فهمي محمد
العقل السياسي أم الأحزاب السياسية ؟
العقل السياسي الحزبي في الجنوب يتجاوز أخطاء تجربة الثورة في الشمال
كما قلنا إن الضباط الصغار الذين أسسوا تنظيم الضباط الأحرار كانوا ذوي خلفيات حزبية، إلا أنهم أثناء تأسيس تنظيم الضباط الأحرار حرصوا على أن يحضروا بأشخاصهم وخلفياتهم العسكرية إلى داخل صفوف التنظيم الثوري الذي تحرك عشية الثورة بقيادة الملازم علي عبد المغني، بعد أن تم انتخابه قائداً للتنظيم في الاجتماع الرابع المنعقد بتاريخ 5 ربيع الأول 1382 هجرية، ما يعني أن هؤلاء الضباط، بقصد أو بدون قصد حرصوا على عدم حضور العقل السياسي الحزبي في قيادة تنظيم الضباط الأحرار في شمال اليمن، لهذا السبب اختفى تنظيم الضباط الأحرار من معادلة الصراع السياسي في شمال اليمن، بعد أن ذهبت قيادة التنظيم للقتال العسكري في الجبهات مع عودة الملكيين، ناهيك أن الملازم علي عبد المغني استشهد في إحدى المعارك الميدانية، أي أن قادة التنظيم الثوري ذوي الخلفيات السياسية الحزبية لم يتحولوا مع حدث الثورة في الشمال إلى قادة سياسيين في مستقبل الثورة، في حين تحول قادة حركة 1948 الذين لم يكونوا موجودين عشية الثورة إلى قادة سياسيين في ثورة الـ26 من سبتمبر، فعلى سبيل المثال بدا الزبيري والنعمان والارياني قادة سياسيين أكثر حضوراً من علي عبدالمغني وجزيلان وغيرهم من قيادات تنظيم الضباط الأحرار، وما زال البعض يعتقد حتى اليوم أن الزبيري والنعمان هم من فجر ثورة الـ26 من سبتمبر، مع أن الثورة كفكرة رايديكالية وكذلك الجمهورية كنظام سياسي ديمقراطي، لم تكن ورادة على الإطلاق في ميثاقهم المقدس (أي في ميثاق الزبيري والنعمان) الذي صيغ في حركة 1948م كمشروع سياسي للمستقبل، بديلاً عن حكم الإمام يحيى في شمال اليمن!
هذا يعني أن الفكر السياسي لهؤلاء كان فكرا إصلاحيا تقليديا وليس فكر ثورة رايديكاليا، فقد ذهب هؤلاء الرموز مع فكرة التغيير السياسي في شمال اليمن للبحث داخل السلالة نفسها، وبايعوا عبدالله الوزير إماماً شوروياً بديلاً عن الإمام يحيى مع وقف التنفيذ حتى يموت الإمام، وكأن المشكلة كانت تكمن في شخص هذا الأخير، ولا تتعلق بفكرة الإمامة نفسها كنظام سلالي وراثي رجعي، حتى عندما أراد الزبيري أن يتعاطى مع فكرة الحزبية في زمن الثورة والجمهورية أراد أن يؤسس حزبا سياسيا، باسم حزب الله حتى يضع علامة استفهام دينية على بقية الأحزاب السياسية، ما يعني أن الزبيري في زمن الجمهورية هو امتداد تقليدي للزبيري في الميثاق الإمامي المقدس دون تطور سياسي مع فكرة التغيير الثورية الرايديكالية، مع أن الرجل كان قد أصبح زعيماً سياسياً في ثورة سبتمبر أكبر من علي عبد المغني وجزيلان!
في كل الأحوال لا يعني هذا التقليل من كفاح هؤلاء الرموز في مسألة إسقاط حكم بيت حميد الدين، وهو كفاح ونضال شكل حالة إلهام للجيل الثاني في معادلة الصراع مع بيت حميد الدين.
نعود لصلب الحديث ونقول إن إشكالية قلب معادلة القيادة السياسية في ثورة سبتمبر شكلت يومها مدخلا مفتوحا “على مصراعيه” من مداخل الأخطاء السياسية التي وقعت فيها سلطة الثورة في الشمال، سيما وأن العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن هو من تسلم زمام سلطة الثورة، وهو ما لم يسمح به العقل السياسي الحزبي الذي خاض تجربة الثورة والسلطة في جنوب اليمن، فالجبهة القومية التي تأسست كتنظيم جبهوي مسلح، لم تتشكل ابتداءً على أساس حضور أشخاص بذواتهم أو بخلفيتهم العسكرية حتى، كما هو حال تنظيم الضباط الأحرار، بل تأسست من اجتماع مكونات سياسية حزبية أو ذات هوية حزبية، صحيح أن الجبهة القومية أثناء الثورة رفعت من باب التكتيك شعار لا حزبية إلا أن الواقع العملي يقول إن العقل السياسي الحزبي هو الذي كان يقود ثورة أكتوبر بوعي سياسي “حزبي” يدرك ما الذي يريد فعله وما هي مآلات ما لا يريد حدوثه في حال أن سمحت الجبهة القومية في حدوثه، لهذا نجد العقل السياسي الحزبي بدا مع فكرة الثورة في اليمن معنيا بتأسيس جبهة وطنية من اجتماع أحزاب ومكونات سياسية، كان ذلك قبل ثورة سبتمبر، وعندما نجح في تأسيس الجبهة القومية التي تولت تفجير الثورة المسلحة، كان العقل السياسي الحزبي هو الجهاز المفاهيمي الذي ينفخ الروح الثورية داخل الجبهة، بل كان هو القائد والموجه الذي رفض مسألة الاحتشاد اللاثوري في مسار ثورة أكتوبر، بعكس إشكالية السماح بحدوث مثل هذ الاحتشاد في مسار ثورة سبتمبر.
كان الجميع يدرك يومها أن الجبهة القومية المسلحة تواجه عسكرياً الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فأقل ما يقال عنها إنها ثالث دولة عظمى في العالم، كما أن الجبهة القومية كان لها خصوم سياسيون متربصون في الجنوب وفي الشمال وعلى مستوى الإقليم، ومع ذلك نجد العقل السياسي الحزبي كان يقدم فعله الثوري عند مستوى التحديات المحيطة، مع الحفاظ على ما يجب أن يكون ثابتا في مسار الثورة وينسجم مع فكرة التغيير والتقدم السياسي والاجتماعي نحو المستقبل، ما يعني أن الفعل الثوري في ظل قيادة العقل السياسي الحزبي، بقدر ما كان يخوض معركة التحرير والاستقلال الوطني الناجز ضد الاستعمار البريطاني، بقدر ما كان في نفس الوقت يعي أهمية معركة غلق الأبواب التي تسمح بعودة الماضي، أو تسدعي نماذجه التاريخية في مسار ثور الـ14 من أكتوبر، كما هو حال احتشاد القبيلة السياسية والجهوية والمذهبية في بواكير ثورة الـ26 من سبتمبر، بل تم رفض احتشاد الأحزاب السياسية التي لم تؤمن يومها بخيار الكفاح المسلح.
عندما تحرك فعل الثورة المسلحة من جبال ردفان، كان جنوب اليمن يشهد قيام 22 سلطنة ومشيخة وإمارة مستقلة عن بعضها البعض بحدود سياسية، إلا أنها في المجمل كانت خاضعة لسلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في جنوب اليمن، الأمر الذي جعل العقل السياسي الحزبي وهو يخوض معركة التحرير والاستقلال الوطني الناجز، معنيا في مسألة القضاء التام على سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في جنوب اليمن، في حين كان بعض القادة السياسيين مثل الجفري والأصنج وباسندوه يعملون سياسياً على الاستعانة بسلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في الجنوب كما حدث على سبيل المثال فقط، في تشكيل منظمة التحرير، مع أن هذا العقل السياسي التاريخي كان يومها مرتبطا بمعاهدة صداقة مع سلطة الاستعمار في عدن.
منذ تاريخ 1967/6/22م الذي شهد سقوط الضالع وحتى تاريخ 1967/10/27م الذي سقطت فيه العوالق السفلى، استطاعت الجبهة القومية خلال هذه الفترة الزمنية المقدرة بأربعة أشهر أن تسقط كل السلطنات والمشيخات والإمارات في جنوب اليمن، وأن تحل سلطة الجبهة القومية محلها، ما يعني أن العقل السياسي الحزبي استطاع أن يحسم معركة المستقبل والمصير مع العقل السياسي الحاكم تاريخياً في جنوب اليمن قبل تحقيق الاستقلال الوطني، بحيث أصبح هذا الأخير عاجزاً عن الحضور ولعب دور الممانعة السياسية تجاه مستقبل الجمهورية كما حدث في شمال اليمن، هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية فإن حضور العقل السياسي الحزبي في قيادة ثورة الـ14 من أكتوبر حول الجبهة القومية من تنظيم جبهوي مسلح، إلى تنظيم سياسي حزبي يقود سلطة الثورة والجمهورية، بعد نيل الاستقلال الوطني الناجز في الـ30 من نوفمبر 1967م، وهذا التحول بقدر ما حمى سلطة الثورة من سيطرة أو عودة أي شكل من أشكال الحضور التاريخي للعقل السياسي الحاكم تاريخياً في جنوب اليمن، بقدر ما حمى مسار الثورة والجمهورية في جنوب اليمن من الانقلاب، كما حدث للثورة والجمهورية في انقلاب 5 نوفمبر 1967م في شمال اليمن، كما أن تحول الجبهة القومية إلى تنظيم سياسي ثوري جعل سلطة الثورة تصدر تشريعات وقوانين تؤسس للمستقبل الذي يجب أن يكون في جنوب اليمن، وليس تشريعات وقوانين تستدعي النماذج التاريخية الماضوية كما هو حال التشريعات والقوانين التي أصدرتها سلطة الثورة في الشمال، بحيث كان الهدف السياسي من هذه التشريعات والقوانين التي ذكرناها سابقاً هو استدعاء القبيلة التاريخية إلى داخل المجال السياسي العام، الأمر الذي تحولت معه إلى قبيلة سياسية تحكم سلطة الثورة والجمهورية، ما يعني في النتيجة النهائية أن القبيلة السياسية الجهوية شكلت في الشمال عصبية السلطة الحاكمة بعد ثورة سبتمبر في حين شكل الحزب السياسي عصبية السلطة في الجنوب بعد ثورة أكتوبر، والفرق كبير بين عصبية القبيلة الجهوية وعصبية الحزب السياسي في مسألة الانسجام الإيجابي أو الممانعة السلبية مع فكرة الدولة والديمقراطية، وهو فرق يتحدد في نفس الوقت بين مآلات حضور العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، وبين مآلات حضور العقل السياسي الحزبي الطامح في حكم مستقبل اليمن.