المواطن/ كتابات – خضر زكريا
أظهرت ثورات الربيع العربي عموماً، والثورة السورية خصوصاً، أن الانتماءات التقليدية ما قبل الوطنية (القبلية، الطائفية، العشائرية، الجهوية، الإثنية…) ما زالت متجذرة في الوعي الشعبي في البلدان العربية، وأن التصور الذي ساد لدى باحثين اجتماعيين وسياسيين عديدين أن عمليات التحديث التي تمت في معظم تلك البلدان بعد الاستقلال أدت إلى تجاوز تلك الانتماءات، لم تكن مبنية على قراءة متعمقة لواقعها المجتمعي، إذ برهنت أحداث السنوات الأربع الماضية على بروز واحد أو أكثر من تلك الانتماءات في بلدان الربيع العربي (وفي بلدان عربية غيرها)، وإن اختلفت فيما بينها في النوع والدرجة.
ففي تونس، حيث اشتعلت أولى ثورات الربيع العربي، برزت الجهوية (شمال- جنوب، ساحل- داخل) كإحدى المحركات الرئيسية للثورة، وفي ليبيا كانت القبلية أقوى ظهوراً، وفي اليمن اختلط العامل القبلي بالعاملين، الطائفي والجهوي، وفي مصر شكل العامل الديني (مسلمون- أقباط) واحداً من العوامل المؤثرة في الأحداث، وإن لم يكن العامل الأهم. وفي سورية، تجلت الطائفية بأشد أشكالها في الاستقطاب بين النظام ومعارضيه، كما برزت المسألة الكردية التي كانت حاضرة دائماً، لكنها صارت تشكل إحدى محركات الصراع الرئيسية، منذ اندلاع الثورة السورية، وأخذت إثنيات أخرى عديدة تعمل على استعادة هويتها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا عادت هذه الانتماءات إلى الظهور بهذه الأشكال الحادة بعد الثورات؟ وهل قامت أنظمة ما بعد الاستقلال بتفكيكها بالفعل، أم أن الأمر اقتصر على تغطيتها بأغطية هشة، تداعت عند أول هزة جدية لها؟
بداية، لا بد من التمييز بين الانتماء، بوصفه واقعاً موضوعياً، وتعاظم الشعور به، بحيث يتفوق على غيره من الانتماءات، أو يكاد يتحول إلى الانتماء الوحيد في بعض الحالات. فالمرء يرث حاله من دين أو طائفة أو قبيلة أو إثنية… معينة، كما يرث حاله ابن عائلة معينة ومن منطقة معينة، من دون أن يكون له دور في اختيار ذلك الانتماء. إنه واقع موضوعي، لا علاقة له بالإرادة أو الوعي. والتنوع القبلي والطائفي والإثني في بلد ما ليس، بالضرورة، مصدراً للصراع، بل قد يشكل، في حالات معينة، مصدراً للغنى الثقافي للبلد المعني. غير أن أهم شرط لعدم تحول الانتماء إلى طائفة أو قبيلة أو إثنية إلى عامل للصراع يتمثل في ديمقراطية النظام السياسي والحياة الاجتماعية. والأنظمة السياسية العربية، في محاولتها تحديث الهياكل المدنية في بلداننا على مدى أكثر من نصف قرن بعد الاستقلال، لم تتمكن من إلغاء الإرث الاجتماعي الثقافي للهويات ما قبل الوطنية. ذلك أنها حاولت تحديث البنى الاجتماعية قسراً، بواسطة أجهزة الدولة البيروقراطية والأجهزة الأمنية القمعية، فأنشأت بذلك أنظمة استبدادية مافيوية، تسلطت على رقاب الناس، ونهبت خيرات البلاد وأفقرت أبناءها، واستخدمت كل وسائل القهر والإذلال للإبقاء على سلطتها. ولم يجد الناس وسيلة للاحتماء من سلطة أجهزة الدولة وعسفها سوى اللجوء إلى قبائلهم أو طوائفهم أو إثنياتهم، والتي ظل الشعور بالانتماء لها كامناً، لم تمحه الخطابات المزيفة حول التحديث والقومية والاشتراكية وغيرها.
“أهم شرط لعدم تحول الانتماء إلى طائفة أو قبيلة أو إثنية إلى عامل للصراع يتمثل في ديمقراطية النظام السياسي والحياة الاجتماعية”
يتطلب تفكيك البنى التقليدية أنظمة مدنية ديمقراطية حقيقية، تؤسس للشعور بالمواطنة المتساوية التي تحل محل الشعور بالانتماء إلى الطائفة أو القبيلة أو الإثنية، عن طريق تحولات اجتماعية اقتصادية، تحقق العدالة الاجتماعية، وترتقي بمستوى الناس المعيشي. أما عندما يرى الناس أن حكامهم يضطهدونهم ويسلبونهم خيرات بلادهم، فإنهم يكتشفون زيف الشعارات الوطنية والقومية وما شابهها، ويتحول كثيرون منهم إلى قبليين أو طائفيين أو متعصبين لإثنيتهم، الطائفية، إذن، مثلها مثل القبلية والجهوية والعائلية، هي إعلاء الانتماء إلى الطائفة (وكل الانتماءات الأخرى ما قبل الوطنية) على الانتماء الوطني أو القومي. وعندما يتعمق الشعور الطائفي، تبدأ القوى السياسية المختلفة باستغلاله لصالحها. هكذا، يستغل نظام الأسد الطائفة العلوية في سورية بتخويفها من “الأكثرية” السنية التي ستبيدها إذا استلمت السلطة، وهكذا تستغل داعش وأخواتها الطائفة السنية بإبراز المظالم التي تتعرض لها من النظام “النصيري”، وهكذا تستغل إيران الطوائف الشيعية في البلدان العربية، بتحريضها على حكوماتها “السنية” الظالمة الطائفية (والقبلية والعشائرية والجهوية والعصبية الإثنية…) هي تزييف للوعي الاجتماعي. هي محاولات لتغطية الطبيعة الحقيقية للصراع: بين حكومة مستبدة فاسدة وطبقة طفيلية متحكمة بثروات البلاد، وبين شعب مضطهد ومُفقر ومهدور الكرامة.
والطائفية لا تعني التمسك بإيديولوجية طائفة ما، بل تعني الاعتماد على طائفة معينة، لتحقيق مكاسب معينة (طبقية أو سياسية أو غيرها). وهي الاستناد إلى الطائفة في تبرير الهيمنة والسيطرة وتهميش الآخر. ولا يهم هنا الإيمان بأيديولوجية الطائفة، ولا حتى معرفة تلك الإيديولوجية. والبحث في الطائفية لا ينبغي أن “يُشيطَن”، كما لا ينبغي أن يحل محل البحث في القضايا الاجتماعية- السياسية الأخرى، كقضايا التنمية والتحديث والعدالة الاجتماعية، أو قضايا الوطنية والمواطنة التي ينبغي أن يعلو الانتماء إليها جميع الانتماءات الأخرى.
علينا، نحن الباحثين، ألّا نخشى الخوض في هذه الظواهر، تجنباً لتهمة الطائفية، بل علينا أن ننخرط في بحث مآل ظاهرة الطائفية، وتحولاتها المحتملة. تكونت البُنى التجمعات (الطائفة، والقبيلة والعشيرة، والإثنية وما شابه) عبر التاريخ، وتكونت لها خصائص، صارت تؤثر في الحراك السياسي، شأن الخصائص الطبقية وغيرها. وعلينا التفكير بآليات ورؤى جديدة، وأن نعيد النظر في مفاهيمنا ومقولاتنا التقليدية التي درجنا عليها زمناً طويلاً، بعيداً عن التعميمات التي كوناها بتأثير الإيديولوجيات الفكرية والسياسية. علينا أن لا نشيطن الانتماء الطائفي أو القبلي أو الإثني. فالناس، بطبيعتهم، يعودون إلى هذه الانتماءات في أوقات الأزمات والصراعات.
وليس مستغربا أن تعود إلى الصراع مجموعاتٌ سكانية ذات أصول طائفية، أو قبلية مختلفة تعايشت عقوداً، وربما قروناً، عندما يتهدد وجودُها، أو مصالحها.
لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى خطأ، يزداد شيوعاً هذه الأيام، هو المتعلق بمفهوم الأكثرية والأقلية. فهناك من يدّعي أن الطائفة التي تشكل الأكثرية، في بلد ما، هي التي ينبغي أن تتسلم السلطة السياسية، قياساً على المبدأ الديمقراطي القائل بحكم الأكثرية، غير أن مفهوم الأكثرية والأقلية في الديمقراطية مفهوم سياسي، وليس طائفياً (أو قبلياً أو إثنياً…). الأكثرية الطائفية أو القبيلة أو الإثنية غالباً ما تبقى هي نفسها بمرور الزمن، أما الأكثرية السياسية فقد تتحول إلى أقلية في دورة انتخابية واحدة أو عدة دورات. وبهذا، تتبادل الأقلية والأكثرية الأماكن في الحكم والمعارضة. وهذا من أبسط مبادئ النظام الديمقراطي الذي تتطلع إليه شعوبنا العربية.