المواطن / حمود محمد المخلافي (الحبشي)
الحلقة السادسة قبل الأخيرة
لماذا هذا السجن؟ ولماذا هذه الاعتقالات والعبث بحقوق الإنسان وآدميته؟!.
عندما نتحدث عن الحملات العسكرية التي جردت من قبل النظام، وتلك القوى المناصرة له ممثلة بالجبهة الاسلامية ولفيف المشائخ والمتعاونيين الذين أكتسحوا المنطقة، فإننا نتحدث عن نزعة سادية وإجراءات انتقامية ورغبة في التدمير والإحراق من قبل جماعات سياسية تنضوي في النظام وتدعي تمثيله وليس عن تصرف دولة تمثل كل اليمنيين.
لماذا هذا الإستنتاج؟ وهل فيه خروج على موضوعية التوثيق.. تعالوا معي لنتشمم طبيعة الحوار الذي خضناه مع السلطة والمستوى الذي وصل إليه لتتأكدوا أن الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كانت تقف في معارضة السلطة ومواجهتها، هي من كانت تبحث عن سلطة جمعية لكل اليمنيين توفر لهم مقومات العيش الشريف الآمن والمستقر.
أتفقنا في حواراتنا على:-
1/ القضاء على جميع المظاهر العسكرية وازالة وتسليم كل المواقع العسكرية التابعة للجبهة وهو ماتم تنفيذه.
2/ فتح كل الطرقات وازالة الألغام وعودة المشردين في مناطق النزاع وهو ماتم تنفيذه بعودة كل المشردين المحسوبين على السلطة والجبهة الاسلامية الى قراهم.. بينما المشردين من مناطق سيطرة النظام وحلفاؤه الذين عادوا تم اعتقالهم
3/ اطلاق المعتقلين في سجون النظام.. لم يتم تنفيذه.
4/ تسليم الأسلحة الثقيلة للدولة وإنشاء معسكر يضم كل من رغب من افراد الجبهة.. وهو ماشرعنا في تنفيذه.. وبدأنا بتسليم تلك الأسلحة وفقا لخطوات زمنية متفق عليها.
خلال انهماكنا في الإعداد لتنفيذ بقية الخطوات أي قبل يومين من خروجي إلى المنطقة مع حسين خيران قائد الشرطة العسكرية ممثلا لفريق السلطة في الحوار لإستلام بقية الأسلحة الثقيلة، تم إستدعائي وإعتقالي، وهي الخطوة التي أتت ضمن خطوات لاحقة تتنصل فيها السلطة من كل إلتزاماتها بما في ذلك التزامها بحل كل قضايا الصراع السياسي عبر الحوار وبحسب إتفاق تعز المشؤم العام 1982 م بين الرئيسين وعبرت تلك الخطوات عن إنتفاضة سلطة الظل التي كانت هي من تقرر وتتخذ قرارات عن مصير ومستقبل ألبلاد إنهم دعاة العنف الذين كانوا هم من يقبضون على دفة النظام ويديرونه وفقا لرؤاهم السياسية والفكرية..الجبهة الاسلامية والمشائخ المستفيدين من الصراع هم من قطعوا طريق الحوار لأن مصالحهم لاتتفق مع الأمن والاستقرار وتطبيع الحياة السياسية فأختاروا طريق الإرهاب والسجون والقمع ومصادرة حق الأخرين في الحياة.
لذلك أمتلأت السجون الرسمية للنظام بخيرة ابناء الوطن ليس ذلك فحسب بل أطلق العنان لكل قيادات الجبهة الإسلامية من المشائخ والواجهات لتتحول منازلهم الى مراكز إعتقال وتعذيب لكل من ارادوا الإنتقام منه …حتى أولئك الذين يتم الإفراج عنهم من سجون الأمن الوطني يتم إعتقالهم مجددا من قبل مراكز القوى هذه المنتشرة في المنطقة تحت إشراف ادارات أمن المديريات ومندوبي الأمن الوطني الذين كانوا جميعهم من عناصر الجبهة الإسلامية ففي الرونة كان مدير الأمن عبدالجليل سعيد رئيس فرع تجمع الإصلاح لاحقا وفي مقبنة كان مدير أمنها عبدالولي الربيح صاحب ألف ساعة حرب..لقد أصبحت قوافل التعذيب المتنقلة تجوب المنطقة من مكان إلى آخر مع وجود مراكز ثابتة للإعتقال والتعذيب ، إنها عمليات قهر وإخضاع الرعايا مجددا لسطوة الإقطاعيات ..وأصبح المواطنون يتسابقون إلى تقديم فروض الولاء والطاعة للمشائخ والملاك لتجنيب أبناؤهم الإعتقال والتعذيب ، اصبحت الصورة أقرب إلى فلم عن العصابات الغربية في معركة مع السكان الأصليين في أمريكا قتلا ونهبا وإستيلاء على الممتلكات بحماية السلطة وجلاديها.
• ذات مساء يتم إستدعائي للتحقيق كان المحقق صالح البدوي.. وأثناء الإستجواب يفاجئني بسجين هو محمد بن محمد الصعيري تم إعداده من قبل الجماعات الدينية المتطرفة ليكون شاهدا عليا في قضايا قتل وتصفيات..هذا السجين تم إعتقاله في القرية وفي منزل الشيخ محمد عبدالقادر الفهيدي أخضع لتعذيب يفوق الخيال وإجباره على حفظ ماتم تلقينه كشهادة يواجهني فيها..كان لدي فكرة مسبقة عما يجري في منزل الشيخ الذي تحول الى مركز تعذيب خاص وذلك من خلال الزوار والسجناء الجدد الذين يتواردون يوميا.
كان جسد الشاهد محمد بن محمد الصعيري مشوها ومحروقا وجهه وصدره وساقاه وقدميه لايقوى على الوقوف عليهما، من ضمن الأساليب التي استخدمت ضده..يتم توسيمه بسحب عدة الحراثة بعد ان يتم تسخينه يجبر على الوقوف عليه بقدميه…ليس ذلك فحسب بل كان عندما يغمى عليه يتم سلقه بمياه ساخنة شديدة الحرارة لتترك جسما مسلوخا ومشوها..كان وهو يواجهني بشهادته يستثير شفقتي ووجعي عليه..بعد أن اكمل شهادته سألني المحقق ما هو ردك على ماقاله..أجبته ليس لي اي رد سوى ان تسمح لي بسؤاله من الذي سلخ جسمه واحرقه بهذا الشكل ولماذا؟ لم يتركني الشاهد اكمل كلامي حتى انفجر باكيا وبدأ يحكي قصته وفاجعته بنفسه حيث سرد حكاية كيف اخضع من قبل ضابط اسمه عبدالهادي وزبانية الشيخ لتعذيب شديد والوسائل التي أستخدمت كل ذلك لإجباره على شهادة كاذبة ضدي ، بل كيف ان من قام بتعذيبه هم من قتلوا أخاه عبده محمد العام 1961 م..وامور اخرى..كل ذلك وانا أطالب المحقق بكتابة مايقوله، وللأمانه كان المحقق صالح البدوي ذا مسحة انسانية في هذه الواقعة..حيث تحفظ على التحقيق ورفع تقريرا بكيدية الأقوال وعدم صحتها.
• قيام زبانية الشيخ عبر مندوب الجهاز عبدالهادي بإعتقال خصومهم في قضايا شخصية وخلافات على أراضي او معارضين لمشيختهم، فقد تم إعتقال اولاد محمد حسن الوهيبي وتعذيبهم جسديا في منزل الشيخ ، وهما عبدالله وعبده الذي خرج مجنونا من السجن وكذلك أعتقال ناجي سعيد الحوباني واولاده علي وعبده واسماعيل ولم ينقذهم من قبضة الشيخ محمد عبدالقادر سوى تدخل الشيخ حسين ابوحلفة.
• فجأة أكتشف وصول معتقلين جدد بينهم كل من عبده صالح محمد وعبدالله حسن ناجي نجف إلى ألفرن … تخيلوا أني فرحت كثيرا بسجنهما وكانت أيام سعيدة التي قضياها معي في السجن..لسبب واحد انهما صهراي منتزوجان أختا زوجتي وبهما عرفت حياة العائلة وعشت معها أدق تفاصيل الحياة وطبيعة حياة الزوجة وإختفاءها بما في ذلك المداهمات الليلية بحثا عن حقيبة الحبشي ، وتنكر ألكثير من الرفاق وإلتحاقهم بعصابات المطاردة والإعتقالات.
تم اعتقال عبده صالح وعبدالله حسن بداية الى منزل الشيخ محمد عبدالقادر الذي أصبح مركزا للتعذيب خارج السجون الرسمية ولتصفية حسابات مع الخصوم … تم تعذيبهما في هذا المركز وعندما أصبحا غير مجديين تم ارسالهما الى سجن الأمن الوطني والى الفرن تحديدا، لإستكمال ماتبق لهما من حلقات التعذيب ، أستدعاني مدير الجهاز احمد الأ نسي وسألني عنهما فأنكرت علاقتهما تنظيميا بالجبهة ومن الظلم سجنهما ونعذيبهما ( وكأن السجن للجبهويين وتعذيبهم مشروعا ) قال: هما معترفان بكل مانسب لهما ، أجبته دع إعترافاتهما وأنظر لجسدهما وأتخذ قرارك أنا فقط أتحدث عنهما براءة للذمة سألني وإذا تبين ان لهما علاقة ؟ كان ردي أنا في السجن وأتحمل المسؤلية ، عندما عدت إلى الفرن أخبرتهما بما حدث وطلبت منهما إذا تم الإفراج عنهما ان عليهما الرحيل إلى السعودية.
لم يكن الفرن السجن الرسمي الوحيد للأمن الوطني …كان هناك مباني أخرى في الجهة المقابلة من الشارع تكتض بالمعتقلين تسمى النيابة، ومباني أخرى في الحارة فرغت لتصبح سجونا واوكارا للتعذيب ، هي حارة موحشة خصوصا في الليل يسمع فيها صراخ المعتقلين تدوي من كل مباني الحارة رغم الحواجز والنوافذ المغلقة ..وحشية مرعبة خارج نطاق كل القيم والأخلاقيات ..أناس تم إنتقاءهم وفقا لمعايير وتربيتهم على الإفتراس للبشر بروح عدائية نهمة لا تشبع ولا ترتوي.
- تم إنتزاع إعترافات من معتقلين بقوة السياط عن جرائم قتل وتم تحويلها إلى النيابات وألقضاء وتحول الضابط الجلاد بكل وقاحة إلى شاهد ..أناس خرجوا مشوهين وفاقدين لعقولهم وسيضلون شهودا على عصر التوحش والإفتراس
- محمد دائل محمد رجل العمل التعاوني في هيئات التعاون الأهلي للتطوير يتم إعتقاله بسبب التنافس على العمل التعاوني والوجاهة من قبل خصوم استعانوا بأحد المتعاونين مع الجهاز الشيخ فيصل عبدالقادر ، دافع شخصي بعيدا عن السياسة ويتم إيداعه فرن الجهاز بعد تعذيب متواصل لإنتزاع إعترافات منه بعضويته في الجبهة الوطنيه وإمتلاكه لمخازن سلاح وسط مدافن الحبوب في القرية ..عندما شاهدته لم أعرفه بسبب تورم جسده ولم يعد قادرا على الكلام ،كان يتم إستدعاؤه مع مجموعة معتقلين من شرعب لتعليقهم وتعذيبهم في وقت واحد من قبل المقراني ، كان بعض السجناء قادرين على الأخذ والرد مع المحقق فيخف العذاب عليهم بينما يستمر هو في استقبال الجلد والتعليق ﻷنه لايمتلك معلومات فيضطر الى الإستنجاد صائحا ( أنا فدى….. حق نسوانكم ياشراعبة علموني ايش تقولوا للرجال من شان أقول مثلكم حتى يتركني ) رغم محاولتي الحديث معه ، كان عاجزا عن النطق سوى التعامل بالإشارات ..لازال يحيا ويعيش شاهدا على هذه الوحشية ، وحشية نظام لايريد أن يحكم ولايمتلك أبسط معايير ألحكم
- في السجن خضعت لمواجهات بسبب إعترافات بعض الرفاق في قضايا لم اتطرق اليها في تحقيقاتي ، أرهقت كثيرا بسببها وهناك بعض القضايا حملتها نيابة عن رفاق لايزالون أحياء…أستفدنا كثيرا في المعتقل الذي كان يحتوينا معا في تصويب زلات بعض المعتقلين وفي إختيار الطرق التي تجنبهم التعذيب
- شخصيا عانيت داخل السجن كثيرا ، كل سوط يسقط على رفيق كنت أشعر بجلدي يتمزق …حاولت أن أقنع اﻹدارة مرات عديدة على معالجتي فقد كنت أشعر بالآم فقرات الرقبة تزداد يوما عن آخر دون جدوى ، فقصة العلاج او التطبيب هذه ملغية من أجندة الأمن الوطني ..ولاتزال الحالة قائمة وأعاني منها حتى اللحظة ولم تسعفني إمكانياتي على معالجتها
- ألمؤلم جدا في السجن هو استقباله لمجاميع من الشباب يتم إرسالهم عسفا من عدن وتسليمهم الى الأمن الوطني ليعانوا الأمرين تلك حالات كانت تتم بعد اتفاق تعز سيء الصيت بين الرئيسين في العام 1982م
- قساوة السجن يسهل تحملها فقد أصبحت أمرا واقعا لكن المؤلم والمفزع موقف الرفاق وطعناتهم الأكثر إيلاما من سياط ألجلاد، عندما تكون بين مخالب الكلب ولا أقول الأسد وهناك من يشكك في وطنيتك والتزامك الأخلاقي بقضية تؤمن فيها فذلك هو التعذيب الحقيقي
- أفاجأ أخيرا بأن جحافل البحث والتنقيب يعثرون على حقيبة الحبشي مخبأة في بئر ويتم إستدعائي للتحقيق ومعاينة المضبوطات
لأكثر من عام جند الأمن الوطني قواه وإمكانياته لدعم الجبهة الاسلامية والمشائخ والمتسابقين على الفيد والغنيمة بحثا عن شنطة ( حقيبة) الحبشي..في مارثون محموم للحصول على مكافأة العثور على الحقيبة
قبل ان يعثر عليها دعوني أحدثكم قليلا عن الحقيبة وطبيعة تعاملنا التنظيمي مع الوثائق..في آخر مرة لي وقبل دخولي تعز..غادرت المنزل (الكوخ) ووجهت بتسليم الحقيبة للرفاق شائف ومختار طالبا إياهم بإحراقها وعدم الإحتفاظ بمحتوياتها لكن الرفاق لم ينفذوا التوجيه وأحتفظوا فيها عاملين على إخفاءها في جدار أحد الأبار حبا في الإمتلاك..وهو ما حدى بأحد من الذين قاموا بإخفاءها وتحت الضغوط النفسية للمطاردات أن أبلغ أحد زبانية النظام الشيخ حمود مقبل البحيري عن مكانها..الذي بدوره حملها إلى ادارة الجهاز
صعدت إلى مكتب النائب علي السعيدي، الذي كان مشرفا على فرع الأمن الوطني من قبل الجبهة الإسلامية، دخلت إلى مكتبه فأشار لي بالجلوس على كرسي كانت أمامه..أشار إلى حقيبة مغبرة كانت أمامه هل هذه لك..أجبته الحقيبة نعم أما محتوياتها لا أعلم.طلب فتحها وإستعراض مافيها، كانت محتوياتها عبارة عن مراسلات بين سكرتارية منظمة الحزب في محافظة مذيخرة التي كانت تضم المناطق العلنية من شرعب والعدين والقفر واصاب وعتمة وريمة وانس..مراسلات فيما بينها وقيادة الحزب..هذه الوثائق تاريخية وهي أساس لتوثيق الأحداث خلال تلك الفترة أولا بأول..لم انكرها وأعتبرتها صحيحة وطالبت فيها بعد الوحدة لأهميتها التاريخية دون جدوى وكان الرد انه تم إحراق كل الوثائق في أجهزة أمن الشطرين..رغم ثقتي بعدم حدوث ذلك..هذه هي محتويات الحقيبة الأسطورة..فهل بإمكان من يحتفظ فيها أن يمنحنا إياها رأفة بالتاريخ لنسطر تاريخنا وتاريخه؟
كان السعيدي في قمة نشوته وهو يراني أعبث واستعرض الوثائق وخابت وخفتت تلك النشوة..لأنه كان يتوقع وثائق شخصية أو كروكي يحدد سيرتي الشخصية كفيلا بإدانتي ودفني، ذلك مايريده وليس تحليلات سياسية ووجهات نظر حول الوضع الذي يعيشه الوطن ومواقف القوى السياسية المتصارعة
كنت انا من يكتب ردود سكرتير اول المحافظة الشهيد ناجي محسن رحمة الله عليه..من ضمن النوادر وقبيل الحوار كنا نجلس معا في الملاوحة تحت شجرة ظل وارفة لكتابة أحدى المذكرات ردا على مذكرة المركز فوصلنا إلى عبارة( إن الثورة) واختلفنا على الذي او التي ولم نتفق فألتفت إليا غاضبا..حبشي الثورة مذكرة أو مؤنثة قلت له مؤنثة وانت من يريدها ذكرا الله يرحمه.. حدث بعد الإعتقالات والمطاردات والجميع تنزف جراحه أن ألتقينا قبيل الوحدة في بداية 1990م في جولدمور، بادرته بالسؤال ماذا أكتشفت في الثورة مذكرة او مؤنثة وذهبنا في عناق وضحك هستيري بعد طول فراق