كتاب المواطن – روجيه جارودي
إن التعالي والمحايثة لا يتعارضان تعارض نعم ولا المنطق الكلاسيكي، بل هما مترابطان جدلياً، توترياَ : يتنافيان ويتضامنان معاً. فالتعالي هو النقض الداخلي للمحايثة. إنه ليس من فصيلة الكينونة، وإنما من فصيلة الفعل.
وأقرب ترجمة لـ «حضور الله» بالنسبة إلى الماركسي هي تجربة الخلق في جميع أشكاله: من الاختراع العلمي إلى الإبداع الفني، ومن الحب إلى الثورة. وهو لن يقول: الله ههنا! بل: ثمة شيء جديد ينبثق في التاريخ وفي حياة البشر.
أما التصور الذي يضع التعالي في «الماوراء» فإنه يضعه في الحقيقة على هامش حياة البشر.
هذه الذاتية الفاعلة، التي هي انبثاق لامحدود للتعالي، نجد مثالاً عليها في صورة المسيح وهو يحطم الأصنام والأغلال ويعبر الحدود ويطيح بالمحرمات باسم حب يتخطى جميع هذه الحدود التاريخية ويتعالى عليها.
ولا يمكن للماركسية أن تكون المحطمة الأصيلة للأغلال إلا إذا كانت قادرة على أن تدمج بها هذه اللحظة الإلهية من لحظات الانسان.
ذلك أن الموقف الثوري، في السياسة كما في الفن، بحاجة إلى التعالي أكثر مما هو بحاجة إلى الواقعية.
وليس في مستطاع أي تناقض «موضوعي» أن يفضي وحده إلى ثورة. ولقد اوضح ماركس، ومن بعده لينين، أن البؤس لا يتحول آلياً إلى حركة صاعدة تطوح بصرح النظام الموْلِّد للبؤس: إذ لا بد لذلك من مشروع ثوري يزيح النقاب عن إمكانية نظام آخر يتجاوب وأماني الجماهير العميقة.
وليس في مستطاع أي محاجّة «علمية» أن تبرهن على ضرورة هذه الإمكانية: فماركس في تحليله في «الرأسمال» لتناقضات الرأسمالية يثبت أن التطور الداخلي للنظام يقوده الى حتفه ودماره، ولكنه لا يصف لنا المجتمع الذي سيولد من أنقاض الرأسمالية.
وهو لا يدعي البتة، في كل مرة يأتي فيها بذكر المجتمع المقبل، أنه يستخدم منهجاً علمياً. فهو يلجأ في توقعاته الاستباقية إلى أسلوبين: الجدل الهيغلي الصرف أي جدل نفي النفي، والإسقاط المستوحى من الطوبائيين.
وتلقى مثالاً نموذجياً لاستخدام المخطط الهيغلي عن نفي النفي في مؤلف من مؤلفات شبابه: «مساهمة في نقد فلسفة هيغل في الحقوق». فهو يعبّر عن يقينه بتحرير الطبقة العاملة على النحو التالي: «ينبغي أن تتكوَّن طبقة جذرية الأغلال … دائرة لها طابع شمولي يحكم عذاباتها الشمولية … دائرة لا تستطيع بعد الآن أن تنتسب إلى لقب تاريخي وإنما فقط الى اللقب الانساني، دائرة لا تتعارض تعارضاً خاصاً مع نتائج النظام السياسي بل تعارضاً عاماً مع جميع مبادئه … دائرة أخيراً لا تستطيع أن تحرر نفسها مالم تحرر سائر الدوائر الأخرى… و بكلمة واحدة دائرة تجسد الضياع الكامل للإنسان ولا تستطيع بالتالي أن تستعيد نفسها إلا اذا استعادت الانسان كاملاً، وانحلال المجتمع من حيث أنه طبقة خاصة يتمثل في البروليتاريا».
إن رسالة البروليتاريا التاريخية المتمثلة في استعادة الانسان الكامل مبنية هنا على الجدل الهيغلي وريث الجدل المسيحي عن الصلب والبعث. وهذا ما سبق لجوريس أن نوَّه به: «كما أن انحطاط الله اللامتناهي هذا كان شرط ارتفاع الانسان اللامتناهي، كذلك فإنه كان على البروليتاريا، المنقذ الحديث، أن تنحط في جدل ماركس إلى أعمق أعماق العدم التاريخي والاجتماعي حتى ترفع بارتفاعها الانسانية قاطبة».
ولئن كان الهم الأول لماركس في «الرأسمال» هو التحليل الاقتصادي للآليات التي تقود النظام نحو انحلاله النهائي، فإنه لم يتخل عن الهيكل الهيغلي. فالإنتاج الرأسمالي، النافي للملكية المؤسسة على العمل وحده يولُد نفيه الذاتي: «إنه نفي النفي» کما كتب ماركس بالحرف الواحد. والنتيجة التي تنجم عن ذلك انقلاب جدلي جديد في العلاقات بين الموضوع والذات (الآلة والإنسان) والانتقال من الاستلاب (الذي تمثل صنمية البضاعة حالة خاصة من حالاته) إلى تفتح «الانسان الكلي». ونحن هنا في غاية القرب من موضوعة الانتقال من الملك إلى الكينونة في «مخطوطات 1844».
وحين يتخطى ماركس تحليل الحركة الواقعية للمجتمع الرأسمالي ليستكشف آفاق ممكنات المستقبل، يرجع إلى استباقات الطوبائيين المتقدمين. ويضع إنجلز في «الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية» قائمة بأسمائهم: توماس مونذر، «المسوون» الانكليز، موريلي، مالي، سان سيمون، أوین، فورييه ، وبعدهم «مؤسسي الاشتراكية». ويضيف قائلاً:
«مع عدم نضج الانتاج الرأسمالي، وعدم نضج وضع الطبقات، يتجاوب عدم نضج النظريات. ولم يكن هناك مناص من أن ينبجس من الدماغ حل المشكلات الاجتماعية الذي كان ما يزال مختفية في العلاقات الاقتصادية… وكان الهدف اختراع نظام جديد أكمل من النظام الاجتماعي القائم وتقديمه هبة الى المجتمع من الخارج بواسطة الدعاية، وإذا أمكن، بواسطة قدوة التجارب النموذجية». وبدلا من السخرية من تلك الاستباقات الطوباوية وازدرائها يقول إنجلز: «نفضل أن نغتبط ببذور الأفكار العبقرية (التسويد من إنجلز) التي تشق طريقها تحت الغلاف الخرافي والتي يعمى عنها الأدعياء الجهلة». وقد غرف ماركس، حتى يتخيل المستقبل، من معين هذه الإسقاطات: تصور مجتمع بلا طبقات ولا دولة لدى توماس مونذر، وتصور الدولة لدى فوربيه، وتصور تفتح الانسان ونظريات العمل والتربية المتعددة تقنياً لدى أوبن، الخ.
وماركس، الذي لم يشأ قط أن يؤسس «نظاماً» لم يفصِّل على الدوام فلسفة شبابه وتحليلات «الرأسمال» الاقتصادية وإنشاء نماذج المستقبل بحسب ما كانت تقتضي حياته كمناضل.
وقد عانت الماركسية لدى ورثته، ولا سيما بعد أن جرى استخدام المذهب أساساً تقوم عليه الأحزاب والدول، عانت من الفقر والهزال: فقد برزت في السياق التاريخي لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين رغبة في استغلال «العلم» والى أقصى حد ممكن، ولكن على أساس تأويله باتجاه وضعي النزعة. فابتداء من كاو تسكي نفسه لم تعد الماركسية إلا جدولاً تصنيفياً للقوانين الاقتصادية يبيح التعميم انطلاقاً من الوقائع الحاضرة. وبذلك حلت محل الجدل الهيغلي الثنائية الكانطية القائلة بوجود عالمين: عالم الظاهرات الخاضع، بحكم غياب الانسان، لحتمية ميكانيكية، والعالم الأخلاقي الذاتي الصرف الذي لا يمت بصلة إلى الواقع.
ومع ستالين، وباسم المادية الجدلية، تم الجمع بين تصور وضعي عن علوم الطبيعة وبين فلسفة للتاريخ تبني اليقين بانتصار الاشتراكية على لاهوت مصبوغ بالصبغة العلمانية: معرفة أعم قوانين الطبيعة والفكر والتاريخ.
وانطلاقاً من مثل هذه الرؤية كان من المحتم أن تزهر نفس الانحرافات التي عرفها تاريخ الكنيسة: الدوغمائية، والإكليروسية، والمنافحة عن العقيدة بكل الوسائل، والرضى عن النفس بكل ما يترتب عليه من نزعة محافظة. وبذلك تلبس الإيمان، الذي هو علّة كل عمل ثوري ومبدأه، أشكالاً منحرفة كالتعصب المتحزب وعبادة الشخصية واليقين الدوغمائي بامتلاك الحقيقة الكاملة والنهائية مع ما يترتب على ذلك بالحتم والضرورة من إحياء لمحاكم التفتيش.
وإذا كان الثوريون لا يرغبون في تأييد هذه التصورات الشائهة عن التاريخ کما عن المستقبل، التي تشل العمل الثوري وتحكم عليه بالعقم، فمن الأهمية بمكان أن يعوا دينامية وإمكانيات الأيمان الذي فيهم.
إن البديل الحقيقي عن دين أفيون للشعب ليس إلحاداً وضعي النزعة، لأن الوضعية ليست هي العالم بدون الله فحسب، بل أيضاً العالم بدون الانسان. إن البديل الحقيقي هو إيمان مناضل وخلاّق لا يقصر الواقع على ما هو كائن فحسب، بل يضمنه أيضاً جميع ممكنات مستقبل يبدو على الدوام مستحيلاً في نظر من لا يملك قوة الأمل.
ومن مآثر إرنست بلوخ أنه أعاد اكتشاف الأساس الضروري لكل ماركسية حية: أعني ما أسماه ب «مبدأ الأمل».
إن الثورة ليست محض علم او فلسفة أو أيديولوجيا: فهي قبل كل شيء طريقة في العمل والسلوك، مثلها مثل الايمان. ومن يرفض الإقرار بمسلماتها يقطع عن نفسه معينها. وليس صحيحاً أن المرء يصبح ثورياً بمجرد أن يعاني من الشقاء أو بمجرد أن يتأكد بطريق البرهان «العلمي» من ضرورة الاشتراكية.
ومن النافع كل النفع للثوري أن يمر بتجربة الشقاء الحيوية، وأن يمتلك الروح العلمية، ولكن ليس بؤسه ولا علمه هما اللذين جعلا منه ثورياً.
إن وراء كل عمل ثوري فعل إيمان: اليقين بأن العالم قابل للتحويل، وبأن الانسان يملك القدرة على الخلق من جديد، وبأننا مسؤولون شخصيا عن هذا التغيير.
والإيمان يعني الأمل. يعني أن نستشف الإمكانيات فيما وراء الواقع المباشر.
وإذا كان للإنسان تأريخ لا طبيعة، فإن هذا التاريخ لا يكتمل أو ينتهي أبداً. ولا سبيل أبداً إلى نفوسنا للرضى والاكتفاء. وعليه فإن الإيمان لا يمكن أن يكون تبريراً للتاريخ، وإنما هو انفتاح على التاريخ. إنه ذلك السؤال الذي يترك التاريخ معلقاً.
***
لقد تساءلت طوال حياتي عما إذا كنت مسيحياً. وطوال أربعين عاما أجبت بالنفي. وهذا لأن المشكلة كانت تطرح على غير وجهها الصحيح: فكأن الإيمان يتنافى وحياة المناضل. وإني لواثق من الآن فصاعداً بأنهما شيء واحد، وبأن رجائي كمناضل لن يكون له من أساس بدون هذا الإيمان.
وإذا كنت الآن أتردد في الإجابة بالإيجاب فهذا لأسباب أخرى: فمثل هذا الأيمان يبدو لي قوة تفجيرية هائلة لا يستطيع الإنسان أن يزعم أنه يمتلكها قبل أن يتحقق منها في العمل المثير للأسئلة وللقلق، اللهم إلا إذا كان دعياً مغروراً. وهذا التحقق لن يتاح للمرء إلا في نهاية حياته لا في منتصفها، أي بعد أن يكون قد أنجز نصيبه من الخلق كاملاً.
ولست أعتقد أن هذا الوعي حدث شخصي. فهذا التساؤل هو، على اختلاف أشكاله، تساؤل الملايين من البشر في هذه اللحظة من انعطاف التاريخ. إنه علامة من علامات الزمن، لحظة من ثقافتنا ومن أزمة الحضارة. ومن هنا فإن التغيير الذي يفرض نفسه على صعيد البنى وعلى صعيد الضمائر معاً لن يكون محض تحديث للإيمان، بل سيكون أيضاً ثورة ثقافية.
3- تغيير مشروع الحضارة: ثورة ثقافية.
يطرح لينين بإلحاح وقوة مشكلة الثورة الثقافية في مقاله «عن التعاون في عام 1923. ويمثل هذا النص، وهو من أواخر نصوص حياته، «وصيته» الحقيقية أكثر بكثير مما يمثلها النص الذي سمي بهذا الاسم والذي يتعلق بمسائل الأشخاص واختيار القادة، ولا سيما ستالين. وفي تلك الدراسة عن النظام التعاوني يسلط لينين الضوء على جوهر الاشتراكية مركزاً على أفكار رئيسية ثلاث:
1- إن الخطر الأكبر هو خطر سقوط النظام بين براثن البيروقراطية. كتب يقول: «إن جهازنا الإداري لا يساوي قشة، وقد ورثناه بتمامه عن الماضي». ولينين يخوض هنا حربه الأخيرة: ضد البيروقراطية. وكان منذ عام 1920 قد فضح هذا التشويه الذي قد يفضي، في أحسن الأحوال، إلى بناء اشتراكية من أجل الشعب لا عن طريق الشعب، والذي يتنافى وماهية الاشتراكية بالذات.
2- إن العلاج في نظر لينين هو تنظيم الشغيلة، وهو يلح إلحاحاً خاصاً، في روسيا التي كانت ما تزال فلاحية، على التعاون الفلاحي مثلا كان يلح في المدن على «الرقابة العمالية». والاتجاه في كلتا الحالتين واحد: لا اشتراكية حقيقية إلا متى سيَّر الشغيلة مشروعهم بأنفسهم. وهذا بالضبط تعريف التسيير الذاتي. «إن التعاون يتفق كل الاتفاق مع الاشتراكية».
3- لكن هذا التعاون – كما يضيف لينين قائلاً- يتطلب درجة عالية جداً من الثقافة … بحيث يستحيل ذلك التنظيم العام في التعاونيات بدون «ثورة ثقافية حقيقية». ويخلص إلى القول بأن من الضروري «أن ننجز هذه الثورة الثقافية حتى نصبح قطراً اشتراكیاً بملء معنى الكلمة».
الاشتراكية إذن لا تتحدد بالنسبة إلى لينين بإلغاء ملكية وسائل الانتاج فحسب. ولا سبيل إلى تحقيق الاشتراكية فعلاً وحقاً إلا إذا وضع حد لـ «تركة الماضي» تلك: البيروقراطية. وهذا بدوره لا سبيل إليه إلا بالتنظيم التعاوني الذي يسيَّر فيه الشغيلة مشروعهم بأنفسهم، وهذا التسيير الذاتي غير ممكن بدوره إلا إذا كان الشغيلة على مستوى عال من الثقافة بفضل ثورة ثقافية. إن الاشتراكية ليست محض تشريك للملكية، بل أيضاً، وفي الوقت نفسه تشريك للملك وللسلطة وللمعرفة.
وقد انطرحت مشكلة الثورة الثقافية بحدة خاصة في الصين حيث كان المتأدب المتنفذ يجمع منذ ألفي عام بين أسلحة السيطرة الثلاثة هذه.
وكما أن الغالبية البرودونية من قادة عامية باريس افترضت أن مهمتيها الأساسيتين هما التسيير الذاتي والفيدرالية لتحطيم المركزية البيروقراطية التي
كانت تقليداً قومياً متأثل الجذور ورثه اليعاقبة فنابليون عن المَلَكية، كذلك فإن ماوتسي تونغ حين لاحظ بعد ثلث قرن من تجربة لينين صعود الخطر الجديد: خطر بيروقراطية مكونة من موظفي الحزب القابضين في آن واحد هم أيضاً على زمام السلطة السياسية والعلم الماركسي والاشراف على توزيع فضل القيمة (مكرسين بذلك على مستويات ثلاثة الثنائية القديمة بين الحكام والجماهير)، بادر إلى المجازفة بتحطيم جهاز الحزب فأطلق «الثورة الثقافية» من قمقمها ضد عودة المتنفذين الجديدة.