فواز طرابلسي
النص التالي يستعرض شهادة الكاتب الشخصية عن حكم اليسار في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) التي زارها أول مرة العام 1970 وغادرها لآخر مرة العام 1993، خلال مسؤوليته كعضو قيادي في «منظمة العمل الشيوعي» في لبنان. وهو جزء من كتاب بالعنوان ذاته، يصدر قريباً عن دار “رياض الريس للكتب والنشر” ويوزع في معرض الكتاب العربي في بيروت نهاية شهر تشرين الثاني.
( 1 )
تعلّمتُ في فترة مبكرة الدرس البليغ عن بناء الاشتراكية من خلال تجربة اليسار في اليمن الديموقراطي: من اجل إمكان التوزيع العادل للثورة يجب إنتاج ما يكفي من الثروة الاجتماعية تسمح بمثل هذا التوزيع. وقد عبّرت عن ذلك في فترة مبكرة وفي مناسبات عدة بالتشديد على أن اليمن الديموقراطي لا يزال في مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية، وان المهمة الاقتصادية الاولى في تلك الثورة هي بناء اقتصاد مستقل ذي قاعدة انتاجية في الصيد والزراعة والصناعة، بناءً على خطة تنموية لا تهمل القطاعات الأخرى مثل الخدمات المرفأية والسياحية. أضيف الى ذلك أني، وعلى عكس يساريين كثيرين، نظرت الى الوحدة اليمنية على انها الاطار الوحيد الممكن للتنمية الاقتصادية المجدية الى كونها تحقيقاً لتطلعات وطنية وقومية.
ومع ان الفترة الأولى من سلطة اليسار عرفت جهوداً حثيثة لتنمية القطاعات الانتاجية، والاجتهاد في تنفيذ خطط خمسية، الا ان معظم الاستثمارات والجهود ظلت متركزة على تزويد البلاد بالحد الادنى من البنى التحتية. ثم ما لبثت الحملة ان تراخت حتى لا اقول توقفت. بنى اشتراكيو اليمن دولة رعاية اجتماعية واسعة النطاق توفّر السكن الرخيص او شبه المجاني والطبابة والاستشفاء المجانيين، بما في ذلك الاستشفاء في الخارج (الهند والاردن)، وأنجزت عملياً محو الامية بالنسبة للأكثرية الساحقة من الأميين، ووفرت التعليم الإلزامي في مراحله الأولى، والمجاني في كل مراحله بما فيها المرحلة الجامعية، وأرسلت البعثات الدراسية الى الخارج في شتى الاختصاصات، وكانت الكهرباء شبه مجانية في المدن وحيث هي متوافرة؛ وتولت الدولة الدعم لعدد واسع من السلع الغذائية والمحروقات، الخ.
لا عجب إن سُمّيت «دولة نفطية بلا نفط». لم يكن هذا الإغداق في التقديمات مجرد تعبير عن رؤية مساواتية للتوزيع الاجتماعي. كان المسؤولون يدركون أن عليهم منافسة ما يتساقط عليهم من آثار التقديمات التي توفرها الدول النفطية المجاورة، حيث يعمل مليون يمني. فكان الهاجس هو تقديم صورة اخرى لحقوق الناس غير أعطيات سلاطين وامراء وملوك الخليج والسعودية: حقوق مواطنين في العلم والعمل والسكن والصحة. وقد عبّر عبد الفتاح عن ذلك الهاجس في احدى قصائده إذ قال: «ومأساتنا حين اشتداد الحصار/ امتداد الذراع اليمانية للمغريات/ بحكم الجوار» («الكتابة بالسيف» بتوقيع «ذي يزن»)
ولكن في التحليل الأخير، تضافرت نزعة المساواة القبلية مع النزعة المعادية للبرجوازية الصغيرة على توليد توجُّس مرضي من أي نمو للقطاع الخاص أو للاستثمارات الخارجية، ولو بفتح المجال أمام استثمارات المغتربين، وذلك خشية تغلغل رأس المال او تسلّل مصالح أجنبية يلوح وراءها دائماً شبح عودة السيطرة الاستعمارية.
من جهة أخرى، أسهمت الهجرة الريفية الى المدن وتنامي فرص التعليم وتحسين الوضع الصحي للسكان في شفط القطاع العام والإدارة والحزب القسم الأكبر من فائض العمالة، وتكوّن جهاز بيرقراطي يعيل أكثر من ربع سكان البلد ناهيك عن الجهاز الحزبي. بلغ المتفرّغون الحزبيون نسبة مذهلة، إذ كان عددهم 20 ألفاً من أصل مجموع يبلغ 25 الفاً، بناء على أرقام 1978، علماً أن نسبة العمال والفلاحين الى مجموع الحزبيين لا تتعدّى 26 في المئة (13.2 و12.8 في المئة على التوالي)، ما يعني أن أكثرية الحزب كانت تنتمي إلى العاملين في الإدارة الحكومية والقطاع العام وبعض المهن الحرفية والتجارية والحرّة. ناهيك عن أنه ليس من المؤكد إطلاقاً أن العمال والفلاحين من أعضاء الحزب لم يكونوا في كثرتهم من العاملين في قطاع الدولة!
ولعل هذا يلقي ضوءاً إضافياً على الصعوبات الكبيرة التي واجهها البلد ذو «دولة الرعاية» المسرِفة والتضخم البيرقراطي عند وقف المساعدات السوفياتية وهو المدين بلا أقل من مليار دولار. لم يبقَ لحكم اليسار، بعد اكتشاف محدودية الدعم السوفياتي، الا انتظار النفط. ولكن انفجر نزاع داخلي دموي في كانون الثاني 1986 قبل أن ينعم البلد بعائداته.
يبقى أن الميزة الاكبر للتجربة انها لم تعرف الهدر والفساد على نطاق لافت. ولا تولّدت عنها برجوازية دولة. ولعل عدم نشأة هذه الأخيرة عائد بالدرجة الأولى لفقر البلد ولانغلاقه امام الاستثمارات الخارجية، أكثر منه لأي اعتبار آخر.
( 2 )
يصعب الحديث في التركيبة الاجتماعية في اليمن تحت حكم اليسار وما تعرّضت له من تحوّلات. ذلك أن التجربة لم تترك وثائق كثيرة يُعتمد عليها في هذا الصدد. لست أدري ما الذي حلّ بالوثائق الرسمية، وقد نقل الكثير منها الى صنعاء. اعلم ان في حوزة علي ناصر محمد قسماً كبيراً من الوثائق العائدة لحقبة ما قبل 1986 حملها معه حين مغادرته عدن. وأعرف انه صرف وقتاً طويلاً في إقامته الدمشقية في ترتيب ذلك الارشيف وهو يقول إنه بنى عليها مؤلَفاً لا يزال يتحفظ عن نشره او وضعه بتصرّف الباحثين. اما القطاع الاكاديمي والبحثي فلا يبدو أن التركيب والتراتب الاجتماعيين في البلاد حظيا باهتمام يُذكر لديه. ذلك أن علم الاجتماع في ظل سلطة «الحزب الاشتراكي» كان شبه معدوم. هذا ما تبيّن لي عندما، في آخر أيام التجربة، خطر لي تجميع موادّ قصد دراسة التركيب الاجتماعي للبلد، وما قد طرأ عليه من تحولات منذ الاستقلال. قصدتُ رئيس جامعة عدن وسألته إن كان بإمكاني الاطلاع على ما قد أنتجه الأساتذة والطلاب من أبحاث ودراسات في مادة علم الاجتماع. فصعقت عندما أبلغني أن برنامج التعليم في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية التي تتبع المنهج السوفياتي لا تحتوي على مادة علم الاجتماع، وأن مادة المادية الجدلية قد حُلّت محلّها. وهكذا، فإن السلطة السياسية التي حكمت باسم الاشتراكية العلمية والطبقة العاملة لم تترك لنا اي اثر يذكر عن التركيب الطبقي والتراتب الاجتماعي، لا على الصعيد الوطني العام ولا على الصعيد القطاعي او المحلي، على امتداد ربع قرن من حكم اليسار لجنوب اليمن.
ليس بإمكاني قول الكثير عن التركيب القبائلي لجنوب اليمن، وقد ضُرِب حرمٌ مضمر على اعلان الانتماء القبلي والمناطقي اصلاً. والقليل الذي اعرفه عنه انه أقل تماسكاً وأكثر تذرراً مما هو في الشمال، يمكن على الاقل إلقاء نظرة ولو تقريبية على تحولات هذا التركيب في العهد الاستقلالي من خلال المشاهدة العيانية.
أدى سقوط حكام المناطق، واعتقال عدد منهم وهرب معظمهم الى الخارج، الى قطع رأس معظم المشيخات القبلية والى انقلاب كبير في توازنات السلطة والتراتب الاجتماعي في عموم الجنوب. حلّت محل هؤلاء قيادات جديدة خارجة من الكفاح المسلّح تنتمي عموما الى قبائل وأسر ومناطق مفقرة بل ودونية او مهمشة. هكذا تولدت تراتبات جديدة يتربّع في قمتها الافراد بحسب أدوارهم في الكفاح المسلّح (الاولوية لقادة الفدائيين في الأرياف والعاصمة: عبد الفتاح، سالمين، مقبل، مطيع، عبد العزيز عبد الولي، محمد سعيد عبدالله، علي عنتر، صالح مصلح، علي شايع، الخ.). وغالباً ما كان هؤلاء القادة الجدد ينتمون الى فئات عمالية او حرفية او الى موظفي الحكومة او القطاع الخاص في المدن، ولكنهم في الغالبية الكاسحة من الريفيين (عبد الفتاح عامل متدرّب في المصفاة؛ عبد العزيز عبد الولي، موظف في محل تجاري؛ مطيع، موظف بريد، وهو من القلائل الذين حازوا الشهادة الثانوية مثله مثل علي البيض)؛ محمود عشيش، محاسب في مصرف بعدن؛ علي ناصر محمد، مدرّس ابتدائي؛ سالم ربيع علي، حاجب في محكمة؛ محمد سعيد عبدالله، موظف في القاعدة البريطانية؛ الخ. تكوّنت شبكات محسوبية وولاء بناء على هذا التراتب الاجتماعي الجديد، الذي غلب عليه الانتماء الجهوي أكثر منه القبلي، من دون ان يقتصر عليه، كما في اي نظام محسوبية.
وكان أول مستوى من النزاعات هو التنافس على التوظيف وتوزيع خدمات الدولة بين المناطق. وذلك على قاعدة الندرة الشديدة والفقر العميم، على اعتبار ان «الفقار يولّد النقار» كما يقول المثل اللبناني. اي اننا نتحدث عن تمييز في ظل الحرمان المشترك. اذكر على سبيل المثال المظلمة اليافعية ضد عهد علي ناصر محمد لانه أنفق ميزانية طريق عدن – يافع على بناء «فندق عدن» الفخم والمكلِف في بلد لا سياحة فيه ولا استثمارات خارجية تبرر تجهيزاً سياحياً من هذا النوع.
( 3 )
كشفت تجربة الوحدة اليمنية العطب الفكري الدائم عند القوميين. وهو الخلط بين الظرفي والتاريخي، بين الاستعجال القومي وتوازن القوى في السلطة خصوصاً، وذلك في اطار من النظر الى العالم العربي بما هو أمّة مكتملة التكوّن والنمو قد تمّت تجزئتها بفعل مؤامرة غربية مستمرة منذ اتفاقية «سايكس – بيكو» يشكل العرب أنظمة وحكومات وشعوباً، بلا تمييز، ضحاياها المستكينين لا يد لأحد منهم فيها.
والافتراض القومي هو أن الوحدة العربية قائمة وطبيعية وان التجزئة هي الشواذ والمصطنع. وفي الظن أن تحقيق الوحدة بمثابة عودة الامر الى طبيعته لا يتطلّب اي جهد ولا اي مسار ولا اي صناعة، اللهم غير إزالة الحدود. في حين ان العكس يكاد ان يكون هو الصحيح.
في اليمن، كان الافتراض السائد أن البلاد قد جزّأها الاستعمار. وفصل جنوب اليمن عن شماله المنظور إليه عادة على انه الوطن الام. من هنا فكرة تشطير البلد الى شطرين. علماً ان البلد لم تعرف أجزاؤه حالة وحدة لمئات السنين بل ربما انها لم تعرفها في كل تاريخه. ثمة ممالك شملت هذا الجزء منه او ذاك. مهما يكن، المقصود ان عملية التوحيد ليست مجرد اعادة الامور الى «حالتها طبيعتها»، وانما هي مسار تراكمي من بناء مؤسسات مشتركة ونظام اقتصادي واجتماعي وسياسي مشترك يسهل عملية الاندماج من ضمن احترامه التعدد، وبناء علاقات مشتركة، بل ركائز حياة مشتركة.
يكفي النظر الى تجربة الجنوب، المستعرضة اعلاه، للتأكد من مدى الصعوبات العملية لتوحيد بلد لا يتجاوز سكانه الثلاثة ملايين نسمة، عاشوا خلال قرن ونصف على الاقل في ظل 24 إقطاعة وتحت حكم السلطات المشيخية وفي نظام من التكوينات القبلية والاسرية والمناطقية في ظل مؤسسة الثأر.
مهما يكن، اتضح أن الاشتراكيين لم يملكوا مقاربة بديلة في موضوع الوحدة والتوحيد عن المقاربة القوموية. كانوا مركزيين لا يمكنهم تصوّر صيغة فيدرالية او كونفدرالية ولو بما هي مرحلة انتقالية نحو الوحدة الاندماجية. وكانوا انفراديين نخبويين طليعيين، يؤمنون ان ما تراه الطليعة هو ما يجب ان يراه الشعب. فلم يخطر في بالهم تنظيم استفتاء شعبي مثلاً لجس نبض المواطنين تجاه موضوع مصيري مثل ذلك الموضوع. او حتى الاستقواء بقوة الناس في المفاوضات للتمسك بالحد الادنى من منجزات تجربة الجنوب في ظل الوحدة. تصرّفوا بصفتهم حزباً حاكماً يعقد شراكة مع حزب حاكم آخر على الحكم المشترك للبلد الواحد. والاصح القول إن حاكما فردا اتفق مع حاكم فرد آخر على الوحدة، بما هي الانتقال من الانفراد بحكم بلد واحد الى الشراكة على حكم البلد الاكبر والأغنى.
وكم كان ساذجاً مَن تصوّر حينها من قادة «الحزب الاشتراكي» ان التخلي عن التجربة الاشتراكية سوف يلقى مكافأة هي الشراكة في حكم اليمن ككل، برغم من التفاوت الكبير في عدد السكان وتوازن القوى بين الشمال والجنوب، ناهيك عما سوف تستتبعه الوحدة من انقلاب ديموغرافي بين زيود وشوافع في اليمن الموحّد. فليس من قبيل الصدفة ان يقف صف كامل من القيادات الشمالية ضد فكرة ان يخلف نائبُ الرئيس الرئيس في حالة الوفاة. لأن في ذلك تغييراً في الهوية المذهبية – السياسية للحاكم مطلق الصلاحيات.
طبعاً، كان لدى الجنوب نقاط قوة عديدة يمكنه ان يفاوض عليها ويحوّل عملية الوحدة مساراً لتطوير للنظامين معا لا استسلاماً الواحد منهما للآخر، خصوصا ان ثمة قوى كبيرة في الشمال توسمّت في الوحدة امل التحويل الديموقراطي للنظام الشمالي وكسر وحدانية حكم علي عبدالله صالح وحزبه، ليس أقلّها جمهور الجبهة الوطنية الديموقراطية من يساريين وقوميين وجمهوريين وديموقراطيين – وأبدت كل استعداد للإسهام بقوة في ذلك التحوّل.
بعد اطلاعي على مذكرات جارالله عمر، علمتُ ان هذا القائد واسع الخيال دعا الى مرحلة انتقالية لبضع سنوات يتمكن فيها الجنوب من تحقيق أمرين: الاول، السيطرة على موارده النفطية وتنميتها ومراكمة مداخيلها ما يمنحه بعض القوة الاقتصادية في مفاوضات الوحدة. والثاني، التحويل الديموقراطي للنظام الجنوبي، بما في ذلك تحقيق التعددية الحزبية والاعلامية، بحيث تشكل الوحدة إسهاماً في التحويل الديموقراطي للنظام في الشمال. لكن جارالله لم ينجح في كسب قوة يعتدّ بها في الحزب او السلطة. ردّ علي البيض وأنصاره على الاقتراح الاول بشعار «الوحدة قبل النفط»، على ما يروي جارالله نفسه. وردّ على الثاني، بالتمسّك بنظام الحزب الواحد في السلطة، وإن يكن بوهم ان تمارَس السلطة في اليمن الموحّد برأسين. وانها لمفارقة ساخرة ان يكون «الشمالي» جارلله عمر هو مَن يدعو الى مرحلة انتقالية يجري في ظلّها هذان الإجراءان البالغا الأهمية، فيما التسرّع والنزعة الاندماجية المركزية والتخلي عن اي اهتمام بالتغيير في النظام السياسي والاقتصادي – الاجتماعي، يتجسّد في «الجنوبي» علي سالم البيض.
الفاجع ان ما بدا على انه صفقة توحيد غير متكافئة انتهى العام ١٩٩٤ بغزوة سلب ونهب وسبي وإخضاع تحت رايات تكفير «الشيوعيين» لم تلبث ان استدرجت ابشع ردود الافعال الجنوبية ضد الشمال والشماليين بما فيها الارتداد الى «الهوية العربية» – كما صاغها الاستعمار البريطاني زمن «اتحاد الجنوب العربي» ـ ووضعِها في مواجهة الهوية اليمنية للمحافظات الجنوبية.