سلامة كيلة
مدخل
كانت نهاية سنة 2010 مفتتح عالم جديد في كل ارجاء الوطن العربي حيث اندلعت الثورة في تونس يوم 17/12/2010م، لكنها امتدت إلى معظم البلدان العربية، كثورات أو كحراك شعبي.
هذه الحالة غذت الكثير من الأوهام. لكن كذلك من الآمال ما فاق ممكنات الواقع، حيث جرى الاعتقاد بأن تغييراً جذرياً سوف يتحقق، وأن الماضي انتهى لمصلحة مستقبل مبهر قريب. هكذا اعتقدت النخب والاحزاب التي اتخذت صفة المعارضة على الأقل، بينما كانت الشعوب تطمح لأن تغيّر في واقعها الذي بات لا يحتمل نتيجة البطالة والفقر الشديد والتهميش.
أيضاً ظهر وكأن ما يجري في البلدان العربية هو مقدمة لثورات عالمية، حيث كانت الأوضاع الاقتصادية في أوروبا وآسيا وأفريقيا، أي في عديد من بلدان العالم تسير نحو الأسوأ، خصوصاً بعد الأزمة المالية التي حدثت في سبتمبر سنة 2008، والتي بدت أكبر من أن تكون أزمة مالية، رغم مظهرها المالي، حيث أوضحت عمق الأزمة التي تعيشها الرأسمالية ككل، لهذا ظهر التعاطف العالمي مع الثورات، وبات المثال الذي يوجه نشاط الشعوب الأخرى، من إسبانيا إلى وول ستريت، ولقد انقلب النظر إلى العرب كعرب، من نظر سلبي قاتم إلى نظر بطولي. ومن الاهمال والاستخفاف إلى الاهتمام الفائق والدعم المفرط، ليظهر أننا وقد أصبحنا قدوة العالم، في أكبر فعل يحتاجه: الثورة.
إذن لقد نهض الحلم من أسره، وتملك شعوباً تريد العيش والتحرر، ولقد فعلت ما كان يبدو مستحيلاً خلال أشهر سبقت، حيث استطاعت أن تهز نظماً بدت كالجبروت، ولهذا تطاير الأمل بتحول كبير قادم، وبتغيير عميق لابد أن يتحقق، وسعت كل فئة أو طبقة لأن تصيغ هذا التحول بما يحقق مصالحها هي فقط، لهذا عمدت فئات وسطى، وأحزاب هرمة طالما “ناضلت من أجل الديمقراطية”، لأن تعتبر أن الهدف هو الحرية والديمقراطية، وإن تجرأت أكثر طالبت بـ”الدولة المدنية”، ولقد اعتقدت للحظة أن كل ذلك قد تحقق، وأنها باتت قادرة على أن تؤسس احزابها الشرعية وأن تخوض الانتخابات وأن “تنتصر”. حلم كانت قد يئست من إمكانية الوصول إليه بعد نضال طويل لم يحشد أكثر من مئات، وصراع مستحيل مع سلطات استبدادية. لكن كانت مطالب الشعب هي: العمل والأجر الذي يسمح بعيش كريم، وضمان التعليم والصحة، هذه هي المطالب التي تعاني منها قوى الشعب، وما يؤرق حياتها، لهذا هذا ما طالبت به منذ اللحظة الأولى في سيدي بوزيد وفي ميدان التحرير في وسط القاهرة، كما عم كل الثورات. ولا شك في أن لهذا التفارق أثرًا على مسار الثورات، وعلى الموقف منها، ومن ثم على مآلها.
هذا كان الأمل، لكنه بدا بعد سنة أنه وهم، أو هكذا اعتقدت “النخب”، وقطاع من الفئات الوسطى، لعبت دورًا مهمًا في الثورة الأولى. وإذا كان قد جرى اطلاق تعبير “الربيع العربي” تقليدًا لما كان يطلقه الاعلام الغربي على ثورات أوروبا الشرقية، حيث جرى العمل على وضعها في السياق ذاته، أي سياق مطالب الحرية والديمقراطية، فقد انتقل الأمر إلى توصيف ما يجري بـ”الخريف الإسلامي” بعد أن أفضت الانتخابات إلى نجاح الأخوان المسلمين في أكثر من بلد عربي (مصر، تونس، المغرب)، وبعد أن تطور الصراع في ليبيا إلى حرب دموية استجلبت تدخل حلف الناتو، ثم في سورية بعد أن تحولت الثورة السلمية إلى عنف وحشي مارسته السلطة ضد الشعب، حولها إلى صراع مسلح، ومن ثم بعد زرع “الجهاديين” (الذين كانوا في سجون السلطة) وتمكينهم من أجل إظهار الصراع كصراع ضد الارهاب، أو كحرب طائفية ونزاع مسلح. مما أفضى إلى استعصاء الثورة، وإلى مجزرة نفذت بكل أسلحة النظام التي كان يقال إنها تتراكم “من أجل تحرير فلسطين”.
بالتالي أصبح الربيع خريفاً بسرعة لا مثيل لها، هكذا بدا الأمر، وتعمم في الإعلام، وتردد على ألسنة “النخب” والأحزاب الكهلة، فعادت الأمور أكثر سوداوية، والأفق ظهر مسدوداً، ولفت حالة الإحباط قطاعًا كبيرًا من الحالمين والمتأملين، وتصاعد القول بأن ما جرى لم يكن ثورة بل “مؤامرة” وأن كل ثورة هذه “الدهماء” لم يكن بفعلها الذاتي، ونتيجة أزماتها، بل بفعل “الريموت كنترول” الإمبريالي، ونحن الان قد تجاوزنا السنة الرابعة (صدر الكتاب في العام 2015)، نعيش “لحظة الارتداد”. هذه اللحظة التي تبدو كذلك فقط، تظهر كذلك فحسب، لحظة الندب والعويل، والخوف من الأصولية والرعب من التغيير، ومن ثم القبول بعودة “الاستقرار”، الاستقرار فقط، فقد مسخت الاحلام، وتطايرت الأوهام، وظهرت حدود الواقع التي لم يرد هؤلاء وعيها.
هذا الكتاب يحاول أن يواجه هذه الموجة من اليأس، وسوء الفهم، والتخبط، ليقول بأن ما جرى هو مفتتح مسار ثوري، قد يطول وقد يقصر، لكنه مستمر، ولقد كان مفتتحاً فقط لأن عفوية الشعب بالغة القوة التي ظهرت فيها لم تلاقِ من القوى من يستطيع تحديد مسارها، ووضعها في سياق يفرض “اسقاط النظام” بمعناه الاقتصادي السياسي. لهذا لم تفعل العفوية سوى إضعاف النظم، وفرض تغيير فيها، النظم التي حاولت المناورة من أجل الاستمرار فقدمت تنازلات شكلية. وما يجعل هذا المسار يطول أو يقصر، بالتالي، هو معالجة النقص الذي ظهر في الثورات منذ البدء، حيث كانت ثورات شعبية عفوية بكل معنى الكلمة، فشباب الفئات الوسطى، والشباب المفقر، هو من حاول أن يديرها، لكن بدون أن يكون قد أمتلك وعياً سياسياً وفكرياً، أو رؤية للبديل الضروري، أو مقدرة على تنظيم الحشود لكي تفرض انتصارها هي لا شك، فقد كان ذلك نتيجة استبداد طويل، وتدمير قصدي للتعليم والثقافة، وأزمة اقتصادية أتت بالبطالة والفقر والتهميش، دفعت الشباب إلى الانكفاء على الذات والهروب من مواجهة واقعهم هذا إلى سياقات تنفي السياسة.
ولقد كانت الأحزاب التي تنشط في المعارضة “ميتة” أو تشارف على الموت، بعد أن حصرت نشاطها في حدود الحريات وحقوق الانسان. ورغم أهمية هذه القضايا، لكنها تبتعد كثيرًا عن “الوضع المباشر” لأغلبية الشعب، الذي كان يشير إلى الازمة المعيشية كحاجة ماسة، وواقع يفرض تصاعد الاحتقان. لقد غدت أغلبية غير قادرة على العيش أصلاً، وهذا ما كان يزيد في الاحتقان لديها، ويدفعها لأن تكسر حالة الخوف التي فرضتها النظم بطابعها البوليسي. لهذا لم تكن فاعلة في الثورات، حيث فوجئت، وارتبكت، لأنها كانت تضع استراتيجية الانتقال إلى الديمقراطية وليس إلى الثورة. وفي هذا المسار فقدت القاعدة الاجتماعية وانحصرت في فئات كانت تميل إلى الكهولة دون شباب يرفدها، حيث كانت أزمة الشباب هي تلك الأزمة المجتمعية التي تتعلق بالعيش.
بهذا يظل السؤال هو: هل تنتج الثورات ذاتها البديل الذي يعبر عن المطالب التي تحملها؟ أي هل تستطيع الشعوب التي ثارت، وخلال حراكها الثوري، أن تبلور البديل الذي يحقق مطالبها، والرؤية التي تسمح بانتصار الثورات حقيقة؟
هذا هو التحدي الذي يرتبط به الزمن الثوري، زمن الثورة، وهذا يعني أننا ننطلق من أن الأمر لا يتعلق لا بربيع ولا بخريف، بل بثورة بدأت ولن تتوقف قبل أن تحقق مطالب الشعب، فقد كسر حالة الخوف، ولم يعد يمتلك ترف التراجع أو السكون، بل بات يمتلك جرأة الاستمرار إلى أن ينتصر.