المواطن/ كتابات – نوال السعداوي
… ليس من السهل على أحد ان ينكر الدور الهام الذي لعبه المفكرون الاشتراكيون في كشف الأسباب الحقيقية التي دعت الى اضطهاد المرأة في تاريخ البشرية . وليس من الصعب على أي دارس ان يلحظ العلاقة الوثيقة بين درجة تحرير النساء وبين درجة تحول المجتمع الى الاشتراكية . كلما زادت درجة التحول الى الاشتراكية الحقيقية كلما زاد تحرر النساء بالمعنى الحقيقي للتحرر . أعني التحرر الاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي .. أي ان تكون المرأة مستقلة اقتصاديا ٬ لها عملها الذي تختاره الذي تأخذ عنه أجرا مساويا لأجر الرجل . ولها جسدها الذي تملك حريته بالكامل فتحمل حين تريد وتجهض نفسها حين تريد . وتمنح اسمها لطفلها حين تريد ٬ وتختار شكل العلاقة الشخصية بينها وبين الرجل ٬ وتتزوج حين تريد وترفض الزواج حين تريد ٬ وتتحرر من أعباء عمل البيت أو تربية الأطفال حين تريد . تعمل كل ذلك باختيارها وارادتها وهي تتمتع بكامل كرامتها وشرفها في المجتمع .
ان هذه الحريات والحقوق الأساسية لأي انسان لن تستردها المرأة الا في ظل مجتمع نجح في التخلص من النظم الطبقية والأبوية معا ٬ وهو أمر لم يحدث بعد في أي مجتمع اشتراكي . ان المجتمع الروسي حتى اليوم لم يحقق للأغلبية من نسائه هذه الحريات والحقوق الأساسية مع انه أول مجتمع في العالم حدثت فيه الثورة الاشتراكية . وقد حظيت النساء الروسيات بكثير من هذه الحريات والحقوق في بداية الثورة . فقد كانت أفكار انجلز الاشتراكية لا تزال تدوي ٬ وقد كشف عن العلاقة الوثيقة بين الاضطهاد الجنسي والاضطهاد الاقتصادي ٬ وأوضح ان أول اصطهاد طبقي حدث في التاريخ هو اضطهاد الرجل للمرأة ٬ وان الاضطهاد الذي وقع على المرأة كان مضاعفا ٬ فالرجل العامل يعاني من اضطهاد صاحب العمل أما المرأة فتعاني من اضطهاد صاحب العمل واضطهاد زوجها ٬ وأوضح ان غاية الاشتراكية هي تحرير العامل (صناعي أو زراعي) وتحرير المرأة ٬ وأكد ان تحرير المرأة لا يتم ميكانيكيا بعد تحرير العمال والفلاحين ٬ أو بعد التحرير الاقتصادي ٬ لكن التحرير الاقتصادي شرط ضروري لحدوث التحرير الانساني ٬ وبغير التحرير الانساني يتحول الانسان الى أداة للعمل فحسب .
الا ان الفكر الستاليني الجامد اتهم انجلز بأنه بالغ في تقدير أهمية تحرير المرأة والتحرير الانساني وسرعان ما تقهقرت قضية المرأة الى الوراء ٬ وسلبت منها كثير من الحقوق التي حصلت عليها في بداية الثورة الروسية ٬ وأعادها حكم ستالين الى حظيرة الأسرة الأبوية والخضوع لسيطرت الرجل داخل الأسرة ٬ واهملت مشاكل النساء العاملات ولم تتحمس الدولة لتوفير الامكانيات التي تسهل لهن الجمع بين العمل خارج البيت وداخله . وفرضت القيود من جديد على الطلاق وعلى الاجهاض وعلى الطفل غير الشرعي . وانحصرت الاشتراكية داخل المفهوم الضيق المتعلق بالتحرير الاقتصادي . لكن التحرير الاقتصادي وحده بغير تحرير انساني وفي ظل حكم سلطوي أبوي لا يقود الا ان يتحول الرجل الى أداة للعمل في المصنع ٬ وتتحول المرأة الى أداة للعمل في المصنع وفي البيت أيضا . وهذا هو ما حدث للمرأة والرجل الروسي في عهد ستالين .
وبالرغم من انتهاء حكم ستالين 1953 وتجاوز المجتمع السوفياتي للمرحلة الستالينية الجامدة وتحقيقه للمزيد من حريات وحقوق المرأة الا انني لا أستطيع أن أقول ان أغلبية نساء الاتحاد السوفياتي قد تحررن تحررا كاملا . ويكفي أن تعلم ان 70 ‒ 75 % من النساء العاملات الروسيات لا زلن يجمعن بين العمل خارج البيت وداخله لأن الدولة لم تنشئ من دور الحضانة الا ما يكفي 25 ‒ 31 % فقط من الأطفال (هذه النسبة في الولايات المتحدة 3 % فقط وفي ألمانيا الشرقية تبلغ هذه النسبة 30 %) .
واذا عرفنا القيود التي لا تزال تعانيها المرأة داخل الأسرة الأبوية وقيود الاجهاض والعار الذي لا زال يطارد الأم غير المتزوجة أو الطفل غير الحاصل على اسم أبيه ٬ هذه القيود الذي لا زال معظمها يعيش في المجتمعات الاشتراكية ٬ في روسيا وألمانيا الشرقية والصين وغيرها ٬ أدركنا ان استقلال المرأة الاقتصادي (عن طريق العمل بأجر مساو لأجر الرجل) لا يكفي لتحرير المرأة تحريرا حقيقيا …
*
… ان انخفاض مكانة المرأة في المجتمعات الرأسمالية رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي وثرائها النسبي يجعلنا ندرك ان الطريق نحو الاشتراكية هو الطريق نحو تحرير المرأة وتحرير الرجال أيضا . لأن الرجل بسلبه انسانية المرأة يسلب انسانيته هو أيضا . وبالمثل الاقطاعي أو الرأسمالي الذي يسلب انسانية العامل ٬ ان الشخص الذي يستعبد شخصا آخر لا يمكن أن يكون حرا . فالسيد والعبد كلاهما مسلوب الانسانية والحرية .
لكن كثيرا من الحكام الاشتراكيين أساءوا فهم هذه المعاني الجوهرية ٬ وفصلوا قضية تحرير المرأة عن قضية تحرير العمال والفلاحين ٬ وتصوروا ان الغاء الملكية وقرارات التأميم ستؤدي تلقائيا الى تحرير الانسان أو تحرير المرأة . وهذا هو الخطأ الذي وقع وفيه معظم الحكام العرب الذين رفعوا شعارات الاشتراكية والتأميم في بعض البلاد العربية …
*
… في المجتمعات العربية الزراعية كمصر تعمل الأغلبية الساحقة من النساء في الحقول جنبا الى جنب الرجال منذ الاف السنين ٬ ويعتمد الاقتصاد والانتاج على عرق الفلاحين والفلاحات . وبغير خروج الفلاحة من دارها كل يوم قبل شروق الشمس لما كان في استطاعة الرجال المعارضين لتحرير المرأة (وغير المعارضين أيضا) أن ينالوا فطورهم كل صباح ولا أن يجدوا من الملابس ما يستر أجسادهم ولا يجدوا الورق الذي يكتبون عليه أفكارهم المتخلفة عن المرأة .
ولا يزال في مجتمعنا العربي حتى اليوم عدد غير قليل من هؤلاء الرجال الذين يعارضون خروج المرأة من بيتها للتعلم أو العمل بدعوى المحافظة على أنوثتها أو شرفها ٬ ويتجاهل هؤلاء الرجال تلك الملايين من8 النساء الفلاحات اللائي يخرجن كل يوم من بيوتهن للعمل . وربما اعتقد هؤلاء الرجال ان الفلاحات لسن نساء ٬ أو أن العتالات والخادمات ليس لهن أنوثة أو شرف ٬ والا فكيف نفسر صمتهم المطبق ازاء خروج هذا العدد الهائل من النساء من بيتهن كل يوم ؟ وكيف يدعى الرجل منهم غيرته على أنوثة المرأة ورقتها في حين أن شعرة واحدة لا تهتز في جسده وهو يسير في الشارع ومن خلفه خادمته البنت الضعيفة الصغيرة تحمل عنه وهو رجل قوي الحقائب الثقيلة ٬ ولا يهتز الواحد منهم وهو يرى كل يوم طوابير النساء العتالات والكادحات في الحقول والمشاغل والمصانع حيث تعمل المرأة ضعف الساعات التي يعملها الرجل لأنها تعمل خارج البيت وداخله ٬ بل لا يهتز الرجل منهم وهو راقد في سريره وزوجته تخدمه ولا تكف عن الحركة داخل البيت من أجل تلبية طلباته وطلبات الأسرة والأطفال .
وهذا يدل على أن غيرة هؤلاء الرجال على شرف النساء أو انوثتهن ومعارضتهم لخروج المرأة ليس موقفا اخلاقيا أو انسانيا ولكنه موقف طبقي استغلالي .
وهذا هو الحال دائما بالنسبة لعمل المرأة في المجتمع الأبوي . ان هذا المجتمع لا يسمح للمرأة بالعمل خارج البيت الا من أجل استغلالها بدرجة أشد حيث تعمل أجيرة بغير أجر كحال الفلاحات اللائي يعملن لحساب الأب أو الزوج وتحت سيطرته المطلقة ٬ أو من أجل سد النقص في الأيدي العاملة في المصانع حيث تعمل المرأة (والأطفال أحيانا) بأجر أقل من أجر الرجل ٬ وتحت سيطرته المطلقة في العمل أو في البيت …
*
… ان تولي المرأة السلطة أو الحكم في نظام اقطاعي طبقي أو رأسمالي طبقي لا يغير كثيرا من الاستغلال الواقع على النساء أو الرجال . وسواء كانت هناك امرأة تحكم في الولايات المتحدة بدلا من نيكسون أو فورد أو كارتر فان النظام يظل رأسماليا طبقيا قائما على الحروب والاستعمار والاستغلال . ان رئاسة جولدا مائير لاسرائيل لم تغير شيئا من النظام القائم على الطبقية والرأسمالية والحرب وان رئاسة باندرنايكا لسري لانكا أو انديرا غاندي للهند لم يغير كثيرا من النظام الأبوي القائم على سيطرة الرجل داخل الأسرة ولا تزال الاغلبية الساحقة من نساء سري لانكا والهند مرهقات جسديا ونفسيا بالكدح خارج البيت وداخله تحت سيطرة الأب أو الزوج .
ان تحرير المرأة تحريرا حقيقيا في الشرق العربي أو الشرق الأقصى أو الغرب لن يتحقق الا بالتخلص من النظم الطبقية الأبوية سواء كانت رأسمالية أو اقطاعية ٬ بمعنى آخر ان تحرير المرأة لن يتم الا في ظل مجتمع اشتراكي حقيقي وهذا أمر لم يحدث حتى اليوم في أي بلد ٬ ولا في أي بلد من البلدان التي تسير نحو الاشتراكية . ولكنه سيحدث في المستقبل حينما تصبح النساء قوة سياسية قادرة على انتزاع حقوقها . فالحرية تؤخذ ولا تمنح كما عرفنا من التاريخ …
الدكتورة نوال السعداوي
(عن كتابها “الوجه العاري للمرأة العربية” ٬ القاهرة 1977)