د.غزوان طربوش
في ظل ما تعانيه اليمن من أزمات متلاحقة جراء الأوضاع الإنسانية الكارثية وتفاقم المعاناة بسبب الأمطار الغزيرة والسيول، يبرز تقصير الحوثيين في التعامل مع هذه الكوارث، حيث يغلب عليهم الانشغال بالاحتفالات والأنشطة الدعائية، في وقت يحتاج فيه الشعب إلى إغاثة عاجلة. هذه التصرفات غير مقبولة تماما هوتجعل الجماعة منفصلة تمامًا عن الواقع وتطلعات الناس. فقد غيبت الضرورات الأساسية، مثل الإنقاذ والإيواء، عن أجندة سلطاتهم، بينما توجه الموارد والاهتمام نحو فعاليات مثل الاحتفال بالمولد النبوي . على العكس، لست ضد الاحتفال بمولد الرسول أو أي احتفالات دينية، لكني ضد فكرة تبني أي سلطة أو حكومة لهذه الاحتفالات. فالمناسبات الدينية يجب أن تبقى بعيدة عن الاستغلال السياسي من قبل الأنظمة .
ومن بين التصريحات التي تعكس هذا التوجه المقلق، ما قاله مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين، حيث أبدى استهتارًا واضحًا بالوضع المأساوي من خلال تصريحه بأن الحوثيين يتكفلون “بدفن الموتى”. مثل هذا التصريح ليس فقط غير إنساني بل استفزازي و يكشف عن انحدار عميق في مستوى المسؤولية السياسية والأخلاقية لدى قيادة الحوثيين، إذ تُعتبر واجبات الدولة الحقيقية توفير الإغاثة والرعاية الصحية والسكن للمتضررين، وليس الانتظار حتى يصل الناس إلى مرحلة الموت، ثم التباهي بتقديم أقل واجب إنساني.
هذه التصرفات والسياسات تفضح ما يمكن وصفه بالعهر السياسي لدى الحوثيين، الذين يتعمدون التغطية على فشلهم في إدارة الأزمة بأعمال رمزية لا تساهم في التخفيف من معاناة الشعب. تصبح الاحتفالات والمهرجانات في هذا السياق مجرد ستار لتغطية العجز والتقصير، في حين أن اليمنيين يعانون ويلات السيول والانهيارات الطينية، بينما يستمر الحوثيون في التجاهل التام للحاجات الحقيقية للسكان.
هذا التوجه يعكس انقطاع العلاقة بين القيادة الحوثية والواقع الذي يعيشه اليمنيون، مما يضعف من شرعيتهم ويزيد من الفجوة بينهم وبين الشعب، الذين لم يعودوا يرون فيهم سوى جماعة تعمل لمصالحها الخاصة جماعة ارهابية تحكم بقوة السلاح لذا فهي تغض الطرف عن الكوارث الإنسانية المحيطة بها. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: من هو الأهم، الإنسان أم الاحتفال بميلاد الرسول؟. إنه سؤال يحمل في طياته الكثير من الدلالات حول الفهم الصحيح للدين ومسؤولية الدولة تجاه مواطنيها.
.
من منظور إسلامي، تعظيم الإنسان ورعاية حقوقه يأتي في صلب رسالة الإسلام. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء: 70)، وهذا التكريم يتطلب من الحاكم والمسؤول وضع حياة الإنسان وكرامته في المقام الأول. فكيف يمكن تبرير الاحتفالات عندما يغرق المواطنون في السيول ويفتقدون إلى أبسط مقومات الحياة؟ بل كيف يُفهم الدين إذا تم اختزاله في الطقوس والشعائر بينما يتجاهل جوهره القائم على الرحمة والعدل؟
الحوثيون، من خلال استهتارهم الواضح بآلام الشعب، يقدمون صورة مشوهة للدين، حيث يتم تسييس الدين واستخدامه كأداة لتعزيز السلطة وتثبيت النفوذ. ففي حين تعاني آلاف الأسر من الفيضانات، توجه الحكومة الحوثية مواردها للاحتفالات والمهرجانات، متجاهلة حاجة المواطنين إلى الإنقاذ والمساعدات الإنسانية. الأسوأ من ذلك، هو تصريحات مهدي المشاط بأن الحوثيين يتكفلون “بدفن الموتى”، وهي إشارة صادمة إلى مدى الابتعاد عن مسؤوليات الجماعة الحقيقية في حماية الأرواح قبل الوصول إلى مرحلة الموت.
الإنسان في الإسلام له مكانة سامية لا يمكن تجاوزها. فإذا كانت الاحتفالات الدينية تخرج عن إطارها الطبيعي، وتصبح سببًا في تجاهل الحاجات الإنسانية، فإننا أمام انحراف عن مبادئ الدين الأساسية. في هذا السياق، نجد أن السؤال المطروح ليس فقط دينيًا، بل أيضًا أخلاقيًا وإنسانيًا. كيف يمكن للسلطات أن تبرر إنفاق الموارد على الاحتفالات بينما تتجاهل الأزمات التي تهدد حياة الملايين؟
إن الواجب الإنساني والديني يُحتّم على الدولة أن تعطي الأولوية لإنقاذ الأرواح وتوفير المأوى والغذاء للمتضررين. هذا إذا كانت جماعة الحوثي تفهم معنى الدولة حقاً. فالاحتفال الحقيقي بميلاد الرسول لا يكمن في المظاهر الخارجية والتزيينات الباذخة، بل في تطبيق قيمه السامية على أرض الواقع. ومن أهم هذه القيم الرحمة، العدل، والتضامن مع الضعفاء والمحتاجين. إن تجسيد هذه القيم هو ما يمثل جوهر رسالة النبي، وليس الاستعراضات والشعارات التي تبتعد عن روح الدين وتعاليمه . إن الرحمة بالناس والإحسان إليهم هو ما يحتاجه اليمنيون اليوم. ما يحتاجه اليمنيون هو حكومة تتحمل مسؤوليتها تجاه مواطنيها، لا سلطة قمعية إرهابية تغطي فشلها السياسي والاجتماعي بالاحتفالات والمهرجانات.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم ليس فقط “من الأهم: الإنسان أم الاحتفال؟” بل يتعداه إلى التساؤل الأعمق: كيف نفهم الدين؟ وكيف نطبقه في حياتنا اليومية؟ هذا ما تعجز عن فهمه جماعة الحوثيين الإرهابية، فكيف لجماعة كهذه أن تستوعب القيم الإنسانية وهي تتجاهل معاناة الناس وتوظف الدين لأغراضها السياسية؟
الحوثيون مصابون بتدين الشكل لا بتدين الموضوع، والدين عندما يتحول إلى طقوس ومراسم يفقد قيمته، لأن الدين قبل كل شيء قلب حي وضمير يقظ وسريرة نظيفة.