بلال الطيب
بعد 16 يومًا من قيام حركة 5 نوفمبر 1967م، عاد الفريق حسن العمري من القاهرة، استقبل في مطار صنعاء استقبال الفاتحين، وحُمل على الأكتاف، وصدر في اليوم التالي قرارًا بتعيينه قائدًا عامًا للقوات المُسلحة 22 نوفمبر 1967م، وذكر سنان أبو لحوم في مُذكراته أنَّ الحكام الجدد كانوا رافضين رجوعه؛ بحجة أنَّه سيربكهم بأسلوبه المُتشدد، ليراجعوا بعد ذلك موقفهم؛ خاصة حين أثبت الرجل حضوره، ولعب دورًا هامًا في قيادة المعارك، ولملمة الصفوف الجمهورية المُشتتة.
حين تقدم الإماميون إلى مشارف صنعاء، أعطى الفريق حسن العمري أوامره للقوات المُتواجدة في طريق الحديدة – صنعاء بسرعة الانسحاب؛ كي لا ينفرد بها الإماميون، والأهم من ذلك تعزيز قوى الدفاع عن العاصمة من الداخل، وتضييق قُطر الدائرة الدفاعية؛ وهو الأمر الذي أربك حسابات الإماميين، وجعل أحد قادتهم الشيخ ناجي الغادر يقول مُتحسرًا:
من جبل عيبان شفنا العراضي
والقصور اللي بنوا في شرارة
لكن اعيتنا رجال الصواعق
واللواء العاشر وقوم الإشارة
بالتزامن مع سقوط جبل عَيْبَان 8 ديسمبر 1967م، شنت القوات الجمهورية بقيادة قائد قوات الصاعقة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب هجومًا مُضادًا، إلا أنَّ تلك القوات – للأسف الشديد – لم تتمكن من استعادة الجبل.
الفريق العمري من جهته قام بمحاولة ثانية وفاشلة لاستعادة الجبل 18 ديسمبر 1967م، وذلك بعد ثلاثة أيام من سقوط جبل الصمع في الجهة المُقابلة، استقر في قرية المساجد، شحذ همم القوات الجمهورية لبلوغ قمة جبل عَيْبَان، وتولى الرد بنفسه من إحدى الدبابات على الإماميين الذين بادروه بضرب كثيف، فيما جنود آخرون سارعوا باقتحام الجبل، وحين بلغوا غايتهم تأخر الدعم، فأمر العمري الجميع بالانسحاب.
تلك اشكالية كانت تلاحق الرجل، ما أن يُتم نصرًا، أو يقود هجومًا – كما قال عمر الجاوي – لا يكمله، وقد انتقده لذلك كثيرون، من ضمنهم الشيخ سنان ابو لحوم، الذي قال: «مع تقديري لشجاعة العمري، هناك بعض أخطاء قد لا يكون له ذنب فيها، فقد كان يخرج صباح كل يوم يجمع الناس، وهم يلحقونه، وآخر النهار يركن عليهم ويعود؛ وهم يلحقوا به»، والخروج اليومي الذي عناه الشيخ سنان كان في الأغلب إلى تبة تقع جنوب العاصمة صنعاء، أسميت فيما بعد بـ (تبة العمري).
من جهته الصحفي المصري مكرم محمد أحمد، قال مشيدًا بشجاعة العمري: «في ساحة المعركة، كان العمري يقف جنديًا في الساحة، وفي مرات كثيرة اشتبك الرجل وحرسه في المعارك إلى جوار الجنود والضباط، كان ذلك يسبب الكثير من المشاكل للجيش، فرصاصة طائشة قد تصيبه في هذه الفترة الحرجة، فيكسب الملكيون قيمة واسعة، وقد يخلع ذلك تأثيره على سكان المدينة، تلك كانت رؤية الجيش، بينما كان العمري يُصر أن يتقدم الجنود وهم يحتلون جبل عَيْبَان – سبق أن تحدثنا عن هذه المعركة – ولكن العناد الذي هو سمة بارزة فيه كان يُمكنه من كسب النقاش في النهاية».
وفي ذات الصدد، أشاد جار الله عُمر بزيارات العمري المتتالية إلى المواقع، وقال عنها: «ولقد كانت لزياراته المفاجئة تلك أثر إيجابي على معنويات المُقاتلين الجمهوريين، مثلما كان يحدث دائمًا في زياراته المختلفة التي دأب على القيام بها، وإن على عجل، وبدون تخطيط، وفي كل مرة كان يرى أنَّ الموقف يستدعي ذلك».
بعد شهر من عودته، شكل الفريق العمري حكومة جديدة بدلًا عن حكومة محسن العيني المُستقيلة 21 ديسمبر 1967م، وذلك إلى جانب استمراره في مهامه قائدًا أعلى للجيش، وعضوًا في المجلس الجمهوري، كانت صنعاء تعيش حينها أقسى لحظات الحصار، تملك اليأس من تبقى من قادة الجيش، فاجتمعوا في منزله، مع البقية الباقية من الوزراء، ومُمثلي المقاومة الشعبية، والمشايخ 28 ديسمبر 1967م.
طُرح في ذلك الاجتماع خيار عودة اللجنة الثلاثية المطرودة سلفًا، والمصالحة مع الإماميين؛ تحت مُبررات أنَّ الأخيرين يقتربون من عَصر، والظروف العسكرية لا تـُساعد على هزيمتهم، وأنَّ برقيات المسئولين في الحديدة تؤكد نفاد الذخيرة، والإمدادات، والوقود، وأنَّ سلاح الطيران لن يتحرك من الغد، وقد قوبل ذلك الاقتراح بالرفض من قبل القيادات العسكرية الشابة، والمقاومة الشعبية، رفعوا شعار (الجمهورية أو الموت)، وأقنعوا الجميع بضرورة الدفاع والمقاومة حتى النهاية.
في اليوم التالي، كانت جحافل الإماميين تُحكم سيطرتها على مواقع مهمة في جبل عَصِر، في محاولة جريئة لاجتياح العاصمة، وحسم المعركة نهائيًا، دارت معارك ضارية استمرت لأكثر من 48 ساعه، ووصل الاشتباك إلى السلاح الأبيض، قتلى وجرحى كُثر سقطوا من الجانبين، ومن أبرز شهداء الجانب الجمهوري: الملازم علي الأكوع، والملازم الشجني، والملازم محمد الناظري، كما أحرقت دبابة جمهورية.
ولولا التدخل والنجدة السريعة من قوات الصاعقة، والمقاومة الشعبية، وسلاح الطيران، لكانت صنعاء سقطت بالفعل، لتعرض في صبيحة اليوم التالي بعد صلاة عيد الفطر مُباشرة حوالي 20 جثة لقتلى إماميين في ميدان التحرير، فكانت رسالة قوية أخرست المُرجفين، وأرعبت الإمامة وأنصارها.
انتهى رمضان مع دخول عام ميلادي جديد، الشتاء دخل مرحلته الأسخن، وفي بداية يناير 1968م وسع الإماميون من عملياتهم العسكرية، وبدأوا باستخدام أسلوب الهجوم الشامل، ومن كافة المحاور، ونجحوا قبل أن ينتصف الشهر بالسيطرة على جبل العرم، وقطع طريق صنعاء – الأزرقين، وقتل قائد ذلك الموقع الملازم أول أحمد عبدالوهاب الآنسي.
في الأسبوع الأخير من شهر يناير 1968م، كان الهجوم الملكي – كما أفاد جار الله عُمر – قد فقد زخمه السابق، وأمسى الإماميون في موقف المراوحة، وفي طريقهم إلى التحول من الهجوم إلى الدفاع، بعد أن لاحت في الأفق بوادر التغيير على صعيد جميع المحاور.
مع نهاية الحصار، صرح الفريق العمري لوسائل الإعلام أنَّ مجموع الهاونات والمدافع الصاروخية التي كانت تصلي صنعاء بحممها، تجاوز الـ 100 مدفع، فيما قدرت القذائف التي سقطت داخل العاصمة بحوالي 3,000 قذيفة.
ضحايا كُثر سقطوا جراء القصف العشوائي، وكم من قذيفة تجاوزت هدفها المرصود، وطالت مواطنين أبرياء، في باب اليمن وصلت قذيفة، وفي باب السباح وصلت قذيفة ثانية، وبين البابين فتحت أبواب جهنم، وتوزع عشرات الضحايا ما بين قتيل وجريح، وفي شارع جمال وصلت ذات نهار رمضاني قذيفة ثالثة، وأجبرت أروح تسعة أشخاص على المُغادرة.
الجثث ملقاة على الأرض، والدماء تسيل فوق الإسفلت، حتى الجامع الكبير، ومدرسة البنات الوحيدة، ومنازل المواطنين المهترئة لم يسلموا من القصف، مثل منزل الحاج علي عوبل، ومنزل أحمد حميشان، ومنزل شخص ثالث بقاع العلفي، وكان أقساها قصف منزل الحاج محمد الكتف، حيث قتل الأخير وبجانبه 17 شخصًا.
كغير العادة كان صباح 8 فبراير 1968م زاهيًا مُشرقًا، تحطمت فيه متارس الإماميين، وفروا تاركين مئات القتلى، وعشرات المدافع، وفي منطقة متنه التحمت قوتا النصر، شاع الخبر فتوافدت الجماهير مُحتفية، أعتلا الفريق حسن العمري إحدى الدبابات، مُقدمًا الشيخ أحمد عبدربه العواضي بطلًا للنصر، مُنهيًا خلاف استمر لشهور بين الرجلين.
واصل الشيخ العواضي مسيره وقواته صوب صنعاء، دخلوها دخول الفاتحين، بعد أنْ قصفوا المواقع الإمامية في بيت بوس، وأرتل، وحدة، فيما تمركزت القوات القادمة من صنعاء في جبل عَيْبَان – بعد أن تمكنت قوات جمهورية بقيادة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب من استعادته – والمناطق التي تمت السيطرة عليها، وكانت معركة فتح طريق الحديدة بداية النهاية للقوات الإمامية، وفقد الأمير محمد بن الحسين – حد تعبير ديفيد سمايلي – فرصته الأخيرة.
حصل بعد ذلك – كما أفاد جار الله عُمر – نوع من التداعي السيكولوجي الشامل بين صفوف القيادات الإمامية ومقاتليها، وتحول الغرور والتبجح المُفرط الذي كان شائعًا بين الأوساط الملكية قبل يوم من معركة إعادة فتح الطريق إلى حالة من اليأس المُطلق، ثم الشعور بالإحباط، وما نجم عن ذلك من الانقسام والتمزق، وتبادل الاتهامات عن مسؤولية الهزيمة، تبعه تخلى كثير من المقاتلين الإماميين عن عدد من المواقع على نحو غير متوقع، ومن دون قتال، وكما كانت تلك الحرب أكثر أيام اليمنيين صعوبة، وأشدها قسوة ومعاناة، إلا أنها في الوقت ذاته كانت الأجمل والأعظم مجدًا على الإطلاق.