هدى البكري
الحرب الروسية الأوكرانية هي محاولة لتغيير النظام الدولي من أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب, فلا يخفى على العيان سيطرة واشنطن وهيمنتها على الأمم المتحدة وتحديد مسارات عملها بهذا الشكل الذي ينفي استقلاليتها وينفي الغرض الذي أنشئت من أجله وهو حفظ السلم والأمن الدوليين في حين أن أغلب ممارسات الأمم المتحدة اقتصرت على حفظ سيطرة واشنطن على النظام والإبقاء على سيطرة القطب الواحد.
تعترض روسيا كل هذه الممارسات وتسعى جاهدة لأن تغير ملامح هذا النظام ذو الهيمنة الواحدة فتجتاح عبر دباباتها الأراضي الأوكرانية غير مهتمة بالقانون الدولي ولا محكمة العدل الدولية، تستند بقوتها هذه على الفيتو وحق النقض ككرت ذهبي يمكنّها من الخروج من أي قرارات تأتي عبر مجلس الأمن.
لا تتهاون الأمم المتحدة في اظهار محاولاتها الجاهدة في الإبقاء على السيطرة الدولية وإعادة روسيا إلى المسار وفي الاستمرار أيضًا في محاولة فرض صورة واشنطن مجددًا فتارة تخرجها من مجلس حقوق الانسان وتارة تهدد بتجميد عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، لتستمر روسيا في ظل كل هذا بمزيد من التصعيد ومزيد من التجاهل.
في الطريق إلى نظام متعدد الأقطاب
يمر النظام الدولي بمرحلة من التشكيل الجديد وتغيير الملامح فالولايات المتحدة المعهود لها بالمكوث والتمركز على مقعد إدارة الشؤون الدولية يخفت بريقها يومًا تلو الآخر، واتضح ذلك في زيارة الأمين العام غوتيريش، الغير موفقة والغير فعالة إلى أوكرانيا؛ في محاولة لوقف تصعيد الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتي باءت بالفشل لسببين مهمين؛ أولًا: كون روسيا استقبلت الأمين العام بوابل من الصواريخ في نفس المدينة التي كان يتحدث فيها, وهي ليست المرة الأولى التي تتعمد فيها روسيا إهانة وتدمير الصورة النمطية للأمم المتحدة وكسر هيبتها، فقد عملت ذلك مسبقًا في 2019م على الأراضي الليبية، وثانيًا: لانتقاد مجلس الأمن أيضا لفشل غوتيريش في منع الحرب، وكأن النظام الدولي في حالة من التقاتل شديد الحدة بين كل من روسيا والولايات المتحدة، وحلفاء كل طرف، بعد أن أهدرت كلا منهما مرات عديدة من استخدامها لحق الفيتو في مجلس الأمن فمنذ العام 1946م تم استخدام الفيتو من قبلهما لأكثر من 200 مرة!!
مجلس الأمن لا يخضع للقانون الدولي
مجلس الأمن وفلسفة انشائه لم تقم على خلفية قانونية نافذة بحتة حيث أنه يحمل الطبيعة السياسية الغالبة والسائدة على طبيعة عمله فهو يضم مجموعه من الدول تتنافس للحصول على عضويته الدائمة، بالإضافة إلى مجموعة دائمة فيه. ويدار مجلس الأمن عبر مجموعة من موازنات القوى وإرساء دفة المصالح التي قد تتفق ولكن من المؤكد انها تتعارض في كثير من الأحيان، وهذا التعارض الذي أوصل مجلس الأمن إلى مرحلة من الشلل التام في حين تم استخدام الفيتو من قبل القوتين الكبرى (روسيا والولايات المتحدة) في الكثير من المرات.
ترتفع الأصوات بين الحين والآخر لتنظيم وترشيد استخدام حق الفيتو ففي عام 2020م دعمت أكثر من 100 دولة اقتراحًا فرنسيًا مكسيكيًا لتنظيم استخدام حق الفيتو، وبموجب هذا الاقتراح فإن الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن سيلزمون طوعًا وجماعيًا بالامتناع عن استخدام حق النقض في حالة وقوع وقائع على نطاق واسع في حين أن دول أخرى كإسبانيا دعت مرات متعددة للتخلص التدريجي من حق النقض كليًا.
فها نحن نرى تسيير روسيا لدباباتها على الأراضي الأوكرانية متجاهلة بهذا كله المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة وتتجاهل محكمة العدل الدولية والقانون الدولي بأكمله وذلك يعود إلى قوة النقض المطلقة التي تمتلكها، فما يحدث حقيقة هو استمرارية الأمم المتحدة بعجزها بينما تستمر روسيا بممارسة القوة مستندة بذلك على حق الفيتو المطلق، في حين أن أوكرانيا تمضي في سبيل دفاعها عن سيادة أراضيها مستندة في ذلك على العتاد العسكري الذي تحصل عليه من دول أخرى وبموجب القانون الدولي مالم يكن متعلقًا بأسلحة محظورة.
المزيد من الاتهامات الأمريكية المزيد من الإصرار الروسي
تعمل روسيا على نفي كل الاتهامات الموجهة إليها مبررة أن القوات الأوكرانية هي من تقوم بإطلاق النار على المدنيين بشكل عشوائي في مدينة ماريوبول، جانبًا إلى ذلك تعلن روسيا أنه ومنذ بدء العملية العسكرية تم اجلاء نحو 600 الف شخص من أوكرانيا نحو روسيا.
وتستمر الأمم المتحدة عبر أمينها العام غوتيريش في مجلس الأمن في التركيز أكثر على أن الحرب في أوكرانيا تشكل أخطر التحديات على النظام، وتحاول الأمم المتحدة جاهدة أن تحافظ على ثبات النظام الدولي من محاولات التغيير الجارفة معللة ذلك بأن الحرب في أوكرانيا أدت إلى خسائر كبيرة في الأرواح وألحقت الكثير من الضرر في الاقتصاد العالمي، خاصة في البلدان النامية، لذا وجب أن تتوقف الحرب على الفور!.
للأمم المتحدة منظمات فرعية تمثل الأذرع والتفرعات التي دائمًا ما تنشغل بالقضايا التي تمس الشأن الإنساني والشأن الدولي في محاولة منها لرسم صورة من الهيمنة وترك انطباع القيادة الأمريكية للنظام الدولي، فعلى سبيل المثال تجري الأمم المتحدة مجموعة من التحقيقيات التي تفضح فيها عن اعدام 50 مدنيًا على أيدي القوات الروسية في بلدة بوتشا قرب كييف، ولتطرح وبقوة عبر ذلك أن روسيا تخترق بممارساتها هذه القانون الإنساني الدولي وتنتهك حقوق الأوكرانيين.
في حين أن روسيا على الجهة الأخرى تتمادى على الأراضي الأوكرانية وتتجاهل كل هذه الاتهامات معتمدة على الفيتو وعلى مجموعة من التحالفات التي تقف بجانبها كالصين وايران فهي في ذلك تثير غضب الأمم المتحدة وترسل إشارات واضحة مفادها قرب انتهاء الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، لتأتي الأمم المتحدة بعد ذلك في رد يحفظ لها ماء وجهها بتعليق روسيا من مجلس حقوق الانسان، معتمده في ذلك على كرتها الرابح على الدوام “الجمعية العامة” فتتحصل على 93 صوت لصالح القرار ومعارضة تصل إلى 24 وامتناع 58 دولة عن التصويت، كل ذلك يتم في محاولة من الأمم المتحدة لعزل روسيا عن الساحة الدولية نتيجة لهجومها على أوكرانيا في 24فبراير 2022م، وإن كان ذلك حقيقة عزلًا رمزيًا لا يترتب عليه الكثير.
كل ذلك يجعلنا نقف متسائلين عن إمكانية تسبب الحرب الروسية الأوكرانية في تفكيك الأمم المتحدة؟ وهل ستنجح واشنطن في تقليل محاولات روسيا التأثير ورسم الملامح الجديدة؟ وهل حقًا بإمكان روسيا انهاء هيبة الأمم المتحدة؟