المواطن/ كتابات _ عيبان محمد السامعي
الإهداء إلى: عبدالله عبدالرزاق باذيب والشهيد عبدالله عبدالمجيد السلفي, مثقفان ثوريان, وقائدان عماليان, ومناضلان خالدان…
مفتتح:
مع عودة الآمال العريضة بتدفق الموجة الثانية لحراك الشعوب العربية, بدأت تتجه الأنظار أكثر إلى دور العمال في هذا الحراك, ولقد سجلت الثورة السودانية طلوع نجم كيان عمالي ــ “تجمع المهنيين” ــ الذي أثبت جدارة منقطعة النظير.
لم يكن هذا الدور إلا امتداداً أصيلاً للدور الطليعي الذي خاضته الحركة العمالية في غمار ثورات الشعوب العربية منذ أن أقدم “البوعزيزي” العامل التونسي الكادح على إحراق جسده في 17 ديسمبر 2010م فأحرق بذلك نظم سياسية متسلطة ومرتهنة, وفتح مساراً تاريخياً لا يزال يختمر حتى اللحظة.
في اليمن كان للحركة العمالية اليمنية دور حاسم في الحراك الشعبي عام 2011م, وهو دور ينسجم مع تاريخها النضالي الذي يمتد لـ 80 عاماً, ساهمت بقسط وافر في مختلف المحطات التاريخية لبلادنا؛ بل مثلت في مراحل معينة طليعة النضال الوطني والتحرري ووقوده الحارق في سبيل حرية اليمن ووحدته وتقدمه الاجتماعي.
تفتقر المكتبة اليمنية إلى دراسات علمية شاملة للحركة العمالية ونضالاتها وقضاياها. وما هو متوفر لا يعدو عن بضع كتابات انطباعية أو توثيقية لفترات محددة لاسيما فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين.
من هنا, تأتي أهمية هذه الدراسة التي تتناول بمبضع التحليل السوسيولوجي الحركة العمالية والنقابية في اليمن وتحولاتها خلال الفترة (1939 – 2019م), وتشتمل على أربعة محاور, هي:
المحور الأول: مدخل نظري: يعالج مسألة التركيب الطبقي للبلدان النامية ومنها اليمن, ويحاجج مختلف التصورات السائدة تجاه هذه المسألة الشائكة, بين من ينكر وجود طبقات اجتماعية ــ ومنها وجود الطبقة العاملة ــ في البلدان النامية, ومن يؤكد على وجودها, والموقف من ذلك.
كما يقدم تسويغاً اجتهادياً لاستخدام مصطلح “الحركة العمالية” الذي يشمل الطبقة العاملة وسائر العمال الكادحين.
المحور الثاني: يُلقي أضواء كاشفة على الحركة النقابية اليمنية خلال الفترة (1939 – 2019م) وتحولاتها: وثباتها وانتكاساتها.
المحور الثالث: عقبات على الطريق: ويتناول أبزر التحديات والمشكلات التي تواجه الحركة العمالية اليمنية, وفي مقدمتها: البطالة, والفقر, وتدهور الأجور, والهجرة, وقصور التشريعات العمالية, والقيود المفروضة على العمل النقابي وغياب الحريات النقابية, وعمالة الأطفال, وأوضاع المرأة العاملة, ومظاهر وأسباب ضعف الوعي الطبقي, وغيرها.
المحور الرابع والأخير: يتضمن جملة من المقترحات والاستخلاصات المبتغية استنهاض قوى الحركة العمالية والنقابية اليمنية, وتفعيل دورها التاريخي والسياسي والاجتماعي الديمقراطي, وحتمية صلتها النضالية القومية والأممية في ضوء الوضع الكوكبي المتثور.
شكر وعرفان:
هذه الدراسة مدينة بالشكر والعرفان للرفاق: أحمد نعمان السروري, وغانم بجاش المعمري, وفوزي العريقي الذين زودوني بمراجع هامة كانت خير زاد لي في إنجاز هذه الدراسة.
وأعبّر عن عظيم الامتنان للرفاق: علي عبدالفتاح وعبدالجليل الزريقي ونشوان الأكحلي على ما قدموه من آراء سديدة ومعلومات ثمينة عن الحركة النقابية اليمنية.
وأخيراً ما كان لهذه الدراسة أن ترى النور لولا السيدة/ دينا أمين المقطري زوجتي ورفيقة عمري, فصبرها ومساندتها لي كانا خير معين لي… وإني في غاية الامتنان…
المحور الأول: مدخل نظري:
(أ_ 1) جدل الطبقات والطبقة العاملة في البلدان النامية, ومنها اليمن:
تعد موضوعة التركيب الطبقي للمجتمعات النامية (Class Structure Of Less Developed Countries “LDCs”) من أكثر الموضوعات تعقيداً وإثارة للجدل في الدراسات السوسيولوجية, وقد انقسم الباحثون والمشتغلون في الحقل السوسيولوجي إزاءها إلى عدة مذاهب وفرق:
الفريق الأول: ينكر ــ بإطلاق ــ وجود طبقات, ومنها وجود طبقة عاملة في البلدان النامية, ويسلّم بـ”استثنائية” هذه المجتمعات, مستدلاً بهيمنة البُنى العشائرية والطائفية و”إعاقتها” لتشكُّل الطبقات الحديثة.
الفريق الثاني: يؤكد على وجود طبقات, لكنه ينطلق من منظور دوغمائي ميكانيكي في توصيف التركيب الطبقي للمجتمعات النامية, وأسير للمقولات الكلاسيكية, دون أخذ التطورات الحاصلة في العالم وخصوصية المجتمعات النامية بعين الاعتبار.
الفريق الثالث: قدم مقاربات عديدة, وعلى الرغم من أنه حاول ملامسة التفاوت الاجتماعي في المجتمعات النامية, لكن يحاذر وبشكل مبالغ فيه عن استخدام مصطلحات الطبقة والطبقات الاجتماعية, ويستعيض عن ذلك بمصطلحات من قبيل: الفئات/ الشرائح/ الجماعات الاجتماعية.
وبرأينا المتواضع أن خللاً منهجياً مركباً “ذا ثلاثة أوجه” يقع فيه هؤلاء الباحثون على اختلاف مذاهبهم:
الوجه الأول لهذا الخلل يكمن في:
الاستناد إلى نموذج مرجعي ــ النموذج الأوروبي ــ للحكم على وجود الطبقات أو إنكار وجودها في البلدان النامية.
بعبارة أخرى: يتم إضفاء المعيارية القياسية على البنية الطبقية للمجتمعات الأوروبية, ومن ثمّ مقارنتها بشكل آلي ببنية المجتمعات غير الأوروبية, دون طرح إمكانية صياغة نموذج/ نماذج بديلة تأخذ بعين الاعتبار خصائص المجتمعات غير الأوروبية وبما يعكس حقيقة واقع الاستغلال والفوارق الطبقية السائدة فيها.
والوجه الثاني يتمثل في:
الإغفال عن حقيقة بديهية مؤداها: إن نشأة الطبقات الاجتماعية تعود إلى مرحلة مبكرة من التاريخ الإنساني, فالنظم ما قبل الرأسمالية عرفت تراتب طبقي: طبقة العبيد وطبقة الأسياد في النظام العبودي, وطبقة الفلاحين الأقنان وطبقة النبلاء في النظام الإقطاعي.
وبالمناسبة فإن مصطلح “الطبقة الاجتماعية” (Social Class) ضارب في القدم, فقد أصبح متداولاً منذ أن ظهر القانون العمومي الروماني الذي يقسّم المواطنين إلى طبقات جبائية. كما استخدم الاشتراكيون الطوباويون “الطبقات” في دراساتهم عن الملكية والعمل والحقوق والمصالح السياسية. [1]
والوجه الثالث يقوم على أساس:
الخلط بين مفهومي الطبقة والوعي الطبقي, فالكثير من الباحثين يشترط الإقرار بوجود طبقة بامتلاكها وعياً طبقياً وتنظيماً اجتماعياً واضحاً. ويتناسى هؤلاء أن وجود الطبقة سابق على اكتساب وعيها وانتظامها, “فالوجود الاجتماعي يسبق ويحدد الوعي الاجتماعي”.
إن الماركسية ــ بوصفها علم الصراع الطبقي ــ قد ميَّزت وجود الطبقة في حالتين اثنتين:
الحالة الأولى: الطبقة في ذاتها, وهي الطبقة القائمة موضوعياً بغض النظر عن وعي أعضائها بوجودها كطبقة.
الحالة الثانية: الطبقة لذاتها, وهي تلك التي تتصرف وتمارس نشاطها, وهي واعية بتركيبتها كطبقة.
ويقدم د. عصام خفاجي تدليلاً على صحة ذلك, فيقول بأن الطبقة البرجوازية التي شكّلت العالم المعاصر وقادت تحولات كبرى, ومع ذلك من الصعب الحديث عن طبقة جماهيرية كانت واعية بمصالحها المتجانسة وتطلعاتها المسبقة للتقدم وعواقب أفعالها التي تحددت وتم حسابها مسبقاً. فقد تمت الثورة الهولندية في ظل شعارات قومية وبروتستانتية, وجرت الانتفاضة الانكليزية في ظل الكالفينية, وتحقق الاصلاح الألماني في ظل شعارات بروتستانتية.[2]
ويضيف بالقول: إن الناس العاديين, بمن فيهم سكان المدن, لم يتعرفوا على أنفسهم كأعضاء في طبقات اجتماعية عشية الثورة الفرنسية العام 1789م, أو أن وعيهم بهوياتهم لم يكن طبقياً بالدرجة الأولى, ومع هذا فإن الثورة الفرنسية وكذلك الثورات الفلاحية التي رفعت رايات النزاعات الدينية أدت إلى تحولات برجوازية حقيقية.[3]
يعرّف فلاديمير إ. لينين الطبقة بأنها: مجموعة كبيرة من البشر, تتميز عن بعضها بحسب الموقع الذي تحتله في نظام إنتاج اجتماعي محدد تاريخياً, وكذلك بحسب ما لها من علاقات بوسائل الإنتاج, وهي علاقات تضبطها وتكرسها قوانين معينة في أغلب الأحيان, وكذلك بحسب دورها في التنظيم الاجتماعي للعمل, أي بحسب الطرق التي تحصل بها على الثروات الاجتماعية وما تحوزه منها. إن الطبقات هي مجموعات من الناس يستطيع بعضهم ابتزاز عمل الآخرين لا لشيء إلا لأنهم يحتلون موقعاً متميزاً في بنية معينة من الاقتصاد الاجتماعي.[4]
إذن, الوجود الموضوعي للطبقة, ليس أمراً اشتراطياً بوعيها الطبقي, بقدر ما يرتبط بعمليات وعلاقات الإنتاج الاجتماعي السائدة, وبوجود التفاوت بين مستغِلين ومستغَلين, أي بوجود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
من هنا, بالضبط, يتضح خطأ منكري وجود الطبقات الاجتماعية في العالم النامي. ومع ذلك ينبغي إعارة الانتباه إلى الفروقات بين المجتمعات الرأسمالية الصناعية والمجتمعات النامية, فالمجتمع الرأسمالي الصناعي مجتمع طبقي خالص, حيث الطبقة هي المبدأ المؤسس/ الناظم للمجتمع, أما المجتمعات النامية فلا يكفي الاعتماد على التقسيم الطبقي كمبدأ تنظيمي أوحد للمجتمع وتفسيري أوحد للتراتب بين البشر داخلها.[5] فالعوامل الاجتماعية الأخرى: الانتماء الاثني أو العشائري أو المذهبي أو الطائفي أو المناطقي تلعب دوراً مؤثراً في ظاهرة التراتب والتفاوت الاجتماعي.
إن التضامن الطبقي يلعب دوره في المجتمعات النامية لكنه يتداخل مع أشكال تضامن أخرى عائلية وإثنية ومذهبية وما شابه. كما إن هذه المراتب, أي الجماعات التي ترتبط فيما بينها بعلاقات القرابة والجندر والدين والمذهب والإثنية, ليست مجرد انعكاس للعلاقات الطبقية بل تتقاطع معها, دون أن تتطابق, علماً أنها تبقى محكومة بالبنية الطبقية, في نهاية المطاف, بالمقدار الذي تسيطر فيه هذه على الوصول إلى مختلف الموارد الاجتماعية, أي على الفائض الاجتماعي.[6]
مما تقدم, يمكننا الخلوص إلى وجود طبقات اجتماعية في المجتمعات النامية, لكنها طبقات ذات خصوصية, نابعة من طبيعة الظروف الموضوعية التي تحكمها, نسميها “طبقات انتقالية” ــ إن جاز التعبير ــ, أي أنها طبقات ليست قارية, “مستقرة”, وراسخة بما فيه الكفاية, كما هي في المجتمعات الرأسمالية الصناعية, بل طبقات قلقة وتظل عُرضةً لتحولات وحراكات اجتماعية طفروية.
وكما دللنا على خطأ الموقف الإنكاري لوجود الطبقات في المجتمعات النامية, فسنشرع تالياً بالفعل نفسه تجاه من ينكرون وجود الطبقة العاملة في المجتمعات النامية.
ينفي الكثير من الدارسين والباحثين وجود طبقة عاملة (Working Class) في المجتمعات النامية “بالمعنى الموضوعي لها!”, وينحو البعض من هؤلاء إلى الحديث عن وجود “شغيلة” و”فئات كادحة” و”بروليتاريا رثة” ولا وجود لـ”طبقة عاملة”.
ويستندون على الحيثيات الآتية لإثبات صحة مزاعمهم:
1- هشاشة البنية الإنتاجية, وانعدام وجود صناعة ثقيلة على وجه خاص.
2- غلبة القطاع الزراعي على ما عداه من قطاعات في اقتصاديات البلدان النامية, ومحدودية الملكيات الزراعية الكبيرة, وتخلّف الإنتاج الزراعي الذي لا يزال يعتمد في الغالب على وسائل بدائية وغياب المكننة الحديثة.
3- توسع قطاع الخدمات والتجارة, وقطاع الانتاج الصغير الذي يشمل الحرفيين وعمال الورش الحرفية.
4- وجود قطاع هامشي يحتل مساحة واسعة في النشاط الاقتصادي, ويشمل: الباعة الجائلين, والعمال المياومين (الموسمين وعمال الأجر اليومي, “الشقاة” باللهجة اليمنية الدارجة).
5- احتفاظ العمال الذين انتقلوا من الريف إلى المدينة للعمل ــ بمن فيهم “عمال الصناعة” ــ بعلاقات بالوسط الريفي, وتمسكهم بالقيم الاجتماعية وبالرواسب الثقافية الريفية, فضلاً عن تسيد الجهل والأمية في أوساط هؤلاء العمال, مما يجعلهم فريسة سهلة بيد الطبقة المالكة توظفهم كيفما تشاء.
6- عدم تبلور وعي طبقي لدى العمال بمصالحهم الفعلية وبدورهم في سياق العملية الاجتماعية.
7- افتقار العمال للتنظيم الاجتماعي, وافتقارهم للتجانس وللتضامن الطبقي.
8- تعدد وتداخل أنماط الانتاج في البلدان النامية بين: رأسمالية, وإقطاعية, وشبه إقطاعية, وشبه عبودية, وبقايا مشاعية.
وغيرها من الحيثيات التي وإن كنا نقرّ “بموضوعية” الكثير منها لجهة توصيف واقع وطابع البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية السائدة في العالم النامي, غير أننا نختلف مع الاستنتاج الذي يفيد بعدم وجود طبقة عاملة, وذلك للاعتبارات الآتية:
أولاً: البعض يتعامل مع الطبقة العاملة كـ”مقولة نظرية معيارية مجردة” أو كـ”مفهوم أكاديمي صرف”؛ وليس بوصفها ظاهرة سوسيولوجية متغيرة ومرتبطة أشد الارتباط بعمليات الواقع الموضوعي والتطورات المستجدة على الصعيد العالمي.
فعلى سبيل المثال: هناك من يُقْصِر مصطلح الطبقة العاملة على البروليتاريا الصناعية فقط, التي تتشكّل من العمال الصناعيين ذوي الياقات الزرقاء الذين يمارسون العمل اليدوي في مصانع وينتجون قيمة فائضة أو قيمة زائدة[7] بحسب التحديد الكلاسيكي لها. وبالتالي يتم إخراج الجيش الهائل من عمال الخدمات والإنتاج الصغير وأصحاب الياقات البيضاء من المهنيين والعاملين في مجال المعرفة والعمل المكتبي من إطار الطبقة العاملة.
إنّ هؤلاء لا يرون الطبقة العاملة إلا في صورة “ذكورية, مفتولة العضلات, وتستخدم المطارق الكبيرة”!
ويتغافلون عن رؤية التحولات التي حدثت ليس للطبقة العاملة فقط, بل ولسائر الطبقات الاجتماعية؛ بفعل الأتمتة والثورة التكنولوجية الرقمية. فالطبقة البرجوازية لم تعد بتلك الصورة التي كانتها قبل مائة وخمسين عاماً, بل طرأت عليها تغيّرات عديدة, والحال نفسه ينطبق على الطبقة العاملة, التي أصبحت تشمل “كل من يعمل بأجر ويسهم في تحقيق القيمة الفائضة”؛
بصرف النظر عن نوعية العمل الذي يقوم به, أكان عملاً عضلياً أم ذهنياً, وبصرف النظر ــ أيضاً ــ عن القطاع الذي يعمل به, أكان في قطاع الصناعة أم في قطاع آخر.
ثانياً: هناك من يرى أن الطبقة العاملة إنما تشمل فقط العمال المأجورين الذين يسهمون في الإنتاج السلعي المادي: الصناعي أو الزراعي, وبالتالي يجري استثناء عمال قطاعات: الخدمات والتجارة والمعرفة والعمل المكتبي في جهاز الدولة أو في الشركات الأهلية, بحسبانهم “عمالاً غير منتجين”.
لا يأخذ هؤلاء بعين الاهتمام التحولات الهائلة التي أحدثتها الثورة المعلوماتية والأتمتة في وسائل الإنتاج, فالتسيير والتحكّم الذاتي للآلات, والتقدم المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي, قد أفضيا إلى تحولات هيكلية في الطبقة العاملة وعملية الإنتاج, فلم يعد الإنتاج مقتصراً على إنتاج السلع المادية فحسب, بل أصبحت المعلومة سلعة, وأصبحت الخدمة سلعة أيضاً. وأصبح كل من التقني والمهني وعامل الخدمات الذين يعملون لصالح غيرهم وبأجر معلوم, وكذلك الموظفون الصغار في قطاع الأعمال الإدارية والمكتبية, سواء في جهاز الدولة أم في المؤسسات الأهلية يندرجون ضمن الطبقة العاملة.[8]
فالأتمتة والثورة المعلوماتية قد أدت إلى اتساع نطاق العمل الذهني على حساب العمل اليدوي.
تأسيساً على ما تقدم, يمكن تحديد مجالات النشاط الاقتصادي للطبقة العاملة راهناً بالصورة الآتية:
1- الانتاج الصناعي والزراعي: اللذان يقومان على أساس إنتاج السلع المادية.
2- الانتاج الخدمي والمعرفي: اللذان يقومان على أساس تقديم الخدمة والمعرفة على شكل سلعة لها قيمة تبادلية وقيمة استعمالية.
ثالثاً: نشوء الطبقة العاملة ليس بالضرورة مرهوناً بوجود قاعدة مادية صناعية كبيرة تضاهي تلك الموجودة في البلدان الرأسمالية الصناعية, بل إن انتشار العلاقات الرأسمالية وتعممها كفيل باستيلاد طبقة عاملة. ومن المعلوم أن العلاقات الرأسمالية ومنها العلاقات النقدية ــ السلعية في بلادنا بدأت بالانتشار في ثلاثينات القرن العشرين وتغلغلت بصورة أكبر مطلع ستينات القرن عينه.
رابعاً: على الرغم من استمرار بُنى ما قبل الرأسمالية, كالإقطاع وغيره في بلادنا وفي البلاد النامية بصفة عامة, بل وقدرة هذه البنى على التكيّف مع التحولات الحاصلة بفعل التشوّه الذي أحدثه الاستعمار في عملية التطور الرأسمالي لهذه البلدان ونمط التقسيم الدولي للعمل.
وعلى الرغم ــ أيضاً ــ من استمرار تأثير الرواسب القديمة على بنية الوعي والممارسات الاجتماعية, إلا أنّه لا يمكن إنكار أن التغلغل الرأسمالي ــ خلال الثلاثة العقود المنصرمة على الأقل ــ قد توسع نطاقه حتى شمل مختلف قطاعات المجتمع؛ بما فيها تلك القطاعات التي ظلت لردح طويل من الزمن تعيش في عزلة.
بتعبير آخر: إن توسع دائرة الترسمل, فضلاً عن تأثيرات الكوكبية (العولمة) في الثلاثة العقود الأخيرة على الأقل, قد زعزع ــ إلى حد كبير ــ بنى العلاقات الاجتماعية القديمة لصالح سيادة العلاقات الجديدة شيئاً فشيئاً.. وبموجب ذلك أضحت مدفعية الرأسمالية تدك أسوار أكثر الأمم تأخراً وتجبرها تحت طائلة الفناء على تبني نمط إنتاجها وفقاً لكارل ماركس.
خامساً: التغير في الوضع الاجتماعي للمرأة في العالم النامي ومنها اليمن, فقد شهدت الآونة الأخيرة ارتفاع مضطرد في أعداد النساء العاملات قياساً بالمراحل السابقة, وهذا يعني زيادة في حجم الطبقة العاملة.
سادساً: تنامي وتائر الاضطرابات السياسية والاجتماعية في البلدان النامية, التي هي انعكاس فعلي لتعمق التفاوت الاجتماعي المتخذ شكل استقطاب طبقي, إذ يزداد تركُّز الثروة والسلطة في يد الطبقة السائدة, وتركّز الفقر والبؤس في أوساط الطبقة المسودة.
سابعاً: ما أحدثته السياسات النيوليبرالية في العالم بصورة عامة, وفي العالم النامي بشكل خاص, من تغيرات عاصفة, من أبرز مظاهرها الملموسة:
1- بلترة قسم عظيم من أبناء الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة؛ بفعل تدهور مداخليهم وارتفاع تكاليف المعيشة, فقد أصبحت الأجور التي يتقاضونها هزيلة بالكاد تغطي الاحتياجات المعيشة الدنيا.
2- بقدر ما أدت الخصخصة إلى تجريف القطاع العام, وتزايد حالة التفاوت الاجتماعي, وتآكل الطبقة الوسطى, واتساع رقعة الفقر والجوع, وحرمان أغلبية السكان من الخدمات الأساسية, بقدر ما أفضت إلى تعمم العلاقات الرأسمالية وتشديد استغلال العمال.
إن وجود شركات خاصة وأفراد يقومون ببيع الخدمات للمواطنين كالتعليم والخدمات الطبية والصحية والكهرباء والماء, اللائي كنّ من صلب التزامات الدولة تجاه مواطنيها, قد هوى بمعظم أعضاء الطبقة الوسطى إلى مستوى أدنى, وأصبحوا عمالاً يتقاضون أجوراً زهيدة لا تساوي قوة عملهم ولا توفر لهم حياة كريمة ومستقرة, أي أصبحوا “أنصاف بروليتاريين” أو “أشباه بروليتاريين” بحسب الوصف الدارج.
3- كما تسببت تلك السياسات النيوليبرالية بحراك اجتماعي “شاذ”, فقد أفلس الكثير من أبناء البرجوازية الصغيرة وهبطوا من مواقعهم الاجتماعية القديمة إلى مواقع سفلى, في حين صعدت طبقة طفيلية مكونة من: مسؤولين حكوميين ووجاهات اجتماعية إقطاعية ورجال دين, تحالفت مع الكمبرادور, وسيطرت على المجال الاقتصادي وعلى المجال العام, وارتهنت للخارج بغرض الحفاظ على امتيازاتها الخاصة كطبقة.
قصارى القول: إن وجود الطبقة العاملة في البلدان النامية أصبح أمراً ملموساً, بل يتنامى ويزداد عديدها بفعل جملة من العوامل, على خلاف التصورات السائدة التي تنفي وجود الطبقة العاملة أو تقلل من حجمها وشأنها.
ومع ذلك, ينبغي عدم الإغفال إلى أن الطبقة العاملة في البلدان النامية ــ ومنها اليمن ـ تعيش وضعاً انتقالياً, فلا تزال طبقة ناشئة وضعيفة من الناحية الكيفية لا الكمية! وسنأتي على إيضاح هذه المسألة الملتبسة لاحقاً.
ملاحظة ختامية: نجد أنفسنا متفقين مع البعض بخصوص التمييز الدقيق بين الطبقة العاملة والشغيلة (العمال الكادحين).
فالطبقة العاملة تشمل كل من يعمل بالأجر لصالح الغير وينتج فائض قيمة ناتجة عن سلعة أو خدمة أو معلومة!
فيما الشغيلة (أو العمال الكادحين) يعملون إما:
لصالح غيرهم ولكنهم لا ينتجون قيمة فائضة, مثل: عمال الخدمة المنزلية.
أو يعملون لصالح أنفسهم, فالعامل الذي يعمل في دكان صغير أو الفلاح الفقير الذي يعمل في حقله الصغير أو في حقل غيره وقام باستئجاره يعد من الشغيلة. بينما العامل الذي يعمل في مصنع أو في بنك أو في مركز تجاري يعود ملكية هذا المصنع أو البنك أو المركز التجاري لغيره, ويقبض أجرة معلومة لقاء عمله, يندرج ضمن الطبقة العاملة.
إذن يكمن الفارق الدقيق في طبيعة العلاقات الاجتماعية التي ينخرط فيها كلاً من: العامل المأجور والعامل الكادح. ومع ذلك فكليهما يعيشان في أوضاع مزرية ويقعان في دائرة الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي.
ولهذا السبب ارتأينا استخدام مصطلح “الحركة العمالية” باعتباره مصطلحاً يشمل العمال المأجورين “الطبقة العاملة” والعمال الكادحين “الشغيلة”.
في الحلقة المقبلة.. سنلقي أضواء على الحركة العمالية والنقابية اليمنية ومسار تحولاتها خلال الفترة (1938 – 2019م).
يتبع…
الهوامش والإحالات:
[1] جورج لابيكا وجيرار بن سوسان, معجم الماركسية النقدي, ترجمة جماعية, دار الفارابي, بيروت, ط1/ 2003م, ص845.
[2] عصام الخفاجي, ولادت متعسرة.. العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق, المشروع القومي للترجمة, العدد (2293), القاهرة, ط1/ 2013م, ص277.
[3] نفسه, ص284.
[4] جورج لابيكا وجيرار بن سوسان, مرجع سبق ذكره, ص847.
[5] فواز طرابلسي, الطبقات الاجتماعية في لبنان.. إثبات وجود, مؤسسة هينرش بل, 2013م, ص11.
[6] نفسه, ص11.
[7] القيمة الفائضة/ القيمة الزائدة/ فائض القيمة: هي القيمة التي يخلقها عمل العامل المأجور, علاوة على قيمة قوة عمله ويستملكها الرأسمالي مجاناً بلا مقابل. راجع: فيليكس فولكوف وتاتيانا فولكوفا, ما هي القيمة الزائدة, سلسلة مبادئ المعارف الاجتماعية السياسية (12), دار التقدم, موسكو, 1988م.
[8] قد يعترض البعض على تضمين موظفي الجهاز الحكومي ضمن الطبقة العاملة, بمسوغ أنهم يعملون لصالح الدولة وليس لصالح المالك ورب العمل الذي يجني من وراء جهدهم قيمة فائضة, وينسى هؤلاء أن الدولة تمثل رب عمل كبير, وتسيطر عليها طبقة مافياوية كما هي سائدة في غالبية البلدان النامية.الحركة العمالية والنقابية في اليمن خلال 80 عاماً.. التحولات ورهانات المستقبل.