المواطن / كتابات _ فهمي محمد
الفترة الإنتقالية وقضية الدولة الوطنية
ثالث تلك المعطيات السياسية الغير مرغوب بها تمثلت بوجود الحزب الاشتراكي اليمني وبشراكته السياسية في السلطة وفي القرار السيادي والوطني في دولة الوحدة ، ناهيك عن سيطرته الفعلية على قوات عسكرية نظامية ={ برية وجوية وبحرية} ذات سمعة وكفاءة عالية في المنطقة ، كان هذا من جهة، ومن جهة ثانية أصبح الحزب يومها يتمتع ببريق سياسي وبثقل جماهيري كبير في المناطق الشمالية لا سيما في محافظة تحمل الرمزية الثقافة والسياسة مثل تعز ، وأكثر من هذا وذاك وجد الحزب الإشتراكي نفسه، لاسيما في خضم المعركة السياسية والقانونية المتعلقة ببناء مداميك الدولة الوطنية مجبراً – كما يقال أخاك لا بطلاً- على تقديم نفسه معادل موضوعي وحامل سياسي لتلك المعطيات السياسية الغير مرغوب بها من قبل التحالف الرباعي الحاكم والمسيطر على القرار السياسي في العاصمة صنعاء ( حضور الجنوب اليمني بمشروعه الوطني، المرجعيات الوحدوية ببعدها السياسي والوطني ، الديمقراطية كآلية سياسية ونظام حكم بهدف تحقيق الدولة الضامنة )
هذا التبلور الجديد في الدور السياسي للحزب الإشتراكي الذي برز مع أول يوم للوحدة ، هو نفسه الذي جعل من مساحة القبول بوجوده وبشراكته السياسية في السلطة والدولة تضيق به ذرعاً كل يوم في حسابات الشريك الآخر وحلفائه السياسيين، ناهيك عن أن مجريات الأحداث بكل إعتمالاتها السياسية وحتى العسكرية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن مسألة النجاح في التخلص من تلك المعطيات السياسية الثلاث أصبحت غير ممكنة الحدوث ما لم يتم التخلص من وجود الحزب الإشتراكي اليمني أولاً بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة في تحقيق هذا الهدف .
لا نعني فيما نذكره هنا مطلقا الإدعاء بأن الحزب الإشتراكي اليمني كان وحده على الصراط المستقيم أثناء الفترة الإنتقالية ، أو أنه لم يرتكب بعض الأخطاء خلال هذه الفترة ، أو أن بعض قياداته لم تتورط في الفساد أو تماهت معه ، لا سيما وأن الطرف الآخر كان كريما في العطاء وفي فتح أبواب الخزانة والفساد على مصراعيه أمام ضعفاء النفوس ، لكنه يعني على وجه التحديد أن التوجه العام والقرار السياسي للحزب الإشتراكي اليمني ظل خلال الفترة الإنتقالية على الصواب لا سيما فيما يتعلق بقيادته السياسية لمعركة بناء الدولة الوطنية في يمن ما بعد الوحدة بناء على المرجعيات السياسية الوحدوية ، كما أن هذه الصوابية في الموقف التاريخي وفي التوجه السياسي العام للحزب ، لم تكن يومها قد مورست من قبيل التكتيك السياسي الوقتي ، أو حتى بهدف التسويق الإعلامي الموجه للجمهور لأن الإشتراكي لم يفصح مبكراً عن حقيقة الأزمة، بل عمل على إحتواها في لقاءات ثنائية بينية ، كما أن الصوابية في الموقف لم تكن وليدة اللحظة التاريخية التي كانت تتطلب بالضرورة الوقوف بحزم ضد سياسة التحالف الرباعي الرافض من الأساس لفكرة بناء الدولة الوطنية في اليمن ، بقدر ما كانت تعبير حقيقي لوجود قناعة وثقافة راسخة ومتأصلة لدى الإشتراكي ، ناتجة بحد ذاتها عن قراءة نقدية سياسية وطنية شاملة لمجمل الصراعات، وقد بدأت إعتمالاتها الناجعة والرشيدة داخل الحزب منذ عام 1987م على إثر الوقفة النقدية/ العقلية/ لأحداث يناير 1986م الكارثية، وما قبلها من الأحداث التى جرت في ظل دولته وتجربته السياسية ( يعلق بعض المنصفين على هذا الموقف النقدي والشجاع للحزب بالقول إن الإشتراكي أمعن في نقد تجربته السياسية حتى بدا فاقداً للغيرة على تاريخه النضالي الكبير ) وقد استمر الحزب بهذه الوتيرة النقدية التي ظلت تتفتح سياسياً وعقلياً كل يوم على الآخر السياسي وعلى مفهوم الدولة نفسها أكثر منذي قبل حتى يوم إعلان دولة الوحدة اليمنية في الـ22 من مايو 1990م .
من نافلة القول هنا أن استمرار هذا التوجه النقدي العقلي لمسار التجربة لم يقف يومها عند البعد النظري ، بل رافقه على مستوى الواقع إتخاذ خطوات عملية جادة ={ قرارات ملزمة في الهيئات القيادية للحزب الحاكم + قوانين وتشريعات من مجلس الشعب في الدولة} أصبحت تؤسس في مجملها لفعل الإصلاح السياسي والاقتصادي في الجنوب اليمني ،
فالتوجه من قبل الحزب الإشتراكي نحو التقيم ومسألة الإصلاح بكل أبعادها كان يومها خيار واعي ومدروس ، وقد تحول فعلياً إلى توجه سياسي وقانوني في الجنوب قبل إعلان دولة الوحدة ، لا سيما وأن التدرج المرحلي في عملية الوحدة بين الشطرين كان هو الثابت لدى الإشتراكي ولم يكن وارد في الحسبان سلق مراحل الوحدة بهذه العجالة التي جعلت مداميكها البنيوية في 1990م تفتقد للأساس المتين ، ما يعني بالضرورة أن توجه الحزب نحو التغيير الفعلي بدأ قبل إعلان دولة الوحدة ، وكان يستهدف في الأساس تقييم ذاته وتجربته ونظامه السياسي ودولته في الجنوب على مرأى ومسمع من الجميع دون ضغط من معارضة سياسية فاعلة في الواقع ، كما أن هذا التوجه لم يكن مجرد تكتيك وقتي أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية في معركة إنتخابية بين الأحزاب المتنافسة على السلطة في الجنوب، بقدر ما كان نتاج لتلك الإعتمالات العقلية والنقدية النابعة من داخل الحزب الإشتراكي نفسه، في الزمن الذي كان فيه هو الحاكم الوحيد دون منازع أو حتى منافس .
صحيح أن مسألة تفعيل البعد السياسي والوطني لمجمل تلك الخطوات والقوانين والتشريعات المتخذة من قبل الحزب ، لم تكن يومها قد وصلت للحد المطلوب الذي يحقق مفهوم الدولة الوطنية في الشطر الجنوبي ، لكون الإستعجال في إعلان قيام الجمهورية اليمنية قد حرم هذا التوجه النقدي والعقلي من تراكم الوقت والتجربة الكافية لإتمام عملية التموضع القانوني ببعده السياسي والوطني الناجع، ضف إلى ذلك أن دولة الوحدة قد عملت على توسيع دائرة الرؤية المتعلقة بالتغيير السياسي والإقتصادي على مستوى الشمال والجنوب بالنسبة للحزب ، وذلك ما نقصده بالتبلور الجديد في الدور السياسي الذي وجد الحزب الإشتراكي نفسه معني به، ومع هذا وذاك فإن الشيء المؤكد أن ما كان يجري في الجنوب منذ 1987م وحتى 1989م، كان بلا شك يعبر عن بلوغ الحزب الإشتراكي اليمني سن الرشد السياسي والوطني الذي بلغ أشده وقال “ربي اوزعني أن أشكر نعمتك” في الـ 22 من مايو 1990م، مايعني أن الحزب الاشتراكي مع إعلان الوحدة كان يحمل مشروع حقيقي يتجه نحو المستقبل في اليمن .
خلال الفترة الإنتقالية وعلى وجه الخصوص كان الرئيس صالح وحزبه السياسي={ المؤتمر الشعبي العام } غير ملتزمين بمسألة الإصلاح السياسي والإقتصادي، بل على العكس من ذلك كانوا حريصين كل الحرص على أن يتلوث الجميع في ممارسة الفساد المالي والإداري وعلى وجه التحديد هؤلاء القادمين من عدن الذين عاشوا ثلاثة عقود في ظل دولة الحزب الإشتراكي، لا سيما وأن هذه الدولة تميزت بشهادة الخصوم بكونها عملت على تطبيق سيادة القانون والحفاظ على المال العام ، ناهيك عن وجود جهاز إداري خالى من الفساد،
عدم الإلتزام من قبل الرئيس صالح وحزبه السياسي بمسألة الإصلاح لم يكن راجع لفعل العادة المتأصلة لثقافة الفساد المالي والإداري داخل جهاز السلطة الحاكمة في الشمال فحسب ، بل إن ذلك كان توجه سياسي مقصود ، بل مدعوم من قبل بقية أعضاء التحالف الرباعي={ القبلية + حزب الإصلاح } لكون هؤلاء جميعاً أصبحوا خلال الفترة الإنتقالية يعوا تماماً طبيعية معركتهم السياسية مع الحزب الإشتراكي التى لا تعني سوى وجود الدولة الوطنية في يمن ما بعد الوحدة أو عدم وجودها لصالح بقاء مفهوم السلطة الحاكمة تاريخياً في الشمال ، والتي بدأت بالفعل خلال الفترة الإنتقالية تعمل بكل الوسائل الممكنة والمغرية على تعميم نموذجها السياسي والإداري ومركزيتها القبلية العصبية على جهاز الدولة في الجنوب بدلاً من حدوث العكس ، وقد كان ذلك كما قلنا عمل سياسي مقصود، لكون التنصل في الإلتزام عن تحقيق مبدأ الإصلاح السياسي والإقتصادي المتفق عليه خلال الفترة الإنتقالية ، وكذلك العمل على إعاقة تفعيل البعد السياسي والوطني للمرجعيات الوحدوية والقوانين الصادرة بعدها ، مقابل العمل على توسيع دائرة الفساد المالي والإداري ، كان الهدف منهما إشراك الجميع في الفساد ، بدلاً عن الإصلاح ، ما يعني في الواقع العملى نجاح التحالف الرباعي في سياسته الرامية إلى إسقاط مسألة بناء الدولة الوطنية من جدول أعمال الفترة الإنتقالية والذهاب بالمشهد السياسي نحو إجراء إنتخابات برلمانية دون إصلاح شامل ودون وجود هذه الدولة الوطنية في يمن ما بعد الوحدة ، ليتسنى لهؤلاء إخراج الحزب الإشتراكي من المشاركة في السلطة الحاكمة وفي القرار السياسي عن طريق العملية الديمقراطية التى اختارها بنفسه رديفاً للوحدة
هذا التوجه السياسي في الذهاب نحو العملية الديمقراطية في ظل مفهوم السلطة على حساب مفهوم الدولة الوطنية هو إمتداد لنفس التوجه السياسي سيء النية الذي أراد قبل ذلك إعلان دولة الوحدة دون البدء في عملية بناء الأسس المتينة لها في الواقع، وقد إستطاع تمرير هذه الورقة الرابحة تحت مبرر أن الإصلاح السياسي والاقتصادي سوف يتم خلال الفترة الإنتقالية، لذلك تحول مفهوم الفترة الإنتقالية إلى أحد النقاط الخلافية الجوهرية بين قيادة الحزب الإشتراكي وبين قيادة المؤتمر الشعبي العام، بمعنى آخر هل تنتهي الفترة الإنتقالية بإستكمال المهام الموكلة إليها كما كان يتمسك به الحزب الإشتراكي، أم أن الفترة الإنتقالية تنهتي بإنتهاء الزمن الذي تم تحديده لها بغض النظر عن المهام المنجزة كما كان يريده حزب المؤتمر الشعبي وحلفائه .