فهمي محمد
العقل السياسي أم الأحزاب السياسية ؟
نستطيع القول أن محصلة التجربة الثورية في شمال اليمن تعني في النتيجة النهائية أن العقل السياسي الحاكم “تاريخياً” هو الذي امتلك مقاليد السلطة الحاكمة في العاصمة صنعاء ، بحيث أصبحت القبيلة السياسية هي الوجه السياسي للجمهورية العربية اليمنية ، بل هي الكيان الجهوي النافذ داخل أجهزة السلطة ومؤسساتها الحاكمة « لاسيما المؤسسة العسكرية » منذ ما بعد إنقلاب 5 نوفمبر الذي أطاح بسلطة الرئيس عبد الله السلال عام 1967م ، وتمكن في نفس الوقت من إزاحة الأهداف الستة لثورة سبتمبر الخالدة ، وقد كان هذا العام( 1967م) هو العام الذي تحرر فيه جنوب اليمن من سلطة الاستعمار البريطاني واستلمت الجبهة القومية فيه مقاليد السلطة الحاكمة بعد نجاحها في قيادة ثورة أكتوبر 1963م.
ومع أن العقل السياسي الحاكم تاريخياً كان قبل ثورة سبتمبر واكتوبر حاضراً في حكم شمال اليمن وجنوبه على حد سواء ، فالشطر الشمالي منذ قرون كان خاضعاً لحكم النظام الأمامي /السلالي/ ذو الهوية المذهبية / المتحالف سياسياً مع شيخ القبيلة / التاريخية / الجهوية / وكذلك الجنوب كان قد خضع منذ قرون لحكم السلطنات والمشيخات المتحالفة سياسياً مع سلطة الاستعمار الحاكمة في العاصمة عدن ، ما يعني أن ثنائية الثورة اليمنية كفعل ثوري رافض لما هو قائم في الواقع وبكونها مشروع ثوري للمستقبل الذي يجب أن يكون في اليمن ، كانت “أي الثورة” معنية مع فكرة التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي بأن تخوض معركتها الثورية/ المصيرية / ضد العقل السياسي الحاكم تاريخياً في شمال اليمن وجنوبه ، وهي معركة ثورية يجب أن ينتصر فيها المستقبل على الماضي بما يعني إنتصار الصيرورة على التاريخ الزمني وليس إنتصار الثائر على الحاكم فقط فهل حدث ذلك ؟ ومن المسؤول عن عدم حدوثه ؟ العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن أم العقل الحزبي الطامع في حكم مستقبل اليمن؟
ومع أن محورية الدراسة تدور حول سؤال جذر المسؤولية عن فشل التغيير الذي رافق مسار تجربة الثورة وسلطة الجمهورية في اليمن فإننا نعود بين الحين والآخر للوراء للبحث عن جذور المشكلة وتحديدها ، ففي الشمال قاد تنظيم الضباط الأحرار ثورة الـ 26 من سبتمبر وجل قيادة التنظيم أعضاء في حزب البعث وفي حركة القوميين العرب ، وفي الجنوب قادت حركة القوميين العرب ثورة أكتوبر ، وإذا كان هذا يعني أن العقل السياسي الحزبي هو الذي فجر ثنائية الثورة والجمهورية في شمال اليمن وجنوبه في حقبة الستينات من القرن الماضي ، فإن المفارقة العجيبة بخصوص جدلية العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن والعقل السياسي الحزبي الطامح في حكم مستقبل اليمن ، تقول إن العقل السياسي الحزبي الذي فجر الثورة في الشمال لم يتولى مقاليد سلطة الثورة الحاكمة في ظل الجمهورية بعكس العقل السياسي الحزبي الذي تولى مقاليد سلطة الثورة الحاكمة في الجنوب ، لهذا فإن سؤال عدم قيام دولة الوحدة اليمنية بين الشطرين بعد استقلال جنوب اليمن رغم المزاج العام المؤمن بأحادية الثورة والجمهورية والهوية اليمنية ، لا يعود لوجود تناقض أيديولوجي بين دولة رأسمالية في الشمال ودولة اشتراكية في الجنوب ، فالجميع لم يكونوا عند مستوى هذا التحدي الايديولوجي ، بل كان عدم تحقيق الوحدة اليمنية يعود لجوهر الصراع السياسي الحاد بين العقل السياسي الحاكم تاريخياً في الشمال والعقل السياسي الحزبي الذي تولى الحكم في الجنوب ، وهو صراع نشأ مع تكوين سلطة الثورة في الشطرين ، بدليل أن سلطة الرئيس الحمدي التي بدأت تعمل على ازاحة سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في الشمال ، لصالح سلطة الدولة وسلطة النظام والقانون اوشكت في فترة قصيرة على أن تحقق الوحدة اليمنية مع سلطة الجنوب بكل سهولة ، ولولا نجاح العقل السياسي الحاكم تاريخياً في عملية إغتيال الحمدي ، لكانت الوحدة اليمنية في السبعينات مع سلطة الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدى أكثر ثباتاً وديمومة تجاه مستقبل الأجيال من وحدة التسعينات مع سلطة الرئيس صالح . لأن هذه الأخيرة كانت وحدة بين العقل السياسي الحزبي الحاكم في الجنوب وبين العقل السياسي الحاكم تاريخياً في شمال اليمن ، كما سوف نوضح ذلك لاحقاً ، لكن سؤال الجدلية السياسية يقول برغم تعميم ثقافة أحادية الثورة اليمنية لماذا فشل العقل السياسي الحزبي الذي فجر ثورة سبتمبر في استلام مقاليد سلطة الثورة في الشمال في حين نجح العقل السياسي الحزبي الذي فجر ثورة أكتوبر في استلام مقاليد سلطة الثورة في الجنوب ؟
سؤال تفرضه المألات السياسية التي يعيش فيها اليمنيين بعد ثلاث ثورات ووحدة !