فهمي محمد
المواطن-تحليلات
في بداية تفتق الوعي اليساسي لديا وتحديدا بعد 1997/ قرأت كتاب ” قضية دولة القانون في الازمة اليمنية” للكاتب الاكاديمي والسياسي المقتدر ” الدكتور محمد على المخلافي ” وهو الكتاب الذي صدر للمؤلف عقب حرب 1994/ وبلاشك اجد نفسي معترفاً ان الكتاب كان ذكياً اكثر من اللازم وقد شكل قفزة في وعي السياسي لاسيما فيما يتعلق بجوهر الصراع والحرب في اليمن .
فمفهوم الدولة سوى دولة القانون او دولة المؤسسات اوحتى الدولة المدنية هو الذي شكل اسباب الصراعات والحروب في اليمن منذ عام 1990/ وحتى اليوم ، لايعني ذلك عدم وجود صراعات وحروب قبل ذلك في اليمن ، بل يعني ذلك ان الصراعات والحروب قبل 1990/ كانت على حكم السلطة وليس على مفهوم الدولة المفقودة أصلاً في هذا البلد ،
حتى الاحزاب السياسية التي كانت تقع خارج السلطة لم تناضل يومها من اجل مفهوم الدولة الضامنة بل كانت تناضل من اجل مشروع سياسي يتقاطع في جوهره مع مفهوم الدولة الضامنة وذلك من زاوية عدم الاعتراف بوجود الآخر ومشروعه السياسي ، وفي ظل هذه المعادلة تحولت ما كان يجب ان تكون دولة ضامنة في اليمن إلى سلطة في الشمال ودولة بوليسية في الجنوب مع الفارق الكبير في القابلية الفكرية لعملية التحول اوالممانعة لها على مستوى تجربة الشطرين في اليمن .
في بلد يعاني أفراده من تدني مستوعى الوعي السياسي والثقافي ويختفي فيه دور المثقف لصالح السياسي تستطيع الحروب ان تددثر وتخفي أسبابها الحقيقة والجوهرية وراء جملة من الاسباب المصطنعة والتى تخاطب عواطف العوام ومعتقداتهم ويتم إستخدامها بإحكام كأدوات في معادلة الصراع والحروب لصالح اعدأ الدولة والمجتمع ،
ومع هذا الحضور الكثيف لعملية التدثر المصطنعة في خلق أسباب الحروب في اليمن والتي يتم إعتباطها من خارج سياق الحقيقة كحرب 94/ وحرب الانقلاب الجارية اليوم ، إلا أن ” قضية الدولة ” وغيابها تظل هي السبب الجوهري وراء كل هذا الكم الهائل من الصراعات والحروب المتجددة والتي يستحيل أن نغادر شرنقتها جميعاً مالم ننجح في إختراع الدولة الضامنة التي تتجاوز تجربة الماضي وتنتمي إلى روح العصر الحديث .
مايحسب لليسار في اليمن وفي مقدمتهم ” الحزب الاشتراكي ” تطوره الفكري المبكر على المستوى السياسي بحيث أستطاع اليسار في اليمن منذ 1990/ أن يجعل من مفهوم الدولة الحديثة وقضية الديمقراطية قضايا نضالية ومشروع سياسي لايقبل المساومة او التراجع ولهذا اندلعت حرب 94/ التي تدثرت زوراً باسباب الانفصال وأستباحت الجنوب ، ولكن ما يعاب عليه هو التخلي الغير مبرر عن جوهر الفكر اليساري ذاته والذي يعني هنا التخلي عن هوية المضمون الاجتماعي والاقتصادي لدولة والذي تم إسقاطه من معادلة الصراع مع القوى التقليدية منذ عام 1990/ وهو ما ساعد نظام صالح بعد حرب 94 / في اختزال الصراع في اليمن بكونه صراع سياسي بين سلطة ومعارضة يتعلق بجوهر العملية الديمقراطية ( نزاهة انتخابات وتصحيح جدول الناخبين ) وليس بجوهر الدولة كمشروع تنموي في حياة الانسان على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، هذا التخلي بقدر ما جعل النظام قادرا على انتاج ذاته وإستبداده بأساليب ديمقراطية وبالشكل الذي أفرغ الصراع حول مفهوم الدولة من محتواه النضالي ، بقدر ما أدى إلى خلق فجوة كبيرة بين أحزاب اليسار وبين الجماهير المطحونة ، فالجماهير لم تعد ترى في اليسار مشروعا مميزا لها يعبر عن معآناتها على سبيل المثال وليس الحصر منذ 94/ تم تدمير قطاع التعليم والصحة لصالح القطاع الخاص ناهيك عن تكريس البنية الاجتماعية بكل القيم التقليدية وكل ذلك جرى في ظل موقف منعدم او خجول من احزاب اليسار ، وقد عبر عن هذا الموقف بشكل دقيق احد الرفاق في جلسة نقاش بقوله ” اصبحنا يسار من اجل اليمين دون أن نشعر بذلك ” .
في 2011/ استطاع شباب الثورة أن يجعلوا من مفهوم الدولة شعاراً لثورتهم ومشروعا نضاليا لفعلها الثوري ( الدولة المدنية ) وبغض النظر عن الاختلالات الكبرى التي رافقت مسار التجربة الثورية الا انها استطاعت ان تخلق فرصة تاريخية للحوار الجدي حول تحديد مفهوم الدولة الضامنة وقد تمكن اليمنييون من ذلك في مؤتمر الحوار ، لاسيما فيما يخص تحديد الهوية السياسية لدولة في اليمن ، ومن اجل ذلك تم إشعال الحرب والانقلاب من قبل اعدأ مشروع الدولة ، ومهما حاولوا اليوم ان يخلقوا اسباب اخرى للحرب فإن الدولة ومفهومها يظل دائما هو السبب المركزي للحرب في اليمن .
مايجب ان يدركه اليسار في اليمن ان الانتصار على قوى الانقلاب وتطبيق مخرجات الحوار الوطني لا يعني نهاية الطريق بل هو بداية الطريق والنضال فيما يتعلق بتحديد مفهوم الدولة على صعيد معركة التغيير في هذا البلد ،
فالنجاح في إقامت الدولة الاتحادية وفي إجراء انتخابات حرة ونزيهة لا يعني الكثير في بلد يعاني من الفقر والفساد وإرتفاع نسبة الامية والبطالة وتتحكم القيم التقليدية العصبوية على كل مفاصل الحياة ، فالهوية السياسية لدولة لاتستطيع وحدها حل مشاكل المجتمع ، مالم تتحول الدولة الى مشروع تنموي حقيقي للانسان ، وهو ما يستدعي حسم الهوية الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية لدولة ،الأمر الذي يتوجب على أحزاب اليسار ان تغادر حالة التماهي والخجل الذي مارسته منذ 90 فيما يتعلق بقيم اليسار التي تنتصر للأغلبية الفقيرة والمطحونة في المجتمع ،
صحيح ان نجاح الحوار في تحديد الهوية السياسية لدولة قد دفع باعدأ الدولة للانقلاب لكن الحديث حول تحديد مفهوم الهوية الاجتماعية والاقتصادية سوف يوسع دائرة الانقلابيين وإن بأساليب اخرى ، ولكن الدولة كمشروع متكامل هو ما يجب ان يحسم في هذا البلد وعلى اليسار ان يقوم بدوره التاريخي والنضالي .