حمود محمد المخلافي
كانت تلك المخدة اجمل هدية تعبر عن العاطفة الجياشة بين السجناء.. لم تغب عن ذاكرتي
رفع عني الحضر والسجن الإنفرادي وأصبحت قادرًا على الحركة والتواجد بين السجناء..
كان مفيد قائد أحمد أيقونة السجن ومحركه رغم صغر سنه فهو الأقدم، عبره كانت تدار حركة السجن الداخلية من حيث جمع مبالغ من السجناء حق الحدرة والإشراف على الطباخة وعملية النظافة للإسطبل (الفرن) والحمام والتخاطب مع افراد الحراسة، لكن الأهم والأخطر في شد معنويات المعتقلين والتواصل بين سجين وآخر، كنت محضورًا من الزيارات ولم يتجرأ من في الخارج على الإلحاح في ذلك خوفًا من الاعتقال.. لذلك لم تكن لدي مصاريف.. كل مافي الأمر أن السجن له قوانينه الخاصة المنظمة للعلاقة بين ساكينه، التي لا تسمح لفرد فيه أن يأكل منفردا وغيره لا يأكل.. الجميع هنا يعمل ويحيا وفقا لقاعدة (من كل حسب ما يملك من نقود ولكل حسب ما يحتاج).
أتذكر من المعتقلين كما أسلفت الدكتور عبدالرحمن حيدر والدكتور ابوبكر راجح وأحمد غالب سيف المجيدي وأخرين لا أتذكر اسماؤهم، الدكتوران ابوبكر وعبدالرحمن حيدر كان اعتقالهما للمرة الثانية (سوف أعود لهما في حلقة خاصة)..
للسلطة الأمنية طرق متعددة في الإرهاب وارهاق السجناء.. فمن أساليبها المتبعة أنها لا تكتفي بإعتقالك وتعذيبك والتحقيق معك بل تلجأ لمتابعة أنفاسك وتفكيرك مع نفسك فتلجأ إلى دس مخبرين رخيصين بين السجناء لإحصاء تنهداتهم مع ذاتهم ومع بعضهم.. كان هناك سجينًا اسمه حنش أعتقل في الراهدة عائدًا من الجنوب وتم نقله إلى تعز سجينًا في الفرن بعد أن تم تجنيده للتجسس على المعتقلين ونقل مايدور بينهم.. فرض طباخًا للسجناء يمكنه الدخول والخروج من الفرن حيث تتم الطباخة أمام الفرن وكلف بكتابة المعلومية إلا أن وعي المعتقلين استوعب مهمته وكشفها فلم يبق سوى فترة قصيرة وتم ترحيله لا أعلم إلى أين؟. ومن النكت التي نتذكرها أن الدكتور عبدالرحمن حيدر كان يناديه يا حنش فيجاوبه فيقول له ايري بالمنش.
كان مقيمًا في غرفة معزولة بجانب الحمام المعتقل منصور راجح منطويًا على نفسه لايختلط مع المعتقلين ولا يتحادث مع احد.. الجميع يعرف مشكلته واسباب اعتقاله لكن نزولًا عند الضوابط والممنوعات لا يتحدثون معه، ظل لفترة قصيرة بعد دخولي الفرن وتم ترحيله.
ذات مساء دخل الفرن معتقلًا جديدًا أرعبني وجوده في السجن.. كنت أعرفه تمامًا إنه الرفيق عابد حاشد.. في السجن تنتابك مخاوف كثيرة تتعلق بالمعلومات التي تشكل خطرًا عليك، أنت رسمت لنفسك حدودًا معينة في التحقيق وتحملت وقاسيت الوان شتى من التعذيب ولم تخرج عن الدائرة التي رسمتها لنفسك وتخشى من أي معتقل جديد يأتي ليلخبط عليك مارسمته.. لذلك انتهزتها فرصة ولوج عابد حاشد إلى الحمام فدخلته، لم يكن هناك أحد غيرنا..لم نتحدث او نسلم على بعضنا.. فمجرد دخولي أشار لي بأصبعه على فمه.. علامة الصمت فقط، عدت إلى غرفتي مطمئنًا، ففي السجن تتضح رجولة المناضلين.
عذب عابد حاشد بشدة ومورست ضده اشكال والوان لا يتحملها غيره.. كان ينزل به محمولًا يجرجره العساكر بركلاتهم وسط صيحات وشتائم شتى ويرمونه في غرفته.. جسده كله ممزق.ا من أثار الضرب والتعذيب.. ليستأنف معه نفس الوجبة ثاني أو ثالث ليلة.. كل ذلك يتم ولا تسمع منه صراخًا أو توسلًا أو أنين بصوت مسموع.. لم يتمكن الجلاد من الحصول على مايريد.. لذلك تم ترحيله إلى صنعاء فهناك يوجد ماهو ابشع وأقسى.
ذات مساء أعلنت حالة الطوارئ في الفرن.. أقتحمه السجانون مع بعض المحققين بجلبة وزعيق يصم الآذان، تم إدخال كل السجناء إلى غرفهم واغلقت عليهم.. جميعنا انتفضت لديه كل الحواس واجتهد في التحليل والتوقع فقد كنا نفهم أن تلك الحالة تتم عندما يكون هناك ضيفًا جديدًا، تملكنا الرعب ونحن نسمع جلبة الجلادين وهم يسحبون جثة.. يجرجرونها على الأرض.. نتعلق بالأبواب لعلنا نرى من شقوقها شيئًا.. تم اختيار غرفة في أقصى الفرن، وقذفوا بالجثة في ظلماتها واغلقوا الباب بقفل عليه
تسمرنا في اماكننا داخل الغرف نتصبب عرقًا حتى دخل العسكري المستلم.. فتح لنا الغرف وعدنا لحياتنا وسط تحذيراته من الإقتراب من الغرفة
عندما غادرنا المستلم لم نهدأ إذ حاول بعضنا شد الباب لإيجاد شرخ جانبي.. مددنا للساكن الجديد بالماء.. حاولنا نداءه فلم يجب إلا بالأنين والتوجع.. لقد كان الرفيق علي نعمان تم إعتقاله بعد مطارده عنيفة واصابته بالرصاص فتمكنوا من إعتقاله.. الأهم في الأمر تم ابلاغه باسماء السجناء وانه لا توجد أي اعترافات بخصوصه.. ظل متكومًا في الغرفة مصابًا وينزف بدون علاج للإصابة.. كانت المعالجة المتبعة من قبل الجلاد أن تم استدعاؤه مساء الليلة الثانية للتحقيق ليأخذ وجبة من التعذيب في حالته تلك.. لينزل إلى الغرفة مسلوخ الجلد مسحوبًا على الأرض… كنا جميعا مقتنعين أنه سيفارق الحياة.. أستمر في الفرن اسبوعًا تقريبًا ليتم ترحيله إلى صنعاء.
في السجن الذي يعتبر مسلخا لرواده أكتشفت أن العلاج الوحيد لجروح التعذيب والجلود المسلوخة كان دهانها بالفكس من خلال دهن الجلد المتسلخ فيه ليزداد الألم لكنه يؤدي لجفاف تلك الجروح وشفاءها حتى تأتي وجبة أخرى من التعذيب فنعاود كرة الدهان من جديد.
كان تعذيب سجين يعتبر تعذيبًا للجميع فليس أصعب من أن ترى رفيقك مسلوخ الجلد وانينه وصراخه وتكون في أفضل حالاتك.. وقع السياط نفسيًا أقوى وأشد إيلامًا عليك.
كنت معزولًا عن الخارج تمامًا لا أحد يتجرأ بالسؤال عني فلا أخبار ولا مصاريف.. كنت قلقًا على أسرتي فليس لدي أخبار عنهم زوجتي وإبنتي الوحيدة نضال التي تركتها في عمر الثلاث سنوات وفي منطقة مستهدفة بما في ذلك عمي وأسرته المستهدفون من قبل النظام.
الأهم من هذا كله موقف الرفاق في قيادة المنطقة وتسليمهم بالأمر الواقع فلم يثار اعتقالي على مستوى قيادة الحزب وهيئاته العليا باعتبار ان الحوار تم باتفاق الرئيسين وضمانة سلامة المحاورين.. بل أن الأمر في ذلك إن الزملاء في قيادة الجبهة في المنطقة أستمروا في الحوار مع السلطة بعد اعتقالي بدون مناقشة موضوع اعتقال رئيس فريق الجبهة في الحوار.. وهو ما أوجعني فعلًا وذلك يعود لأسباب ليس مجال نقاشها هنا.
كان الوضع يتجه الى تخلص النظام من التزاماته في حل مشاكله عبر الحوار ويتم تصعيد الموقف عسكريًا وأمنيًا خصوصًا أن النظام يرزح تحت سيطرة الجماعات المتطرفة…. فبعد اسبوعين من اعتقالي تم اغتيال وتصفية سكرتير اول منظمة الحزب في المنطقة عدنان في عملية امنية غادرة من قبل بعض ضعاف النفوس وبدأت الحملات العسكرية تهاجم المنطقة وتصاعدت حدة الاعتقالات بصورة لم يسبق لها مثيل.
كان نافذتي الوحيدة على الخارج عبر الشاؤوش احمد الخلقي الذي كان قاسيًا جدًا مع كل السجناء ماعدى معي فقد تبادر إلى ذهنه عندما كان مكلفًا بنقطة تفتيش موقعها بجانب مسجد السعيد حاليًا على طريق المخلاف… تبادر إلى ذهنه أنه كان سيختطف من قبل مجموعة مسلحة وأني الوحيد الذي أعترض ووقف في وجه المجموعة ومنعها من إختطافه.. كنت حينها صغيرًا ولم تكن الجبهة قد تأسست او أنتظمت فيها ولذلك كان يتعاطف معي كثيرًا ويمدني بالأخبار والمعلومات كرد جميل.
أشتدت الاعتقالات التي طالت كوادر الحزب وانصاره بشكل واسع.. وارتفعت معها حدة التعذيب ووسائله
أعتقل أحد الشباب وتم حجزه أسبوعًا كاملًا في ورشة التعذيب تداول عليه كل الجلادين وتحت إشراف أقساهم وأكثرهم تفننًا علي السعيدي الذي كان يشغل نائب مدير الجهاز في وصلات تعذيب متواصلة داخل المكتب في محاولة لإنتزاع اعترافات منه.. عندما تم نقله الينا في الفرن.. كان هيكلًا عظميًا مسلوخ الجلد.. كل جسمه جروح متعفنه لا تستطيع أن تمد يدك لمساعدته فصراخ الألم يسبقك.. يداه مرتعشه لايقوى على رفعهما.. لا يقدر على الإمساك بقبضته أو يأكل إذ كانت بعض اصابعه تعاني من كسور.. تعرفت عليه.. هو الرفيق شاهر مجاهد سالم مقطري من الصوالحة، أستمرت عملية استدعاؤه للتحقيق لينزل بعد كل وجبة تعذيب بجروح أشد وجلد مسلوخ جعلنا جميعًا على قناعة انه محكوم بالاعدام ويخضع لتنفيذه ببطئي وبطريقة متوحشه، رغم كل ذلك العذاب كنت أشاهد فيه وهو يحكي ما يلاقيه عيون الصقر المتوثبة الرافضة للإذعان
عندما تم الإفراج عنه كان بضغوط من الشيخ سعيد حسن الزريقة على عكس رغبة الأمن الوطني لأسباب عدم تمكنهم من الحصول على الاعترافات التي يريدونه لذلك كنا نتوقع عودة اعتقاله مجددا أو اغتياله.
يتبع الحلقة الثالثة