المواطن/ كتابات ـ عبدالعزيز المليكي
طريق طويلة زاخرة بالفوضى تحاول عجلات السيارة إلتهامها ببطء تمضي فيها وكأنك مبحرً نحو أعماق الخراب
صخور يرتج من هولها هيكل السيارة بشكل مفزع إنحدارات جبلية ضيقة تفتقر لأي وسائل الحماية يصاحب تلك المخاطر الجيولوجية نحيب لا يخفى سماعه ينبعث من كل مقاعد السيارة
حقائب متناثرة في كل الأرجاء ومقاعد تفتقر لأدنى وسائل الراحة يجلس عليها أمراض ومسنون
إحدى الأسر التي ركبت معنا تحمل تقريراً طبياً لطفل لم يتجاوز عمره السابعة بدأ مجرد هيكل لا يفصل بين عظامه وجلده شيء
جثة هامدة نخرها المرض لا يصدر منها سوى تلك الأنات الخافتة التي تكبده الكثير من العناء لتخبر أنه لا يزال على قيد الوجع
بجانب الأسرة توجد أيضاً أسرة أخرى مكونة من أم حامل وثلاثة أطفال تكور إثنان منهم على ظهر رحمها وبقي الثالت وهو أكبرهم بين رجليها كدمية يعصر وجهه ألم جاف تضمر خلاله عيني والدته
المأسي الجاثمة على كاهل الرحلة لم تشفع لنا عند نقاط التفتيش المنثورة بفوضوية على طول الطريق
بين كل فينة وأخرى يلوح من زجاج السيارة طفل مليشيا بعين دامية متعطشة للإنتقام وجسد مدجج بالسلاح
يوجه أسئلة حادة إلينا. يسأل عن كل شيء ولا شيء
تسألت في نفسي بأي حق يتطفلون على حياتنا بهذا الأسلوب؟
على الطريق أيضاً أطفال جياع (شحاتون) بالمعنى العام ممن إستفحل بأسرهم داء الفقر لا يأبهون بحوادث الطريق
بمحاذاتي يجلس رجل في الخمسين من عمره تقريباً كان في ذروة الحزن والكأبة تبين لي بعد الحديث معه أنه يعمل في المدينة عامل (حجر وطين) بأجر يومي لا يتجاوز إيجار السيارة
ناهيك عن ندرة الايام التي قد يجد فيها عمل وإذا وجد فبلكاد تكفي لتغطية مصروفه في الأيام التي يظل فيها عاطلاً
كل ما يحدث يثير في أنفس الجميع الخوف
الأمطار أيضاً التي بدأت تنهال على رؤسنا من سقف السيارة الرث فاقمت معاناتنا بصورة أكبر
تراقب زمن هذه الرحلة الثقيل جداً. دقائق تمر بحدة كأنها إنفجار
إستحوذ إنتباهي شيخ جالس بجانبي وهو يحاول عبثاً سحب نهدة متخثرة عبر حنجرته التي بدت كأنها شبه مسدودة ظللت أراقبه وهو يضغط على منطقة قلبه بأصابع يده يفرك فوق صدره وكأنه يجمع كل أنفاسه دون جدوى
ينفث زوبعة من سراب ثم يعاود الفعل ذاته مجدداً بعد إستراحة من اللعنات والشتائم يكيلها بسخاء لجنون المدينة
إستل من جيب معطفه علبة دواء. أخذ حبة واحدة ثم غرسها تحت لسانه. تنحنح جحظت عيناه دخل بعد ذلك في نوبة إغماء
بعد مضي أكثر من ست ساعات من العناء وصلنا إلى المدينة.. مدينتنا التي لم تعد كذالك بعد أن أصبحت فريسة لحقد لا ينفذ مداه تستهلك نفسها بفضاعة
تجولت قليلاً تحت فضائها الذي يضج بالضغينة. فحيح خوف بلون الدم هلع من يوم قادم من حياة تستعمرها الإنكسارات وشفرات الظلام
باغتني عندها سؤال
لمن سنضيء إذا كنا جميعاً نحترق؟؟