية الإيرانية التي تصرفت بها الأخيرة مع واشنطن؛ بدت أكثر كارثية في حسابات السياسيين الأمريكيين لاسيما فيما يتعلق ــ بالحفاظ على هيبة الدولة العظمى وعلى مصالحها ودورها التأريخي في منطقة الشرق الأوسط وفي الخليج العربي على وجه التحديد ــ الذي ظل خاضعاً من عقود لتأثير النفوذ والسيطرة الأمريكية فقط ، ناهيك عن عودة روسيا الخصم القطبي والحليف لإيران وتزايد نفوذها السياسي ووجودها العسكري في سوريا وكذلك تحسين علاقتها بشكل كبير مع دولة تركيا التي كانت في الماضي القريب من الدول المحسوبة على الحلف الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط .
كل ذلك قد فرض على دولة بحجم أمريكا وبشكل عاجل أن تتخلى عن الميوعة الزائدة في البرجماتية الرخوة التي تعامل بها الرئيس ترامب مع ملف الشرق الأوسط، والتي أدت إلى توسيع دائرة النفوذ المسلح لدولة إيران في هذه المنطقة الحيوية، وبشكل بدا قادراً على المجاهرة في مواجهة الوجود الأمريكي “نيابةً” عن إيران ولعلَ حادثة الإعتداء على السفارة الأمريكية في العراق كانت هي القطرة التي أفاضت الكأس على طاولة الساسة في البيت الأبيض ، لهذا قررت الإدارة الأمريكية ضرب رأس القيمة المضافة للقوة والنفوذ الأقليمي لدولة إيران؛ بل وصندوقها الأسود في منطقة الشرق الأوسط ، لخلط الأوراق وإرباك إيران وحساباتها لبعض الوقت إذ لم يكن ماجرى هو تحديد لطبيعة المعركة القادمة ، فالقرار بقتل قاسم سليماني هو قرار مدروس وليس كما يقال؛ بل ومعني بدرجة أساسية بتحجيم الدور المتعاظم للنفوذ الإيراني في المنطقة والعمل على توقيفه = { القوة المضافة خارج فضاء الدولة الإيرانية } وهذا ما ذهب إليه ترامب في خطابه عقب الضربة بأنه لا يريد إسقاط النظام الحاكم في طهران، مايعني في مفهوم المخالفة (نريد ضرب قوتها المنتشرة والتي تجاوزت الحدود في المنطقة)، وإيران فهمت مغزى هذا التوجه الأمريكي وهي تعمل الآن على مواجهة أمريكا بنقيض قصدها ( كما تقول القاعدة الفقهية } أي بالعمل على إخراج الوجود الأمريكي ونفوذها من المنطقة وهذا ما قال به عهد الوفاء لدم سليماني على لسان ساسة وعسكريو طهران بأن يكون ثمن مقتله هو خروج القوات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، وعلى هذا الأساس أتخذت احزاب الشيعة في العراق مثل هذا القرار في مجلس النواب وأكد عليه حسن نصر الله في خطابه المتلفز ، وحتى مسألة الرد الإيراني على ضرب قاعدة عين الأسد دون مقتل جندي أمريكي هي رسالة تهديد تذهب في هذا الإتجاه الذي لا يعني سوى أن الطرفين سوف يخوضان (معركة كسر الإرادة والنفوذ وحتى الوجود في منطقة الشرق الأوسط) .