فهمي محمد
بعد أن وقفت في القراءة على الرسالة الموجهة من حسين الفرح إلى الرئيس على عبد الله صالح ( وهي الرسالة التي يستند إليها الضالعي وشوقي في اتهامهما للجبهة الوطنية والنظام في الجنوب بقتل مشائخ تعز ) أحسست وأنا القارئ البسيط أن الرسالة كانت رسالة استجداء وفيها عرض مسرحي هزيل ومبتذل في سيناريوهات الإخراج لعرض صفقة سياسية تطرحها الرسالة على الرئيس صالح مقابل السماح لعودة المناضل عبدالله عبدالعالم إلى أرض الوطن، فهي لا تحمل أي معنى يمكن أن يجعلنا ننسبها للمؤرخ الذي يضع نفسه مسؤولاً تجاه الأجيال القادمة فيما يتعلق بتدوين التأريخ السياسي، مع العلم أني أتحدث هنا عن الرسالة المتداولة الآن مع احترامي الشديد للأشخاص، وبغض النظر هل الرسالة هي من تحرير حسين الفرح أم لا؟
فالرسالة علاوة على كونها لا تقدم أي دليل إثبات فيما جزمت به، ولا تقوم على تحليل منطقي للحدث بل تحمل الكثير من التناقض الذي يثبت تهافتها المكثف فيما تحاول أن تذهب إليه، إلا أن ما يفهم منها بدون عناء أن لسان حالها كان يعرض يومها على الرئيس صالح صفقة سياسية تقوم على أساس أن يقبل الرئيس صالح عودة عبدالله عبدالعالم إلى أرض الوطن كمواطن عادي في الوقت الذي أصبح فيه الأخير لايشكل خطراً على الحاكم في صنعاء، مقابل أن يتبنى أصحاب الرسالة رواية جديدة لأحداث الحجرية تؤكد براءة عبدالله عبدالعالم وفي نفس الوقت تبرئ نظام صنعاء من دم ابن يعقوب، وهذا الإخراج المسرحي يتطلب طرفاً ثالثاً يجب أن يدخل قفص الاتهام، على أن يكون اتهام هذا الطرف يصب في المقام الأول في مصلحة الرئيس صالح، حتى يتم تحفيزه لقبول الصفقة، التي سوف يحقق من خلالها أكثر من مكسب سياسي هو محتاج إليه الآن في حسابات أصحاب الرسالة الذين كانوا يدركون مستجدات الأحداث ومعادلة الصراع السياسي في عام 1990.
فإذا كانت عودة عبدالله عبدالعالم لا تشكل على المستوى العسكري خطراً بعد أن أصبح الرئيس صالح مسيطراً على الوضع العسكري، فإن السماح بعودته سوف يزيد من رصيده سياسياً في كسب ود عبدالله عبدالعالم والأشخاص الذين يرون في عبدالله عبدالعالم رمزية وطنية، كما أن المعروف عن صالح أنه يقدم على العفو أو يستجيب إلى طلبه عندما يكون عفوه عن الأشخاص مجرد استعراض لفائض القوة لديه، كما فعل بعد حرب 94/ وهو ما كان سوف يتحقق له سياسياً في مسألة السماح لعودة عبدالله عبدالعالم إلى أرض الوطن،
ومع أن سماح صالح بالعودة سوف تضعه من جهة أخرى في موقف محرج أمام أسر المشائخ المغدور بهم بكونه تخلى عن دم شهدائهم خصوصاً بعد أن أصبحت جل أسر المشائخ حليفة لنظامه الذي ظل يعبر عن مصالح القوى القبلية والمشيخية من دون الناس، إلا أن أصحاب الرسالة قد تولوا حل مشكلة الحرج بكونهم سوف يتبنون رواية وخطاباً إعلامياً مدعوماً من أجهزة السلطة يؤكد أن الجبهة الوطنية والنظام في الجنوب هم من قتلوا مشائخ تعز و غدروا بهم، وأنهم فعلوا ذلك ليس تعاطفاً مع الرئيس الحمدي ولا مع عبد الله عبدالعالم، بل انتقاماً لقتلاهم ومعتقليهم في سجون محمد خميس !
بدون شك أصحاب الرساله قد اختاروا الوقت المناسب ليعرضوا على الرئيس صالح صفقة سياسية فيها الكثير من الإغراء السياسي لكونها تساعده في مسألة ضرب تأريخ ومستقبل خصمه السياسي = { الحزب الاشتراكي اليمني } وهو ما كان يحتاج إليه الرئيس صالح بعد الوحدة مباشرةً خصوصاً وأن الرسالة مؤرخه في 1990 م، وهذا بحد ذاته سوف يكون دافعاً كبيراً للرئيس صالح نحو قبول مثل هذه الصفقة الرابحة سياسياً في وقتها المناسب، لاسيما وأن صالح كان قد دخل يومها في معادلة صراع مصيرية حول مفهوم دولة الوحدة مع الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان مشاركاً في السلطة بموجب اتفاقية الوحدة، ويملك معسكرات وسلاحا وله وجود كبير في الشارع، ناهيك عن أن قيادته السياسية كانت تتمتع بكاريزميا آخذة داخل الوسط الشعبي خصوصاً في محافظة تعز، ما يستدعي مسألة ترجيح قبول صالح فكرة تهشيم صورة هؤلاء الساسة القادمين من الجنوب إلى صنعاء، ومع ذلك يظل الاستفهام مطروحاً وقائماً بخصوص عدم استجابة صالح لهذا العرض المربح الذي قُدم له في وقته المناسب.
وإذا ما سلمنا جدلاً أن اتهام الجبهة الوطنية وبدعم من النظام في الجنوب كما ورد في الرسالة صحيح أو أنه قابل للنقاش وقد تم توجيه الرسالة إلى الرئيس صالح في الوقت المناسب لتوظيف محتواها سياسياً ( وأنا هنا أستبعد أن يكون طرح الرسالة على مكتب الرئيس ناتج عن جهود شخصية صادرة من حسين الفرح بل هو توجه سياسي يعي استثمار الصفقة المعروضة في عام 1990 ) فإن طرح السؤال بخصوص عدم استجابة صالح لكشف الحقيقة التي نفترض أن رسالة الفرح تتحدث عنها يجب أن يكون أكثر إلحاحاً، خصوصاً وأن صالح سوف يكون أكبر المستفيدين منها لكونه كان وما يزال في نظر الكثيرين من أبنا تعز أحد المتهمين في تدبير مقتل مشائخ تعز وليس عبدالله عبدالعالم، والآن على صحة هذا الافتراض حصحص الحق والمحسوبون على عبد الله عبدالعالم مستعدون أن يقولوا للناس حقيقة أن صالح بريء وأن قتلة مشائخ تعز هم الاشتراكيون، فكيف يرفض الرئيس صالح ذلك والحقيقة تتكشف أمامه وفيها المكسب السياسي في نفس الوقت؟!
هل كان صالح في عام 1990م وهو العام الذي وجهت إليه رسالة حسين الفرح يراعي حساسية العلاقة وعدم الإخلال بمبدأ الثقة بينه وبين شريكه في دولة الوحدة ={ الحزب الاشتراكي اليمني } وهو الذي استخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في سبيل تشويه وضرب الحزب الاشتراكي بما في ذلك دعمه خطاب الإحلال والتكفير ضد أعضائه وقياداته؟ أم أنه كان يرى في عودة عبدالله عبدالعالم إلى أرض الوطن خطراً عليه أكثر من خطر الحزب الاشتراكي، لذلك فضل عدم التعاطي مع الصفقة لكي يظل عبدالله عبد العالم خارج الوطن؟ أم أن صالح كان يرى بأن عودة عبدالله عبدالعالم سوف تشكل إضافة نوعيه تصب في صالح خصومه السياسيين ={ القوى اليسارية }؟ مع أن ذلك لن يتحقق في حال إن كان الرئيس صالح صاحب الفضل في عودته إلى أرض الوطن وكانت الجبهة الوطنية والنظام في الجنوب هم المتهمون في قتل مشائخ تعز.
في كل الأحوال طرح مثل هذه التساؤلات تجعل رسالة الفرح من حيث القيمة التأريخية مجرد رسالة هزلية لأن محتوها العام بمقياس الإجابة على تلك التساؤلات المنطقية، يجعلها غير مؤهلة لمطاردة الحقيقة فيما جرى في الحجرية عام 1978 إلا أنها بعقلية عقد الصفقات السياسية التي لا تعول على القيمة الأخلاقية والتأريخية لا تخلو من الذكاء السياسي، كما أن عدم تفاعل الرئيس صالح معها ربما يعود إلى كون الرئيس صالح يعرف تفاصيل وحقيقة ماجرى في الحجرية ومن هم قتلة مشائخ تعز أكثر من أصحاب الرسالة -الذين حاولوا أن يذكروا صالح في رسالتهم بأنه كان ناصرياً ومحسوباً على التنظيم الوحدوي الناصري- ! لذلك فضل عدم التعاطي مع هذه الصفقة لأنها تفتح ملفاً لا يرغب الرئيس صالح في فتحه للأبد، وهذا ما حدث حتى مقتله في عام 2017 ، أم أن عبدالله عبدالعالم هو من رفض أن يعود إلى أرض الوطن على أسس صفقة سياسية تعمل على قلب الحقائق التأريخية أمام الأجيال إذا كان في جعبته غير ما ورد في رسالة حسين الفرح؟! ومع ذلك نظل منتظرين مذكراته لكي تتسع مساحة الرؤية لدينا حول أحداث الحجرية ومن المسؤول عن قتل مشائخ تعز فالكل تكلم كثيراً فيما جرى والبعض هذر في قوله بدوافع سياسية وليس بدوافع تأريخية وإنسانية في حين أن الرجل الذي كان يجب أن يتكلم صمت أكثر من اللازم!
مشكلتنا مع السياسيين في اليمن أنهم يموتون مع أسرارهم، وعندما تدفن جثثهم في التراب يدفن معها الكثير من الحقائق التأريخية التي تحتاج إليها الأجيال القادمة -كما هو حالنا الآن بخصوص حاجتنا لمعرفة حقيقة أحداث الحجرية، وهي حاجة تفرضها مسألة الحديث عن ضرورة العدالة الانتقالية أكثر من الحديث عن اتهام جهات بدوافع عقد الصفقات السياسية -البعض من السياسيين يدونون في حياتهم وينشر ما تم تدوينه بعد موتهم، والبعض منهم لا يفعل ذلك، ربما يدرك هؤلاء أن تبعيات الكلمة التي تطارد الحقيقة في اليمن سوف تلاحق أولادهم بعد النشر، لهذا يصمتون صمت القبور حتى لا يدفع الأبناء ثمن الخيارات السياسية التي اختارها الآباء، في هذا البلد، فالكلمة التي يجب أن تكشف الحقيقة كما هي وفي وقتها المناسب لم تنتزع حريتها بعد، ما يعني أن على السياسيين أن يناضلوا اليوم من أجل وجود الدولة ومن أجل حرية الكلمة في ظل هذه الدولة التي يجب أن تكون في اليمن = الدولة الضامنة بمصطلح الدكتور ياسين سعيد نعمان.