المواطن/ كتابات _ فهمي محمد
التدخلات ألآوطنية حين تنجح بمد يديها إلى الداخل الوطني دائما ما تبدأ جدول أعمالها بإزاحة المشروعات الوطنية مع اتخاذها سياسات رجعية تعمل على إضعاف اي حامل سياسي لهُ علاقة بفكرة التغيير وحتى بفكرة الثورة أو بالمشروع الوطني والمدني ، كما هو الحال مع تدخل دول البترو دولار التي تدخلت بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن غيرها في ثورة الربيع العربي ، بحيث استطاعت تلك الدول بفائض المال لديها وبمنطق سياستها الرجعية والإنتقامية على تحويل بعض تلك الأقطار التي شهدت فعلاً جماهيراً ثورياً وسلمياً في عام 2011/ إلى حمام دم غير قابل للجفاف والى حروب عبثية غير قادرة على إنتاج شروط التحولات التاريخية نحو المستقبل ، لاسيما وأن تدخلها العسكري وحتى السياسي واللوجستي في اليمن وليبيا وسوريا نجده على طول الخط يتقاطع مع منطق ومفهوم الحروب الثورية القادرة على الإنتصار لفكرة التغيير والتقدم في مسار الدولة المدنية التي تعنونت بها جميع ثورات الربيع العربى ، هذا في حال أن سلمنا جدلاً أن الحرب كانت خياراً مفروضاً لا مناص منه كما هو الحال في اليمن مع تحالف القوى الإنقلابية الذي انقلب على مخرجات الحوار الوطني وانقلب على دستور الدولة الاتحادية بقوة السلاح والنار وبمنطق المليشيات المنفلته التي أصبحت للأسف الشديد على إثر هذا الإنقلاب تؤسس واقع ألا دولة وألا سياسية وألا وطنية وألا تعددية سياسية وحزبية في طول البلاد وعرضها وليس في مناطق سيطرة الحركة الحوثية فقط ، وهذه اللآت التي تؤسس اليوم في مربعات الشرعية ومربعات القوى الإنقلابية على حد سواء تتقاطع بالمطلق مع أي اعتمالات سياسية تدفع باتجاه مستقبل الدولة المدنية .
الحديث عن تلك المعطيات الواردة في مجمل هذه المقالة بلاشك تجعل الصورة قاتمه بشكل كبير إذا لم تكن تلك الصورة محبطة للكثيرين من القراء لكن ذلك لا يعني قط أن الثورة في زمن الربيع العربي كانت خطأ او كانت غير لازمة او أنها تتحمل مسؤولية ما يجري بقدر ما يعني ذلك أننا اليوم مطالبين بتوسيع زاويه الرؤية السياسية والوطنية ( وبشكل يجعلنا قادرين على تجاوز حدود المشروعات الصغيرة او الهويات الجزئية التي تحاصرنا وتجعلنا ندور في فلكها الممانع لماهو وطني ) حتى نتمكن من الإمساك بتلابيب المشكلة السياسية التي أصبحت في بعض الأقطار العربية وعلى إثر احداث الربيع العربي تعاني من سيولة مكثفة في تشعباتها التي تجاوزت حدود المفهوم السياسي كما هو الحال في اليمن على سبيل المثال ، لكن المؤكد أن تلك التشعبات في جميع احوالها تعد نتيجة طبيعية وبأثر رجعي لمسألة غياب الدولة بمفهومها الوطني ، والديمقراطية بمفهومها السياسي الليبرالي = ( الثنائية المتلازمة في مفهوم الدولة المدنية ) التي تحركت الجماهير العربية الثائرة منذ عام 2011/ للبحث عنها والمطالبة بها ، ومع ذلك ظلت (الدولة المدينة) حتى اليوم سؤالاً إشكالياً مطروحاً على طاولة النضال الوطني في جميع أقطارنا العربية في حين تبدو إشكاليتها مضاعفة إذا ما تم إسقاطها على الواقع العملي بمنطق تلك الشروط الموضوعية التي نفتقد لوجودها حتى اليوم ، لكن وجودها يظل هو الحل الذي لابد منه بد ، والذي يجب أن نعمل دون كلل في سبيل الوصول إليه ونناضل دون يأس من أجل إختراعه في حياتنا على إعتبار أن حل المشكلة السياسية لاسيما المتعلقة بالسلطة والحكم يظل هو المدخل السليم والقادر على تقديم الحلول الجذرية للمشكلة العربية التي تبدو متشعبة اكثر من اللازم .
مما لا شك فيه أن مسألة الصراع والإقتتال على السلطة والحكم هي المشكلة الكبرى التي تأتي في مقدمة خصوصيتنا العربية الممانعة على امتداد تجربتنا التاريخية منذ السقيفة وحتى اليوم او كما قال الشهرستاني ” لم يُسل سيف في الإسلام كما سُل على السلطة والحكم ” وهذا يعني أن الدم الذي سفك داخل الجغرافية العربية من أجل السلطة والحكم في ظل الاسلام اكثر بكثير من الدم الذي سفك في سبيل نشر الرسالة و الاسلام نفسه والذي مازال حتى اليوم يقدم بكل مفارقة عجيبة كأيديولوجية مذهبية أحادية أو كجمله اعتراضية في حقل السياسية تقف بشكل ممانع في وجه الحلول السياسية العملية والعقلانية التي تحقن دماء الناس وتؤدي في نفس الوقت إلى أن تُوضع تلك السيوف المسلولة على بعضها منذ صفين وحتى اليوم في اغمادها ولا تُسل من جديد في مستقبل الأجيال القادمة بتلك الكثافة والسماجة التي يحدثنا عنها الشهرستاني بكل حسرة وندم ، لاسيما وأن الدولة المدنية في جوهرها السياسي إذا ما وجدت سوف تجعل من الوصول إلى السلطة والحكم مسألة سياسية مدينة محكومة ومقيدة بقاعدة سياسية عقلانية و”ليس دينية إيديولوجية ” تقوم في الأساس على آلية ديمقراطية تعمل على عد الرؤوس وليس على قطعها .
نستطيع القول أن الفعل الثوري في زمن الربيع استطاع أن يسقط العديد من الحكام المتسلطين والمستبدين منذ عقود بل واستطاع في بعض تجاربه أن يسقط الأنظمة الحاكمة برمتها كما حدث في ليبيا وتونس ، وبغض النظر عن المألآت السلبية أو الإيجابية التي تموضعت في هذا القطر العربي أو ذاك ومازالت حتى اليوم غير مستقرة ، فإن الشئ الجامع والمشترك بين تلك الأقطار هو عدم وجود الدولة الوطنية التي تعد مقدمة سياسية وطبيعة في صيرورة الدولة المدنية الحديثة على غرار تلك الدولة الوطنية التي كانت موجودة في بعض دول أوروبا الشرقية أبان الثورة الجماهير التي أندلعت في تسعينيات القرن الماضي وعرفت يوم ذاك بالثورة البرتقالية والتي تمكنت من إسقاط الأنظمة المستبدة الحاكمة وشرعت مباشرة في العملية التنافسية الديمقراطية دون أن تستطيع الثورة المضادة أو السلطة العميقة أن تعيق عملية التحول السياسي والديمقراطي نحو الدولة المدنية ، بمعنى آخر نستطيع القول إن تلك الأحزاب أو الأنظمة الحاكمة التي اسقطتها الثورة البرتقالية في دول أوروبا الشرقية عملت خلال فترة حكمها بشكل إيجابي على بناء الدولة الوطنية لذلك استطاعت الثورة البرتقالية بعد سقوط الاستبداد وبكل سلاسة أن تصل ما يجب أن يكون ={الديمقراطية} بما هو كائن ={الدولة الوطنية} وقابل للبناء عليه في مسار التحول والتغيير نحو الدولة المدنية ، عكس الاحزاب والأنظمة العربية التي حكمت عقود من الزمن ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بناء الدولة الوطنية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتوقفت عند حدود السلطة التي أصبحت في ظل الجمهوريات العربية المفرغة من محتواها وقيمها تورث في أبناء الرؤساء على غرار ما يجري في نظام الممالك الوراثية دون خجل من فكرة الجمهورية التي أتت على أعقاب ثورات وتضحيات كبيرة !!! .