المواطن/ خاص – أحمد الصياد
كثيرة هي الأحداث والمتغيرات التي شهدتها الساحتان اليمنية والدولية خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجديد. سقطت أنظمة وانهارت جدران، واختفت تجارب وتلاشت نظريات، وتغيرت الكثير من المفاهيم والقيم، وتراجع كثيرون عن آراء كانوا يطرحونها وعن ايديولوجيات كانوا يؤمنون بها. توحّد الوطن اليمني وأصبحت حرية العمل السياسي العلني والتعددية الحزبية والإعلامية والحق في الاختلاف في الرأي والجهر به، على الأقل في الجانب النظري، من أهم انجازات الوحدة وأروع ما حققه الإنسان اليمني في هذا العصر.
غير أن هذا الانجاز الحضاري والسلمي تعرض للإجهاض عندما أقدم نظام علي عبد الله صالح، الذي لم يكن صالحاً في شيء، على اغتيال عدد من قادة وكوادر الحزب الاشتراكي، تلي ذلك إشعاله للحرب العبثية التي أدت إلى تحطيم الوحدة الطوعية وحولت الكثير من أنصارها إلى دعاة للانفصال بين جنوب الوطن وشماله. ومع إطلالة العقد الثاني من هذا القرن الجديد، جاء «الربيع اليمني» ليعيد الأمل في الوحدة ويضيف انجازاً جديداً إلى ما حققه الإنسان اليمني في نضاله الدائم من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة، وبذلك اندثر حلم توريث الحكم، وبدأ تفكيك النظام العائلي الحاكم. وخلال هذه المسيرة النضالية الطويلة، كانت الحركة التقدمية اليمنية بشكل عام وقوى اليسار بشكل خاص في طليعة الجماهير في مقاومتها لأنظمة الحكم الظلامية والقمعية، وبرهن اليسار اليمني أنه كان رائداً في كثير من الانجازات الوطنية الكبرى.
كان اليسار، ومعه قوى أو عناصر ملتزمة أو غير ملتزمة فكرياً وتنظيمياً، قد اضطلع بدور ريادي في قيادة الأحداث وتأسيس الحركات السياسية والنقابية، وانجاز التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وكان على الدوام في الخطوط الأمامية المدافعة عن مبادئ الثورة والجمهورية، والتصدي للمؤامرات على الشعب اليمني في مختلف مراحل تاريخه السياسي.
فقد كان اليسار بكل تسمياته واتجاهاته صاحب المبادرة والريادة في حشد وتنظيم الجماهير حول ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢. وبذلك تحقق الالتفاف الجماهيري العظيم، مما أعطى لسبتمبر بعداً ثورياً تجاوز طموح مجموعة الضباط الوطنيين الذين أطلقوا شرارة التغيير، لتصبح ثورة حقيقية تهم في المقام الأول جماهير الشعب المحرومة وقواها التقدمية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسة التنظيمية.
وكان اليسار بجميع عناصره المدنية والعسكرية في طليعة القوى المدافعة عن الثورة والجمهورية، وقدم تجربة ثورية متميزة عندما أسس المقاومة الشعبية بهدف الدفاع عن الثورة وحماية عاصمة الجمهورية المحاصرة إبان ملحمة السبعين يوماً التي قدم اليسار خلالها نخبة من عناصره المدنية والعسكرية في معركة الصمود وصنع الانتصار العظيم. ولا يوجد اليوم أي مؤرخ منصف للتاريخ ومتابع للأحداث وعِبَره يشكك في دور المقاومة الشعبية في دحر القوى المحاصرِة والكشف عن طوابيرها المندسة ليس في العاصمة المحاصرة فحسب، بل في أكثر من مدينة يمنية. لقد أصبحت تجربة المقاومة الشعبية في ذمة التاريخ، ولن يخجل اليوم أي يساري أو تقدمي عند الحديث عن هذه التجربة الثورية الفريدة. وإلى جانب النضال العسكري، خاض اليسار خلال تلك الفترة نضالاً آخر من أجل بناء دولة المؤسسات، دولة النظام والقانون، دولة المساواة والعدالة والحريات لسائر أبناء الشعب. ويتذكر الجميع الصراع المرير بين الجديد والقديم عندما بدأ بعض المتخرجين من الجامعات العربية وغير العربية، والكثير منهم ينتمي لليسار، العمل من أجل تأسيس النظام النقدي والمالي، وبناء الإدارة الحديثة، والسعي الى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، في وقتٍ كانت فيه أجهزة القمع تلاحق هذه العناصر اليسارية وتعتقلهم، لدرجة أن أجهزة الأمن كانت تخرج البعض منهم من السجن لاعداد وثيقة أو مشروع الموازنة وتعيده بعد أن ينتهي منها إلى غياهب السجون وأقبية القمع والظلام.
اليسار اليمني رائد حلم التغييرات الكبرى
قد قوبلت المواقف المشرِّفة والمبدئية والعصرية لقوى اليسار بالقمع والملاحقة والنفي في جميع أنظمة الحكم التي تعاقبت على السلطة في الجمهورية العربية اليمنية. ويكفي على سبيل المثال لا الحصر أن نذكر المناضل اليساري والمفكر التقدمي يحيى عبد الرحمن الإرياني الذي تعرض لقمع أجهزة الأمن حتى في فترة حكم والده القاضي عبد الرحمن الإرياني بتهمة الانتماء إلى الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ورئاسة تحرير صحيفة «الحقيقة» التي أصدرها في تعز وكانت قريبة من الحزب. فقد تعاقبت جميع أنظمة الحكم في صنعاء على قمع قوى اليسار وأعدمت أو اغتالت العشرات منهم، ونفت بعضهم أو أخفت الكثير منهم. وكانت مرحلة حكم علي عبد الله صالح الأكثر عنفاً وبطشاً ودموية، حيث أعدم الكثير من العسكريين والمدنيين دون محاكمة، ولو صورية، ودون أن يعلم أهلهم حتى اليوم أين تم إخفاء جثثهم. ولاحقت أجهزة حكم صالح قوى اليسار من مدنيين وعسكريين وسجنت وعذبت العشرات حتى أصيب البعض منهم بالجنون أو الشلل. أما المخفيون، فلا يعرف مصيرهم حتى الآن. ومنعت أجهزة قمع صالح الكثير من العناصر المؤهلة من التدريس في الجامعات والمؤسسات العلمية ونفت البعض إلى بلدان الشتات، ولاحقتهم في هذه البلدان حيث واصلت سفارات النظام وضباط ما يسمى بالأمن الوطني ملاحقة هذه العناصر المنفية وتهديدها بالوصول إليها وقتلها خارج البلاد.
أما تجربة اليسار في ما كان يسمى بالشطر الجنوبي من اليمن فهي غنية بانجازاتها في أكثر من محطة مرت بها. فقد كان اليسار رائد النضال المسلح الذي نجح في دحر المستعمر البريطاني وإخراجه، وأقام اليسار تجربة ثورية في الجنوب اليمني تختلف عن التجارب والأنظمة التي عرفتها المنطقة العربية من المغرب العربي حتى المشرق العربي. وواجه اليسار أثناء سعيه لاقامة تجربته الثورية الجديدة القوى الرجعية الظلامية ومعها الإمبريالية العالمية، منذ بداية التجربة وحتى نهايتها. وعلى الرغم من كثرة المحن وشحة الموارد الاقتصادية والمالية وضبابية الرؤية السياسية وانعدام الخبرة الإدارية وقلة الكوادر الحزبية والتكنوقراطية التي يمكن أن تسهم عملياً وعلمياً في بناء التجربة المنشودة وفق واقع البلد واحتياجاته، كان اليسار صادقاً في توجهه مؤمناً باختياراته متجرداً عن مغريات السلطة وهو يمارسها، ومبتعداً عن نهب الثروة وهو يجتهد في تنميتها واستخدامها لصالح الثورة وقواها الأساسية ومنجزاتها الاقتصادية. لقد أصبحت هذه التجرية اليسارية الوحيدة في العالم العربي في حكم التاريخ، ومن حق كل فرد أو جماعة أن يقيِّمها ويحكم عليها وفقاً لخلفيته الاجتماعية والسياسية وقناعته الفكرية وانتمائه الحزبي، مع الأخذ في الاعتبار – مَن تضرر ومَن استفاد، مَن دعم التجربة بقناعة وإيمان ومَن عارضها لأسباب اجتماعية وسياسية وإيديولوجية، وربما في المقام الأول دينية.
للجميع اليوم الحرية الكاملة أن يقيِّم وأن يشيد أو ينتقد. فالحوار والاختلاف من أبجديات الحياة بكل أبعادها وجوانبها، وفي المقدمة الجانب السياسي. وأنا على قناعة بأن كل منصف للحقيقة وكل من يعرف طبيعة التجربة والفترة التي مرت بها طبيعة الأوضاع الوطنية والإقليمية والدولية السائدة آنذاك، وصدق الرجال والنساء الذين كانوا يحلمون بنجاح تلك التجربة، سيعطي لهذه التجربة الكثير من الجوانب الإيجابية أكثر من الهفوات والسلبيات التي لا يمكن إنكار أنها رافقت بعض الجوانب التطبيقية.
عبد الفتاح اسماعيل، الامين العام للحزب الاشتراكي اليمني، في اجتماع شعبي.
إنصاف تجربة الجنوب
وهكذا فقد كان اليسار اليمني، رائد حلم التغييرات الكبرى في الشمال والجنوب، وقدم خيرة شبابه شهداء من أجل تلك المُثُل والمبادئ التي آمن بها وسعى وكافح لإنجازها. أليس من الإنصاف أن نتذكر اليوم، ونحن نسمع أصوات التجزئة وعبث نكران يمنية الجنوب ترتفع عالياً، أن اليسار وحَّد الإمارات والسلطنات المتناحرة أكثر؟ أليس من حقنا أن نفخر بأن اليسار الحاكم سابقاً في الجنوب جعل صوت اليمن في المحافل العربية والدولية مختلفاً عن اصوات ومواقف بعض الدول العربية المتآمرة على قضايا شعوبها وأوطانها؟ أيمكن لأي منصف لنفسه ولحقائق التاريخ أن ينكر أن الحزب الاشتراكي اليمني تخلى عن دولة من أجل إنجاز الوحدة، ذلك الحلم الذي رافقه في تاريخه كله، من التأسيس وحتى الحاضر؟ وبماذا قابلته قوى الانقلاب والانفصال والظلام؟ فقد كافأته على انجاز الوحدة باغتيال المئات من كوادره المدنية والعسكرية. وأعتقد أن الجريمة النكراء التي خطط لها التحالف السلطوي الاستخباراتي الظلامي باغتيال الزعيم اليساري جارالله عمر، الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، أمام حشد واسع من الناس وتحت تغطية إعلامية محلية وعربية ودولية، كانت رسالة واضحة لليسار تقول «هكذا تصل إليكم طلقات أسلحتنا وقذائفنا ليس في الشوارع أو داخل منازلكم فحسب، بل حتى في المؤتمرات وأمام أعين الملايين من الناس يمنياً وعربياً وعالمياً». وهكذا كانت تصفية المناضل جارالله عمر بتلك الطريقة رسالة لكل يساري ولكل وطني يحلم بتأسيس وطن جديد يسوده العدل والإنصاف وينعم أبناؤه وبناته بالحرية والديمقراطية والحداثة، وتسود المساواة الفعلية بين جميع أبنائه في الشمال والجنوب، وفي الشرق والغرب، في الداخل والمهجر. ورغم فداحة الخسارة بجارالله لم يرتدع اليسار، وحين حل الربيع اليمني كان لقوى اليسار وعناصره أدوارٌ مشهودة في المبادرة بالإعداد والتنظيم وتحديد المراحل والأهداف بالتعاون التام مع شباب التغيير والحركة الإسلامية وكل القوى المنضوية في تكتل «اللقاء المشترك» الذي كان الزعيم اليساري جارالله عمر قد أسهم في تأسيسه وتحديد أهدافه مع حرصه على تعزيز التنوع السياسي والتنظيمي والفكري لكل القوى والعناصر المكونة لهذا التحالف السياسي التاريخي.
ظالم ام مظلوم؟
بعد هذا السرد الموجز لسيرة اليسار وانجازاته، وللمِحَن والمؤامرات والتصفيات التي تعرض لها ولا يزال، ولسياسة إبعاد كوادره وأعضائه حتى بعد ربيع التغيير، نتساءل من جديد عما إذا كان اليسار اليمني ظالماً أم مظلوماً. من حق كل فرد، أكان كاتباً أم متابعاً، سياسياً أم غير سياسي، ملتزماً فكرياً وتنظيمياً أم غير ملتزم، في السلطة أم في المعارضة، أن يجيب كما يريد وفقاً لقناعاته وفكره. أما أنا فأعتقد جازماً أن اليسار قد تعرض لظلم جميع أنظمة الحكم المتعاقبة، ربما أسهم اليسار نفسه دون أن يدري في جلد ذاته وظلم نفسه عندما يتواضع ويمتنع عن التذكير بانجازاته، وينسى أن يرفع عالياً وعلى الدوام قوائم وأسماء شهدائه الذين قدموا حياتهم من أجل الحرية والديمقراطية وقيم التغيير والحداثة التي آمنوا بها وضحوا من أجلها.
ويعدّ البحث عن جثامين من أعدموا وعن المخفيين من قيادات اليسار وكوادره وأعضائه واجباً وطنياً وحزبياً وإنسانياً ومسؤولية أخلاقية. وتقع على كاهل الحزب الاشتراكي اليمني باعتباره أهم قوى اليسار اليوم، ومعه جميع قوى اليسار وعناصره سواء أكانت منظمة أم غير منظمة، أن ترفع عالياً هذه المطالب المشروعة وتعمل لإعادة الاعتبار لليسار وشهدائه.
لقد كان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، المفكر التقدمي، ياسين سعيد نعمان، محقاً عندما قال مؤخراً في إحدى محاضراته : «يخطئ اليسار عندما يتخلى عن انجازاته لغيره». نعم، كان اليسار ولا يزال صاحب رسالة وأسهم قولاً وفعلاً وتضحية في معظم الانجازات والتحولات الكبرى التي شهدها تاريخ اليمن المعاصر، على الرغم من الظلم الذي تعرض له في الماضي والحاضر، وإذا لم يُرفع هذا الظلم والتهميش ويُعد الاعتبار لكل من تعرض للقتل والتعذيب والمطاردة والنفي، ما لم تحسم جميع هذه القضايا الجوهرية المعلقة، ويتم تحريمها قانوناً، وما لم تتوقف ماكينة إصدار فتاوى التكفير بحق الكوادر السياسية والكتاب والمفكرين والصحافيين، ويُمنَع التعذيب بجميع أشكاله وصوره، فإن اليسار سيظلم ويُهمَّش ويُقصى من جديد، ويُعاد إنتاج ظلم الأمس واغتيالاته ومِحَنه لتفرّض في الحاضر والمستقبل.
ينبغي ألا ننسى ما قاله المناضل نلسن منديلا وهو يتذكر ممارسات النظام العنصري في جنوب أفريقيا : «يمكننا أن نغفر لكن ليس من حقنا أن ننسى».
* فصل من كتاب: اليسار اليمني.. ظالم أم مظلوم?