فهمي محمد
إشكالية الماضي والحاضر وتعرج التاريخ في اليمن
بدون شك شكلت ثورة الـ14 من أكتوبر في اليمن، حدثاً تاريخياً أكثر من كونه سياسياً.
فالشطر الجنوبي من اليمن في العام الذي اندلعت فيه ثورة الكفاح المسلح بقيادة الجبهة القومية كان خاضعاً لسلطة الاستعمار البريطاني الذي ظل قابضا على مدينة عدن 129 عاماً، في حين ظل المكون الجغرافي والإنساني المحيط بمدينة عدن، خاضعاً لسلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، سيما وقد تحالف هذا العقل السياسي الحاكم مع سلطة الاستعمار البريطاني واحتمى بها، بل تقاضى منها الرواتب والمنح المالية وحتى الصلاحيات السياسية.
أتحدث هنا عن المشايخ والأمراء والسلاطين الذين تقاسموا أو قسموا جنوب اليمن إلى 22 سلطنة ومشيخة وإمارة مستقلة وخاضعة لسلطتهم السياسية باستثناء مدينة عدن الاستراتيجية، وذلك ما كانت تريده بريطانيا في جنوب اليمن.
لهذا حرصت على ترسيم هذا التقسيم والتجزئة المصطنعة سياسياً وجغرافياً، بل حاولت تسمية مثل هذا التقسيم للمكون الإنساني والجغرافي ب”اتحاد الجنوب العربي”، وأكثر من ذلك حاولت أن يكون لهذا الكيان السياسي ممثل في جامعة الدول العربية.
إشكالية الشطر الجنوبي من اليمن، في ظل الاستعمار البريطاني لم تكن بنفس إشكالية بعض الدول العربية التي كانت خاضعة لسلطة الاستعمار البريطاني أو الفرنسي في النصف الأول من القرن الماضي، أي بكونها إشكالية تتطلب خوض معركة التحرير من الوجود الأجنبي الاستعماري حتى تحقيق الاستقلال الوطني كما حدث، على سبيل المثال، في مصر وليبيا والجزائر، ما يعني أن رمزية الاستقلال الوطني ظلت تكمن في مسألة تحرير الأرض من سلطة القوات الغازية، بل كانت إشكالية جنوب اليمن، في ظل الاستعمار البريطاني تكمن بما هو أكبر من ذلك.
فبالإضافة إلى وجود سلطة الاستعمار البريطاني في عدن كانت جنوب اليمن، تخضع عملياً إلى 22 سلطة سياسية حاكمة وكل هذه السلطات تأسست تاريخياً وعملت سياسياً في ظل الاستعمار البريطاني على إحياء الهويات الجزئية الممانعة للهوية الوطنية الجامعة.
ناهيك أن مثل هذا الإحياء “الماضوي” الممول للهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية الجامعة في جنوب اليمن، واكب بفعله السياسي ثقافة أربعة أجيال متعاقبة في ظل الوجود البريطاني فقط.
كما تكفل هذا الأخير بالدعم والدفع في سبيل إحياء هذه المشاريع الصغيرة، بالإضافة إلى أن مرحلة ما قبل وجود الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، كانت مرحلة أكثر تقسيماً وتجزئة وصراعاً على السلطة في ظل تعدد السلطات الحاكمة.
ما يعني أن التجربة التاريخية والسياسية كانت تشكل جملة اعتراضية مكثفة في وجه الثقافة الوطنية الجامعة للمكون الإنساني في جنوب اليمن.
وعطفاً على ذلك، إذا كان ما ذكر يفسر من جهة أولى خلو فترة الاستعمار البريطاني المقدرة بقرن وثلث قرن، من اندلاع ثورة شعبية حقيقية على المستوى الوطني، حتى قامت ثورة أكتوبر المسلحة بقيادة الجبهة القومية 1963م مع أن مرحلة ما قبل ثورة أكتوبر شهدت انتفاضات ومواجهات عسكرية إلا أن التاريخ لم يطلق على أي منها ثورة كما أطلق على ثورة أكتوبر، فإنه يفسر من جهة ثانية قابلية جنوب اليمن، لمخاطر الانقسامات السياسية على أساس مفاعيل الهويات الجزئية الجهوية التي تظل قابلة للاستدعاء والتوظيف السياسي.
لهذا السبب كان الحزب الاشتراكي اليمني في مؤتمر الحوار الوطني «وهو الحزب الذي خاض معركة الهوية الوطنية الجامعة للمكون الإنساني في جنوب اليمن» حريصاً على أن يظل هذا الأخير إقليما واحدا في ظل النظام الاتحادي الديمقراطي الذي كان يفترض به أن يكون اليوم نظاما سياسيا حاكما في دولة الوحدة اليمنية، لولا نجاح القوى الماضوية أو العقل السياسي الحاكم تاريخياً من الانقلاب على الفرصة التاريخية في الـ21 من سبتمبر 2014م بعد أن بدت هذه الفرصة التاريخية سانحة أمام اليمنيين في الشمال والجنوب في صناعة مستقبل الأجيال القادمة على أساس الفكرة الوطنية أو المشروع الوطني الديموقراطي الذي يتجاوز بالمكون الإنساني كل الهويات الجزئية أو المشاريع الصغيرة في اليمن.
نستطيع القول هنا إذا كانت ثقافة الانتماء للفكرة الوطنية الجامعة، هي التي شكلت ديناميكية الفعل الثوري في جميع الأقطار العربية ضد وجود المستعمر الأوروبي في النصف الأول من القرن الماضي بكونها ثقافة وطنية حاضرة داخل الوجدان الشعبي ولدى النخب السياسية والاجتماعية في تلك الأقطار، وهو ما جعل الثورات العربية تقف على أرضية وطنية جاهزة وحاضنة في نفس الوقت للفعل الثوري، فإن واقع الحال في جنوب اليمن، كان على العكس من ذلك تماماً بكونه يحتاج في بادئ الأمر إلى نفخ الروح في ثقافة الهوية الوطنية الجامعة، وتحويلها إلى ديناميكية سياسية ثورية ضد المستعمر البريطاني.
وهو ما كان يشكل قبل ثورة أكتوبر معضلة سياسية واجتماعية وثقافية داخلية أمام فكرة الثورة التي كانت معنية بأن تخوض معركة التحرير والاستقلال في جنوب اليمن.
بمعنى آخر، الحامل السياسي للثورة كان معنيا في البدء بأن يعمل على إيجاد الأرضية الوطنية التي توفرت أمام الثورات العربية، ما يعني أنه كان من الصعوبة بمكان قيام ثورة مسلحة على المستوى الوطني والشعبي في جنوب اليمن، بدون أن يوجد تنظيم سياسي حزبي وفكر سياسي وطني -تقدمي- يتجاوز بالوجدان الشعبي مفاعيل الهويات الجزئية الماضوية التي رسختها سياسة الانجلوسلاطينية في الجنوب منذ دخول الحملة البريطانية مدينة عدن في أواخر القرن قبل الماضي وحتى عقد الخمسينيات من القرن الماضي الذي شهدت فيه اليمن مقدم العقل السياسي الحزبي وتأسيسه في مدينة عدن، المدينة التي فاضت بكأسها السياسي والحزبي وحتى الثقافي والنقابي على تراب الوطن اليمني.
خلال فترة الاستعمار البريطاني دخل بعض السلاطين في مواجهات عسكرية مع قوات الاستعمار البريطاني إلا أن العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن كان عاجزا بفكره الثقافي ومشروعه السياسي على أن يتولى قيادة ثورة وطنية مسلحة ترفع شعار التحرير والاستقلال الوطني أو حتى تحويل بعض المواجهات العسكرية إلى ثورة شعبية مستمرة في جنوب اليمن.
ومن يقرأ عن بعض هذه المواجهات يدرك أنها انتهت بتسويات سياسية مرضية منحت بعض السلاطين الامتيازات السياسية والمالية في حين أن السلطة صاحبة “السيادة” التي لا تقبل القسمة على 22 سلطة سياسية حاكمة ظلت من نصيب سلطة الاستعمار البريطاني. هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية، إذا كان العمل على إحياء الفكرة الوطنية الجامعة للمكون الإنساني في جنوب اليمن، ومن ثم تحويلها إلى أيديولوجية سياسية سوف تؤدي بطبيعة الحال ليس إلى ثورة شعبية ضد المستعمر البريطاني فقط، بل إلى حتمية القضاء على تعدد السلطات السياسية التي يتعارض وجودها في بلد واحد مع مبدأ السيادة الوطنية وسيادة الدولة. كما هو حال اليمن اليوم بعد عقود من الثورة والاستقلال.
ما يعني أن العقل السياسي الحاكم تاريخياً في جنوب اليمن، لم يكن يرى في مسألة الهوية والانتماء للفكرة الوطنية الجامعة خطرا على مستقبله السياسي فحسب، بل أكثر من ذلك في حسابات المصالح السياسية نجد أن سلطة الاستعمار البريطاني وسلطة المشايخ والسلاطين في جنوب اليمن، رأت كل واحدة منها صورتها المماثلة في وجه الأخرى، وهي نفس الصورة المماثلة التي كانت قائمة في حسابات المصالح المتبادلة بين سلطة الإمامة وسلطة شيخ القبيلة السياسية في شمال اليمن.
لهذا وذاك كانت معركة الثورة والاستقلال في جنوب اليمن ، تحتاج بالضرورة إلى تنظيم أو حزب ثوري وفكر سياسي وطني وهو ما تحقق مع تأسيس الجبهة القومية التي أسسها العقل السياسي الحزبي واناط بها معركة التحرير والاستقلال ، لكن واقع الحال في اليمن بعد ستة عقود من الكفاح يقول ما أشبه الليلة بالبارحة ، أي أن حاجة اليمنيين اليوم لا تتطلب جبهة قومية فقط ، بل كتلة تاريخية تعمل على نفخ الروح في ثقافة الهوية والانتماء الجامع للفكرة الوطنية ، وفي نفس الوقت تخوض معركة الإنتصار لسيادة الدولة والسيادة الوطنية ، ما يعني في النتيجة النهائية أن التاريخ في اليمن لا يتقهقر للوراء فحسب كما ذكر الكاتب في إحدى مقالاته السابقة ، بل إن التاريخ في اليمن يعيد نفسه مع كل حدث ثوري بطريقة ماضويه تجمع بين التراجيديا الحقيقة والملهاة المضحكة.
تكرار التاريخ مع حاضر الأجيال المتعاقبة إشكالية متلازمة مع فكرة التغيير السياسي والإجتماعي في اليمن، هذا إذا ما استثنينا الفترة التي خضع فيها جنوب اليمن إلى سلطة العقل السياسي الحزبي وخضوع شماله لحركة التصحيح التي قادها الرئيس ابراهيم الحمدي، سيما وأن تلك المراحل الاستثنائية من عمر الثورة والجمهورية بدت فيها اليمن مع فكرة التغيير والتقدم قادرة على أن تتجاوز إشكالية التراجيديا والملهاة، بل قادرة على أن تتجاوز تعرج التاريخ، الذي يتجه اليوم بنا نحو الماضي أكثر من كونه يتجه نحو المستقبل الذي يجب أن يكون في اليمن.