المواطن/ كتابات – محمد عبدالوهاب
لماذا هؤلاء والآن ؟
اعادة قراءة تراث التنويريين اليمنيين المبكر ،والتعريف به وبأصحابه، في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ اليمن ،يعد اسهاما حيويا في التقليل من تأثيرات الردة السياسية والنكوص الوطني الآخذان في التغلغل في الوعي الجمعي، بفعل ادوات الحرب ،ومشاريعها التفتيتية التي تحاول، قوى الاستبداد والتخلف ( التاريخي) اعادة انتاجها في الواقع . وان بدلت وقتها وادواتها وخطابها ، تظل هي نقسها قوى الاستبداد، التي عرى زيفها وتخلفها أولئك التنويريون ، قبل اكثر من ثمانين عاماً، حين وضعوا اول حروف اسئلة النهضة والثورة في سفر التنوير المبجل.
ليس ردا لاعتبار منجزهم الذي تعرض للنكران والاهمال والالغاء، وانما ايضا استلهاما لفكرة التمرد الخلاق الملهم لطريق الحرية والمواطنة، الذي بشر به هذا التراث ،في بلد يستحق ان يحيا ابناؤه بكرامة.
نافذة صغيرة
ظن النخبيون اليمنيون، مطلع عشرينيات القرن الماضي، ان باستطاعة الدولة التي استقلت عن الحكم العثماني غداة الحرب العالمية الاولى (1918) ،وفرضت سيطرتها على اليمنين ( الاعلى والاسفل ) ،الذهاب بعيدا نحو بناء دولة وطنية قوية وعصرية .
لكن بعد عقد ونصف من قيام (المملكة المتوكلية ) ،سيصحو اليمنيون من وهمهم الكبير، فالإمام يحيي احال مشروع الدولة الى اقطاعية خاصة به وبأبنائه. وبسبب عقليته التقليدية المحافظة ،وتشدده الديني وشحه الشديد، دمر كل شيء له علاقة ببناء دولة مواطنة وخدمات .
القليلون من مثقفي عاصمة الحكم، وبعض المدن اليمنية الاخرى، الذين كانوا يقرأون حالة النكوص هذه، عملوا كل ما يستطيعون ،ليصل صوتهم الضعيف الى المجتمع المغلق. وفي سبيل ذلك قدموا التضحيات الكبيرة، التي لم تقف عند حدود التسفيه و المطاردة، او تصل للاعتقال ،بل امتدت لتنتهي في حالات كثيرة الى حبال المشانق. غير ان فعلا مقاوما مثل هذا، كان يفتح النافذة الاهم لدخول النور القليل لفعل التغيير.
العام الكارثة وصوت (الانتلجنسيا) الناهض
مع عام الكوارث 1934(عام احتلال القوات السعودية تهامة ومدنها، والعام الذي وقع فيه الامام يحيي اتفاقية صداقة مع الانجليز)، بدأ صوتاَ جريئا يعبر عن رفضه لطريقة ادارة الامام للبلاد، بعقلية المالك المتزمت والمتعصب والمنغلق.
هذا الصوت ،خرج من ذات البنية الثقافية المحافظة، التي كرسها نظام الحكم ،وادار معاركه (الفكرية ) بنفس الادوات التي امتلكت، في ذات الوقت، اسلوبها البسيط ،في النفاذ الى عقول الكثير من المهجوسين بالسؤال الكبير: من نحن وماذا نريد ؟!.
وعبرت عن تجليات هذا الصوت طلائع التنويريين (العصاميين) ،الذين لم يأتوا من حواضن سياسية منظمة او مدارس فكرية حديثة ،فقط بإمكانياتهم المعرفية البسيطة، خطوا اولى الخطوات ،في الطريق الشاق والطويل لمعارضة السلطة الغاشمة، وتعرية ادواتها المستخدمة في الاستبداد الديني . واكثر الاسماء تمثيلا لهذا المنزع الجديد الشيخ حسن الدعيس ، الفلاح الفيلسوف، الذي حضر في معترك المركز بوعيه الجدلي المختلف والمؤثر، وهو الاتي من احد جبال اليمن (الاسفل) . وخلال فترة فصيرة استقطب العشرات من المثقفين الملولين من حكم الامام، والذين اصبحوا المشغل الفاعل في نواة المعارضة السياسية ،التي بدأت تتحسس طريقها الشاق من المقايل وحلقات المسجد ،متخذة من الخطاب الديني، وموضوعاته الاشكالية ،مدخلا لنقد منظومة الحكم ورأسها .
والى جانبه ظهر الاستاذ محمد عبد الله المحلوي ، الذي دخل هذا المعترك بوعي عصراني اكثر انفتاحا، بسبب احتكاكه المباشر بمعارضين عثمانيين، نفتهم السلطات العثمانية الى اليمن كنوع من العقاب، فاكتسب منهم اللغات وبعض علوم العصر ،التي قادته بدورها الي القراءات الفاحصة للفكر الديني ،الذي بواسطته كون شخصيته الثقافية الرائدة ” فحفظ الحديث و التفاسير ودرس التاريخ والرياضيات والطب واحوال البلاد الشرقية والغربية، ولولعه بالبحث والاستطلاع درس العهدين القديم والجديد عند حاخام صنعاء الكبير” يحي الابيض ” كما قال العزي صالح السنيدار في “الطريق الى الحرية”.
والى جوار الاثنين كان احمد المطاع ،الضابط المثقف وثاني رئيس تحرير لمجلة الحكمة بعد قتل رئيسها احمد عبد الوهاب الوريث ،وفيها استكمل ما ابتدأه الوريث من نشر موضوعات عن الاصلاح (الديني والسياسي) في حلقات متتابعة تحت عنوان (في سبيل الاصلاح) ،متخذا من موضوع اللغة محورا للمساءلة عن اسباب وعوامل انحطاط وسقوط الفكر. محاكيا وهو في الطرف القصي والمغلق ،ذات الاسئلة التي انتجتها المراكز الثقافية العربية آنذاك.
لقمان وسؤال النهضة المبكر
قبيل هذه الفترة بقليل، كان المحامي محمد علي لقمان في” مدينة عدن” يقارب سؤال النهضة والتنوير، بإصدارة كتاب (بماذا تقدم الغرب !؟) في العام 1933، والكتاب في توجهه العام خاض في السؤال المركزي ،الذي ظل يشغل الحيز الاكبر من تفكير النهضويين العرب ،وعد هذا الكتاب تمثيلا واضحاً للتوجهات التنويرية التي استوعبتها مدينة عدن ،التي شهدت في العام 1925ولادة اول ناد ادبي (ترأسه لقمان نفسه) ،وصولا الى تشكيل الاحزاب والنقابات فيها بعيد الحرب العالمية الثانية . وكان لقمان احد المؤثرين الحيويين فيها ،بخوض صحيفته “فتاة الجزيرة ” هذا المعترك بكل مفرداته الضاجة .
أنَة الطالب الازهري الاولى
في العام 1937 اصدر الطالب الازهري احمد محمد نعمان كتاب (الانة الاولى)، الذي عُد اول مطبوعة في ادبيات الاحرار اليمنيين، وهي حسب عبد الودود سيف “متميزة على مستوى مرحلتها الوطنية (التنويرية) “، وقدم فيها كما يقول الدكتور احمد القصير “رؤية مبكرة حول بعض جوانب التاريخ الاجتماعي لليمن و “شرحا لأسباب الهجرة واشكال اضطهاد الرعية باستخدام الامامة اساليب (الخطاط) و(التنافيذ) و(التخمين) في تحصيل الضرائب)” .
هذا الطالب الذي سيتحول بعد سبعة اعوام، الى قائد في حركة الاحرار الذي تشكلت في عدن في العام 1944 ،وكان اكثرهم ايمانا بالعلم كمدخل للتحول، لأنه رأى ،خلال رحلة تعلمه التي ابتدأها في العشرينيات في مدينة زبيد ،واتمها في الازهر اواخر الثلاثينيات، انه لا مناص امام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه الا بالعلم. وقد قضى النعمان سنوات كثيرة في تعليم الاخرين ابتداء من عمله في مدرسة “ذبحان الاهلية” ، حيث عاش الصدمة المعرفية الاولى مع الاستاذ (محمد احمد حيدرة) .
وحين قربه الامام احمد ،حين كان وليا للعهد، اوكل اليه تدريس ابنه البدر، وادارة المعارف . وفي حجة ، حيث كان مسجونا بعد فشل ثورة 1948، انشأ “المدرسة المتوسطة” لتعليم الاطفال ،وفي ندائه للشعب اليمني لدعم” كلية بلقيس ” التي افتتحت في العام 1961 في الشيخ عثمان بعدن قال ” لابد ان تعد مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة تعي جيدا احوال شعبها ،وتدرك المهالك التي طرح فيها بالمواطنين” لهذا عُد النعمان مثقفا عضويا “اتخذ التعليم مدخلا للإصلاح السياسي ورأي ان تنوير العقول هو اساس تطوير المجتمع والانسان” كما يرى هشام علي في كتابه “المثقفون اليمنيون والنهضة”
الحكمة واخواتها ومشروع الاصلاح والتغيير
في (ديسمبر 1938) صدر اول اعداد مجلة (الحكمة يمانية)، كوسيلة، من وسائل سلطة الامام يحيي، لاحتواء الصوت الشاب (من الادباء والمثقفين المطالبين بالإصلاح) بإيجاد متنفس يمكن السيطرة عليه، وكان ظهور هذا الصوت معبرا عن حالة السخط الشديد، الذي تملك هذه الشريحة جراء انتكاسة مشروع الدولة ،وانغلاقها المميت فكانت،(ببساطتها وبدائيتها ) اول مطبوع يصدر في عاصمة الامام يحيي، يفتح كوة صغيرة في جدار الانغلاق الصلب والمعتم .
وستعد (الحكمة) بالإضافة الى صحيفة (فتاة الجزيرة ) التي اصدرها الرائد محمد علي لقمان في عدن 1940 ،وصحيفة (صوت اليمن ) التي صدرت في 1946عن الاحرار، الاوعية الاهم التي استوعبت الصوتين المطالبين بالإصلاح والتغيير معا. لهذا ليس بمستغرب ان يكون قياديي هذه الصحف وكتابها من ابرز شهداء ثورة 1948 ومعتقليها .
اما (البريد الادبي) وهي (مجموعة رسائل شخصية ذات طابع ادبي و تبادلها فيما بينهم الادباء بين صنعاء وذمار وتعز في الاربعينيات) ،سينظر اليها كمكملة للحلقات الثلاث لأنها حسب الدكتور سيد مصطفى سالم” نتاج مرحلة تاريخية واحدة ، وخضعت لظروف سياسية ومؤثرات فكرية واحدة، لذلك كونت الحلقات في مجموعها تيارا فكريا صاحب النشاط السياسي، الذي برز بأشكال مختلفة ،والذي انتهى بثورة 1948″.
(يتبع)
الصور للاستاذ النعمان والمحامي محمد علي لقمان والاستاذ محمد حيدرة والاستاذ محمد المحلوي وغلاف لعدد من مجلة الحكمة في اصدارها الثاني
*من صفحة الكاتب بالفيسبوك