بلال الطيب
المعركة لم تكن معركة الجيش وحده؛ بل معركة الشعب كُله، وفي مشهد تلاحمي لا يتكرر، وقف الطالب إلى جانب الفلاح، والشيخ إلى جانب العامل، والمرأة إلى جانب الابن الأخ والزوج، وانبثقت من روح تلك المُقاومة نفوس جبارة قهرت الحصار من الداخل، وتغلبت عليه حتى لحظات الحسم، انتكست حينها تحالفات الإماميين، ومُرتزقتهم، بدأ حصار الجمهورية هذه المرة يشملهم، أعادوا النظر في واقعهم المأزوم، ثم غادروا.
لم يكن لرجال الشرطة في مدينة صنعاء المُحاصرة وجود، ذهب جلهم إلى الجبهات، وكان وزير الداخلية مُجرد ضابط مع حارسين لا يُؤثرون مُطلقًا في قضايا الأمن، تولى أفراد المُقاومة الشعبية تلك المهام باقتدار وجدارة، حافظوا على أمن العاصمة، وحرسوا المنشآت الاقتصادية والعسكرية، وحموا الممتلكات الخاصة من النهب والسلب، ووزعوا المواد التموينية على المُحتاجين، وراقبوا ولاحقوا التجار الذين يحاولون إخفاء السلع، أو المضاربة بها، وفق نظام محكم ودقيق حتى نهاية الحصار.
كما قام أعضاء المُقاومة الشعبية بمساعدة المواطنين على إقامة المتارس الوقائية من الدانات، وأكثر من مرة شوهد هؤلاء الأبطال وهم يهرعون إلى الأماكن التي كانت تتعرض للقصف؛ للقيام بعمليات الإخلاء، وإسعاف المُصابين.
كانت شوارع صنعاء – كما أفاد جار الله عُمر – مهجورة، تتراكم فيها الأوساخ، فيما بقايا السيارات المُحطمة منقوشة بالحُفر التي أحدثتها القذائف، والبيوت واقفة، وقد علا جدرانها جدار آخر سميك من الأتربة، نوافذها بلا زجاج، وجدرانها مثقبة من الرصاص، ولكن الإصرار على عدم الاستسلام كان مقروءًا ومُلاحظًا على تلك المباني العتيقة، وفي وجوه البشر أيضاً.
كانت صنعاء قادرة على إطعام نفسها، وتأمين أسوارها، وكان كل عضو في المُقاومة الشعبية مسئولًا عن الحارة التي يَقطن فيها، كسبوا السكان، ومنعوا التحركات الليلية إلا بكلمة (سر الليل)
ألف سكان مدينة صنعاء الذين تجاوز عددهم الـ 100,000 نسمة أصوات المدافع، وتعايشوا معها، ومارسوا حياتهم المُعتادة، أقاموا الأعراس، وتجولوا في الشوارع، وذهبوا إلى دور السينما، وهو ما أكده محمد محمد حاتم في شهادة على تلك المرحلة، حيث قال أنَّ الحرب والدانات لم تقف حجر عثرة أمام ممارسة الناس لحياتهم اليومية، وأضاف: «التماسك والاحترام والشعور بالمسؤولية بين أوساط أهالي العاصمة كان عاملًا من عوامل كسر الحصار».
كانت صنعاء قادرة على إطعام نفسها، وتأمين أسوارها، وكان كل عضو في المُقاومة الشعبية مسئولًا عن الحارة التي يَقطن فيها، كسبوا السكان، ومنعوا التحركات الليلية إلا بكلمة (سر الليل)، راقبوا البيوت التي يُشاع أنَّ إشارة ليلية أو أصوات لاسلكية تنطلق منها، تعاملوا بحذر مع الطابور الخامس، وقد بلغ عدد المُعتقلين احتياطيًا في اليوم الأول للحصار أكثر من 1,000 مُعتقل، كما تم إعدام عدد من الخونة رميًا بالرصاص، وعُرضت جثثهم في الشوارع عبرة لمن يفكر بالمساس بأمن المدينة المُحاصرة.
قال عمر الجاوي عن تلك اللحظات الفارقة: «من أجل مُحاصرة الذين يُحاصروننا، لابد من كسب السكان بوضعهم الجديد، ولن يتم ذلك إلا بمعرفة احتياجاتهم الضرورية، وباستثناء العائلات العريقة في صنعاء التي وهبها الله بسطة في الرزق، انحازت المدينة كلها في الأسبوعين الأولين من الحصار إلى صف الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم الضروري، وبرزت آنذاك بعض المشاكل والقضايا التي تحتاجُ إلى حلول سريعة، وعرف المثقفون ولأول مرة أنّهم يجهلون طبيعة الحياة اليومية في مدينة صنعاء».
حاميها حراميها، إشاعات مُغرضة بدأت تلوكها بعض الألسن، تهكمًا على أفراد المُقاومة الشعبية، إلا أنَّها تلاشت أمام قيام أولئك الأبطال بمهامهم على أكمل وجه
ونقل لنا عبد الله أحمد السنباني – أحد أعضاء المُقاومة الشعبية – صورة مُغايرة بعض الشيء عما ذهب إليه عمر الجاوي، حيث قال: «كان الواحد منا يعرف الكثير عمن يسكن في تلك الحارات أو الشوارع، وكنا نلاحظ أنَّ من يدافع عن صنعاء أغلبهم ليسوا منها، وكان غالبية السكان يظهرون التجاوب بحكم القوة الموجودة، ويضعون لأنفسهم نوعًا من المرونة، ولا يبرز منهم إلا القليل».
وإكمالًا للمشهد الإيجابي أترككم مع ما قاله جار الله عُمر: «وقنع الناس بالحد الأدنى من الضروريات الذي يجعلهم قادرين على البقاء أحياء، ولم يعد أحد يتساءل عن تضاؤل حجم الرغيف، أو عن تغيير لونه وطعمه عندما كان يُصنع من أنواع مُختلفة من الحبوب والدقيق ذات النوعية الرديئة، مع الحرص على عدم التفريط بالقشور التي كان يستغني عنها قبلًا؛ بل لم يكن أحد ليسمح لنفسه أنْ يتذمر إذا مكث مُستقيمًا في الطابور طويلًا بغية الحصول على بضع أوقيات من الجاز والسكر وغيرها من المواد التي أخذت قيادة المُقامة الشعبية على عاتقها مسؤولية توزيعها في الأحياء باقتصاد مُتزايد».
حاميها حراميها، إشاعات مُغرضة بدأت تلوكها بعض الألسن، تهكمًا على أفراد المُقاومة الشعبية، إلا أنَّها تلاشت أمام قيام أولئك الأبطال بمهامهم على أكمل وجه، دون الالتفات لهذه الأراجيف التي بدأ بإثارتها المُرجفون في المدينة، مع التركيز على توعية الجماهير وتحصينها ضد هكذا شائعات، والدفع بهم إلى الانضمام لصفوف المُقاومة، وصفوف القوات المُسلحة والأمن.
وأكثر ما ميز المُقاومة الشعبية انضمام عاملات مصنع الغزل والنسيج لها، وحملهن للسلاح، ومُشاركتهن في بعض العمليات البسيطة إلى جانب عدد كبير من المُوظفين الذين كانوا يعملون في المُؤسسات الحكومية والمُختلطة؛ وهو الأمر الذي أعطى انطباعًا عامًا أنَّ المرأة اليمنية تحررت من قيود التخلف، وصارت بفعل الثورة السبتمبرية المُباركة شريك رئيسي وفاعل في التقدم والبناء، ومُقاومة الإمامة والكهنوت.
وعلى ذات المنوال التحرري، كان لأم الشهيد عبدالله اللقية دور لا ينسى، واضبت على زيارة نساء العاصمة في تجمعاتهن، وعملت على توعيتهن وتعريفهن بالثورة وأهدافها، والإمامة ومخاطرها، وبثت نداها الأسر بلكنتها الدارجة عبر أثير إذاعة صنعاء، وكان تعبيرها إلى حدٍ كبير صادقًا، وقد أثر في كثيرين، فيما صداه لم يفارق مخيلة من عايشوا تلك اللحظة حتى اللحظة.
أدهشت المُقاومة الشعبية الجميع، فتساجلوا الشهادات لها بالاستبسال، واقتحام الغمار، والالتحام مع الموت وجهًا لوجه، وقال أحد شيوخ الطرف الآخر مُشيدًا: «كنا نطمع في البنادق التي تطول قامات أولئك الشبان الذين تجمعوا من المدارس والمطاعم إلى الخنادق، وانصبوا إلى المعركة من جميع جهات اليمن، وإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، فكانوا يحصدوننا قبل أنْ نقتطف بندقية، اقتحموا بيوتًا، أطلقت النار في شملان، ولاقوا براميل مليئة بالريالات الفضية، وما مد مقاوم إليها يدا».