فهمي محمد
في ستة عقود فقط فجر اليمنيين من واقع معاناتهم ثلاث ثورات ووحدة، بالإضافة إلى قيام ثورة تصحيحية في الجنوب واخرى في الشمال، ناهيك عن كفاح سياسي طويل وغير منقطع في تضحياته الجسام ، لاسيما وقد برز على إمتداد هذا الكفاح أسماء مناضلين كبار ومكونات سياسية خاضت معترك التغيير السياسي والإجتماعي والاقتصادي ، وأكثر من ذلك سقط في مسار هذا الكفاح الكثير والكثير من الشهداء والجرحى والضحايا من السياسيين والمدنيين ، وكل ذلك كان ومايزال بهدف الإنتصار لفكرة الخلاص مما هو قائم وتحقيق ما يجب أن يكون عليه حال اليمنيين.
مع كل ذلك مازال واقعنا السياسي والإجتماعي والاقتصادي والثقافي يستدعي ضرورة الفعل الثوري وكائن هذا الأخير هو الهدف بحد ذاته أو أنه قدرنا الذي يجب أن نعيش دائماً في ظل إعتمالاته وليس المستقبل الذي يجب أن يتحقق بفعل الثورة ويجتاز بالناس أسباب الثورة التي تنعدم في ظله ، بمعنى أخر لا يجتمع – في شعب ما وفي زمان واحد – المستقبل الذي يجب أن يكون عليه واقع الحال مع أسباب الثورة التي تستدعي بالضرورة فكرة التغيير.
وإذا كان ما هو في حكم المؤكد ، يؤكد لنا أن المستقبل كان ومايزال هو الهدف المتعثر تحقيقه على مدى التجربة / التاريخية / الثورية/ التي بدت تتصدر المشهد السياسي في اليمن منذ ستة عقود ، فإن حاصل ذلك يعني أن مخرجات الفعل الثوري بما تشكله من وقائع وأحداث وحتى شخصيات حاكمة في اليمن قد أصبحت تكذب مقولة الماركسيين القائلة = أن التاريخ لا يعيد نفسه وإن فعل فإن في الأولى يكون مأساة حقيقية وفي الثانية ملهاة مضحكة .
التاريخ كحالة سلبية – خارج مفهوم الصيرورة – أي الماضي – يعيد نفسه في اليمن أكثر من مره وبشكل أسوأ من قبل ، ما يعني في النتيجة أن التاريخ في اليمن يتقهقر للوراء ، بشكل يناقض مقولة المفكر علي أملل حين قال في كتابه السلطة السياسية والسلطة الثقافية -أن التاريخ يقدم نفسه حليف لشعوب نحو التقدم- أو أنه “أي التاريخ” حاصل الممكنات التي تحققت على حد تعريف أحد الفلاسفة الألمان ، لاسيما وأننا في اليمن قد فشلنا حتى الآن في تحقيق الممكنات التي يجب أن تستقيم مع فكرة التغيير ، مع العلم أن محددات المستقبل الذي نكافح من أجله قد أصبحت عند الآخرين في حكم البديهيات المسلم بها كضرورة حتمية من قِبل كل المكونات السياسية والاجتماعية ، فالدولة والديمقراطية ووطن العيش الكريم ، قد تم الحسم في شأن وجودهما منذ قرون وأصبح المستقبل لديهم معني الآن بتحقيق الرفاهية الكاملة للإنسان والحيوان على حد سواء هكذا أصبح الرهان على المستقبل عند هؤلاء الذين انجزوا ثورة الخلاص من الماضي ، وتحول التاريخ معهم إلى صيرورة نحو التقدم بالمعنى الذي ذهب إليه الكاتب علي أملل في مقاله أن التاريخ يقدم نفسه حليف للشعوب نحو التقدم .
في كتابه الصادر في عام 2012م تحت عنوان ( الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن) يتحدث الباحث الكبير قادري أحمد حيدر عن إشكالية هذا الحضور التاريخي بما يعني أن هناك خصوصية يمنية في حجم هذا الحضور وتحكمه في الحاضر المعاش من منطقة إلى أخرى ، ففي حين يبدو هذا الحضور مكثفاً في مناطق شمال الشمال= { التوحد السلبي بالتاريخ على حد وصفه } يقل تدريجياً كلما اتجهت نحو الجنوب، ومع أن الباحث كان موفقاً في دراسته حول خصوصيات هذا الحضور التاريخي إلا أنه في نفس الوقت يصف إشكالية هذا الحضور على المستوى الوطني بالقول ={ إن سؤال الحضور التاريخي يعني أننا في كثير من تفاصيل حياتنا اليوم ماتزال تتحرك في إطار الماضي أو أن ذلك الماضي / التاريخ هو الذي يحدد ويتحكم بمسار حركتنا وحياتنا } وبهذا الخصوص يعتبر الأستاذ قادري أن تشيكل الأحزاب السياسية على مستوى الشمال والجنوب كانت هي الخطوة الأولى في سبيل إزاحة هذا الحضور التاريخي وإن ثورة سبتمبر واكتوبر كانتا الخطوة الثانية في سبيل إزاحة هذا الحضور التاريخي في اليمن ، ومن ثم ثورة الشباب ، لكن سؤالنا يقول هنا هل كان الباحث يتصور أنه بعد ثورة الشباب أو بعد صدور كتابه بعقد من الزمن سوف يفشل اليمنيين تماماً في إستكمال معركة إزاحة هذا الحضور التاريخي أو إلغاء حالة التوحد السلبي بالتاريخ بل على العكس من ذلك سوف يركضون إلى الوراء ويدخلون مرحلة تقهقر التاريخ بعد ثلاث ثورات ووحدة ؟!
إذا كان الحضور التاريخي يعني أن الماضي هو الذي يحدد ويتحكم بمسار حركتنا وحياتنا الحاضرة فإن تقهقر التاريخ يعني أن الماضي قد تمكن من إلغاء الحاضر وحتى من إلغاء وجودنا فيه وأنه مع هذا التمكن بدأ يستأنف بنا رحلة العودة إلى خارج حدود العصر ، أو إلى محطة القطيعة النهاية مع المستقبل الذي يجب أن يكون ، لاسيما وأن تقهقر التاريخ في أي بلد لا يعني سوى العلامة الكبرى التي تدل على تعطيل فكرة التغيير ، بما هو تغيير يصنع المستقبل.
وعلى نفس المنوال إذا كان الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن ، على حد وصف الباحث قادري في عام 2012م يعني أننا لم نجب على الكثير من أسئلة الواقع ( الحاضر ) والتاريخ ، أو أننا مستمرون في الإجابة عليها بنفس تلك الإجابات التاريخيه الكلاسيكية المملة والبليدة ، خصوصاً وأن مسألة الحضور التاريخي تعني لديه أننا أمام مجتمع سياسي يتحرك ببطء نحو المستقبل ، أو لا يمتلك مشروع للمستقبل ، فإن تقهقر التاريخ يعني هنا أننا بعد ثلاث ثورات ووحدة لم نجب بكل أمانة على أسئلة الثورة في اليمن ، ولم يبدو علينا حتى علامة الإستعداد والتأهل لذلك ،
إن مسألة تقهقر التاريخ كحالة موضوعية سياسية واجتماعية نعيشها اليوم في اليمن ، تكفي بحد ذاتها لتدفعنا أو تدفع البعض منا إلى مجرد التفكير والتأمل بطرح أسئلة الثورة في اليمن – ناهيك عما نعانيه ثقافياً واقتصادياً – ما يعني أنه من غير المعقول أو المنطقي أن الوقت لم يحن بعد ثلاث ثورات ووحدة وكفاح طويل وتضحيات جسام ، لكي نضع تجربتنا الثورية الممتده لستة عقود في مختبر التحليل وعلى طاولة الدراسة والتأمل قبل طاولة الحوار ، بهدف الحصول على إجابات علمية دقيقة وناجعة ، تجاه أسئلة الثورة التي يجب أن نطرحها بعقلية نقدية تجردية ، لاسيما وأننا حتى اليوم لم ننجح في صناعة المستقبل الذي يجب أن يكون ، كما أن الفشل الذي نعيش فيه اليوم بعد ثورتنا الثالثة لم يتوقف عند حدود الفشل في مسألة التغيير على المستوى الوطني ، بل تجاوز إلى الإخفاق الكبير في مسألة الحفاظ على شمولية الصيرورة التاريخية ببعديها السياسي والإجتماعي التي يفترض أن تتجه نحو المستقبل بفعل الثورة الثالثة ، ما يعني أن تجربتنا الثورية في اليمن تطرح علينا أسئلة تتعلق بنجاعة الفكرة الثورية في اليمن ، بعضها يقول على سبيل العموم :
هل الثورات في اليمن تشكل أحداثاً سياسية أم أحداثاً تاريخية وما الفرق بين الاثنين ؟
لماذا نفشل دائما في تحقيق المستقبل رغم تكرار الثورات في اليمن ؟
لماذا ننجح في مهمة الفعل الثوري ونفشل في تطبيق مشروع الثورة ؟
لماذا تتغير الوجوه الحاكمة بعد كل ثورة دون تغيير في مسار التوجه ؟
هل تواجه الثورة في اليمن مشكلة الفساد السياسي والاقتصادي والإداري الصادر عن أشخاص أو طبقة حاكمة أم أن هناك اختلالات بنيوية يجب أن تتصدى لها الثورة بمشروع ثوري وحامل سياسي ؟
لماذا يسهل دائماً على لصوص الثورة سرقة مشروعها الثوري ؟
ماهي عوامل نجاح الثورة المضادة في اليمن ؟
هل المكونات والنخب السياسية في اليمن مؤهلة لخوض معركة التغيير ؟
والأدهى والأمر من بين تلك الأسئلة يقول لماذا اليوم يتقهقر التاريخ في اليمن نحو الماضي بهذا الشكل المخيف بعد ثلاث ثورات ووحدة استهدفت التقدم والمستقبل بكثير من التضحيات الجسام ؟!