المواطن/ كتابات – وميض شاكر
انتجت العزيزة بشرى المقطري منتصف هذه السنة كتابها “ماذا تركت وراءك”، كتاب يسرد أنين الأصوات المنسية في حرب اليمن.
في الكتاب ما يفوق الـ (50) فصلا، كل فصل يوثق ويحكي تجربة خاصة جدا للفقد، تجربة لا نستطيع نحن الناس العاديون من أن نجد لها وصفا ولو اجتهدنا، تجربة لا توصف إلا بلسان من يكابدها!
تجربة كمثل أن تهرع أم في تعز إلى سقف منزلها لتجد طفلاتها الثلاث جثثا ممزقة مدمية، أو كأن ينظر شيخ مسن في مزرعة ببني حشيش إلى منزل ابنه وأحفاده يحترق بمن فيه، أو… حقيقة لا أستطيع أن أكمل، كما لم استطع أن أكمل كتاب بشرى، الذي قرأت عشر قصص منه فقط. لقد استنفذت كل قصة فيه يوما كاملا مني، على الرغم من أن القصص لا يزيد طولها عن ثلاث صفحات.
كنت أقرأ القصة أحيانا في ساعة، لأنني اضطر أن آخذ استراحة ونفسا طويل أعود خلاله إلى واقعي وانغمس فيه وأحمد الله، غير أني لا ألبث هكذا حتى ينتابني قلق وشعور باللأمان، فألملم أطفالي في حضني. أحيانا، كنت أنظر لسقف المنزل وأخبره كيف أنه أصبح بطلا في هذه الحرب وقد كان مهملا في الماضي ما من أحد ينظر اليه، وأتمنى عليه أن يرعى المعروف بيننا ويبقى على حاله ولا يفكر في الاقتراب منا!
وثقت بشرى ما يزيد على 200 حادثة لقتل المدنيين في محافظات كثيرة في اليمن، وذهبت اليهم جميعا تقابلهم وتجمع دموعهم وحسراتهم، البعض منهم تحدث، البعض أشعل سيجارة، البعض كان مشغولا بقضم اظافره، البعض شغلهم ارتجاف إيديهم عن مواصلة الحديث، والبعض بكى وما من حديث.
قامت بشرى باختصار كل ما قيل وما لم يقل في سرد أدبي غاية في السلاسة والبلاغة، وهنا حاصرتني الدهشة والاعجاب، فما فعلته بشرى بالنسبة لي كان معجزة، إذ من أين لبشرى كل هذا الجلد النفسي، كل هذه القوة التي تجعلها ليس قادرة على مقابلة الناس المكلومين والسماع لجروحهم فحسب، بل وإعادة كتابتها بشكل نص أدبي بديع؟! من أين لها كل هذه القدرة على التركيز والاتزان والابداع أيضا.
حين قابلتها احتفالا بصدور الكتاب، قلت لها أخشى على صحتك من هذا الكتاب!
بشرى العزيزة اليوم في القاهرة، تخضع لفحوص طبية مكثفة إثر اكتشاف ورم حميد في رأسها، ستخضع في غضون الأيام القليلة القادمة لعمليتين، واحدة في الرأس وأخرى في الأذن، وسندعي لها بالشفاء الكامل، لكن ليس الدعاء هو المطلوب منا فقط، بل الثقة والأمل الكبيرين بالشفاء، هكذا قال لي العزيز صادق Sadeq Ghanem، زوج بشرى، قال لي أطلب من جميع الأصدقاء التفاؤل، التفاؤل وحسب.
قبل شهر تقريبا، سافرت بشرى لبيروت لتحضر حفل توقيع كتابها في دار رياض الريس، ناشر الكتاب، وحدثتني انها ستمر الى القاهرة ترانزيت لإجراء بعض الفحوصات، سألتها ما بك؟ قالت عيني اليسار تتقفل لوحدها، قلت لها هذا مع البرد يمكن لا تقلقي!.
كانت رحلة بشرى في بيروت مزدحمة بين فعاليات نشر الكتاب، ولقاءات أدبية، وأخرى مدنية أو سياسية للحديث عنا وعن يمننا، ولقاءات صحفية منها لقاء مع جوزيل خوري في برنامج المشهد على قناة بي بي سي، كانت تحضر كل هذا وهي لا تسمع جيدا، وتعاني من عدم اتزان في جسدها، وتجاهد لجعل عينها مفتوحة أمام الآخرين.
لا أدري كيف تتحمل كل هذا، لكنها بشرى!