المواطن/ كتابات ـــ فهمي محمد
قضية الدولة في اليمن سواء دولة القانون أو دولة المؤسسات والمواطنة = { الدولة الوطنية} أو حتى الدولة المدنية هي التي شكلت أسباب جوهرية لمسألة الصراعات والحروب في اليمن وعلى وجه التحديد منذ عام 1990م وحتى اليوم ، لا يعني ذلك عدم وجود صراعات وحروب قبل ذلك في اليمن ، بل يعني أن الصراعات والحروب قبل 1990م كانت تقام على حيازة السلطة وحكمها وليس على مفهوم الدولة.
حتى الأحزاب السياسية التي كانت تقع خارج السلطة وتمارس العمل السياسي السري قبل عام 1990/ كمعارضة لنظام الحاكم في صنعاء أو عدن ، لم تناضل يومها من أجل مفهوم الدولة الضامنة في اليمن ، بل كانت تناضل من أجل الوصول إلى رأس السلطة وتطبيق مشروع سياسي ايديولوجي أحادي يتقاطع في جوهره مع مفهوم الدولة الضامنة ، على إعتبار أن مشروعها السياسي ( أي الأحزاب) كان يومها مشروع أيديولوجي لا يعترف بوجود الآخر الحزبي ولا بمشروعه السياسي ، وهو ما أدى إلى تأسيس وتكريس ثقافة سياسية حزبية ( مازالت حتى اليوم تمارس حالة من التحكمية المتزمتة في ثقافة المتحزبين ) تقوم أساساً على إستعداء الآخر السياسي والحزبي وليس القبول به وبمشروعه السياسي داخل المجال السياسي العام ، لذلك لا غرابة أن تؤسس السلطة نفسها في اليمن على فعل التغالب وأدواته العسكرية وعلى مفهوم الإستقواء السياسي ، حتى عندما كانت تفكر السلطة في بعض المحطات بالحوار مع أي مكونات تقع خارج نطاقها فإن الحوار يكون مجرد عرض لفائض القوة لديها في وجه الآخر الذي يظل وجوده بالنسبة للأنا الحاكم في اليمن مجرد زائدة سياسية غير مُعرفة في القاموس السياسي .
في ظل هذه المعادلة السياسية التاريخية القائمة على قوة الشوكة والغلبة والممارسات الإقصائية تحول ما كان يجب أن تكون دولة وطنية في اليمن وعلى وجه التحديد من بعد ثنائية الثورة ( سبتمبر و اكتوبر ) إلى سلطة في الشمال= { قبلية وعسكرية تعمل على إبتلاع أي محاولة تتعاطى جدياً مع مشروع بناء الدولة كما حدث مع الرئيس الحمدي } ودولة ذات قبضة بوليسية حديدية في الجنوب = { دولة الحزب الحاكم الذي لا يقبل صوت فوق صوته } مع الفارق الكبير في تلك الإعتمالات السياسية والحزبية الناجعة التي خلقت على المستوى التحتي قابلية ثقافية وسياسية لعملية التحول والتحديث داخل الوسط الاجتماعي لا سيما فيما يتعلق بثنائية الدولة والسياسية على مستوى التجربة السياسية في الشمال والجنوب ،
ببساطة شديدة نستطيع القول أنه منذ ثورة 26 سبتمبر في الشمال وثورة 14 اكتوبر في الجنوب تميز الوضع السياسي في اليمن بشكل عام بغياب الدولة الوطنية ككيان سياسي في الشمال وحتى في الجنوب ، وقد استمر هذا الوضع السياسى الاستبدادي السلطوي حتى تاريخ ال22 من مايو 1990م ، الذي شهد فيه جميع اليمنيين حدث سياسي كبير ، إذا لم يكن منعطف تاريخي هام ، تمثل يومها في ميلاد دولة الوحدة = { الجمهورية اليمنية} بناءً على معطيات سياسية جديدة فرضتها طبيعة المراجعات العقلانية والواقعية لا سيما عند قيادات الحزب الحاكم في الجنوب التي أدانت من واقع الخيبات المتكرره في تجربة الشطرين وحتى داخل الشطر الواحد ، كل مراحل الصراع السياسي بين المكونات السياسية وداخل أجنحة السلطة ، وحتى تلك الممارسات الإقصائية التي تعرضت لها بعض الأحزاب السياسية التي كانت تعارض النظام الحاكم في صنعاء والحزب الحاكم في عدن .
السؤال السياسي الذي طرحه المثقف اليساري الكبير جار الله عمر = { إذا كنا يسار فأين اليمين ولماذا لم يقف أمامنا على طاولة الحوار ؟} في وجه الرفاق الذين انتصروا على الرفاق في أحداث يناير 1986م التي قسمت ظهر بعير اليسار = {الحزب الاشتراكي} وأساءت إلى تاريخية النضالي العريق في اليمن، كان هو السؤال الشجاع والعقلاني الذي استدعى التفكير السياسي الجدي عند قيادة الحزب الاشتراكي حول مشروع الديمقراطية كمخرج لحالة الإنسداد السياسي لاسيما وأن الضمير السياسي والإنساني تجلا بشكل كبير عند بعض هؤلاء الرفاق على إثر تلك الأحداث المأساوية التي أساءت لمسار التجربة الثورة في اليمن الجنوبي هذا من جهة، ومن جهة ثانية أدت أزمة الضمير أو حضوره على إثر هذه الأحداث={ يناير 86 } إلى التعاطي الجدي من قبل الحزب الاشتراكي اليمني مع سؤال الديمقراطية بكون هذه الأخيرة بحد ذاتها تشكل حالة سياسية ناجعة وقادرة على تجاوز مُشكلة الإحتكام المتكرر إلى لغة السلاح في حسم الخلافات السياسية التي لن تنتهي إلا مع إنتهاء الناس أنفسهم ، لهذا كانت مسألة الديمقراطية هي المشروع النضالي الذي لا يقبل المساومة عليه في دولة الوحدة ، بل كانت هي المكسب الأكبر الذي نص عليها دستور الدولة كحق قانوني ودستوري لكل المكونات الحزبية في الجمهورية اليمنية.
أما فيما يتعلق بممارسة هذا الحق المكتسب بشكل عملي في ظل دولة الوحدة = { العملية الانتخابية التنافسية والتداول السلمي للسلطة } كان يجب أن يحدث بعد أن يستكمل الشركاء السياسيين في دولة الوحدة المهام الملقاة على عاتقهم والمتفق عليها خلال الفترة الانتقالية التي تم تحديدها بسنتين تبدأ من يوم 22 مايو 1990م ، بمعنى آخر كان على الحزب الاشتراكي اليمني بقيادة علي سالم البيض وحزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة علي عبدالله صالح مسؤولية العمل على بناء أسس الدولة الوطنية وتحويلها إلى كيان سياسي وجودي في يمن الوحدة خلال الفترة الانتقالية بناءً على تلك الاتفاقيات الثنائية البينية التي كانت تشكل مرجعيات سياسية ملزمة لهؤلاء الشركاء في دولة الوحدة ، ليتسنى بعد ذلك الإنتقال مباشرة إلى ممارسة العملية الديمقراطية التنافسية بين المكونات السياسية الحزبية التي أعلنت عن وجودها العلني مع إعلان دولة الوحدة في عام 1990م ، وهو ما يعني فعلياً الإنتقال السياسي إلى مفهوم الدولة المدنية كخطوة ثانية في مسار التطور السياسي الوحدوي بعد أن يتمكن الحزبين الحاكمين في عاصمة الوحدة من بناء قواعد وأسس الدولة الوطنية خلال الفترة الانتقالية كخطوة أولى ملزمة سياسياً وقانونيا وحتى أدبيا وأخلاقيا ً، على إعتبار أن وجود الدولة الوطنية تظل دائما هي المقدمة السياسية الضرورية في صيرورة التطور السياسي والثقافي بالنسبة لمفهوم الدولة المدنية.
كانت المخاوف لدى القوى الممانعة والمتشابكة تاريخياً في المصالح داخل جهاز السلطة الحاكمة في صنعاء ، أكثر إدراكاً ومكراً من حسن النوايا عند هؤلاء الضيوف القادمين من عدن فيما يخص مسألة السماح بهذا التحول السياسي المتعلق بفكرة الدولة ، بل لمعنى أن يستمر خلال الفترة الانتقالية وينجح عملياً في تأسيس مداميك الدولة الوطنية في يمن ما بعد الوحدة = { الجمهورية اليمنية} خصوصاً وأن تلك الإعتمالات السياسية الموضوعية قد اجبرت هؤلاء ولو تكتيكياً ، (وكذلك المرجعيات السياسية في دولة الوحدة) على التعاطي مع حضور الجنوب اليمني في معادلة الوحدة اليمنية بمشروعه الوطني الديمقراطي التعددي الذي تم صياغته في زمن المراجعات العقلانية النقدية لواقع التجربة السياسية قُبيل إعلان دولة الوحدة ، كما أن الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان حاكم فى دولة الجنوب قبل الوحدة قد حظي هو الآخر في ظل الوحدة بزخم سياسي وجماهيري داخل المحافظات الشمالية لا سيما في محافظة لها ثقل ووزن جماهيري كبير ، ناهيك عن نوعية الكادر البشري فيها ، كما أنها في نفس الوقت تحمل رمزية ثقافية ونضالية على مستوى الذاكرة الوطنية وفي التاريخ السياسي المعاصر = { محافظة تعز } …
2019/9/11