وسام محمد
يبدو حائط رامز الشارحي على “فيس بوك” بمثابة جبهة حرب مفتوحة؛ فهو لا يتوقف عن إثارة القضايا العامة. ما يميزه أنه يمتلك خلفية كافية عن الموضوع الذي يتحدث عنه وليس كما هو حال معظم الناشطين على فيس بوك، ممن يسايرون المزاج العام ويتحدثون عن كل القضايا بحثًا عن اللايكات.
رامز (34 عامًا) ليس كما يبدو على “فيس بوك”، مشاغبا ومحتدا وساخرا في بعض الأحيان. في الواقع رامز شاب خجول، يسمع أكثر مما يتحدث، ويتحدث ببطء محاولًا إيجاد الكلمات المناسبة التي سوف تعبر عن فكرته، لهذا يبدو وكأنه يتأتئ. وأحيانًا يتوقف عن الحديث ثم ينظر للأعلى كمن يتأمل أو كمن يعيد استذكار شيء.
منذ أن تخرج من كلية الطب جامعة الحديدة، قسم مختبرات، أواخر العام 2010، وهو ليس لديه من قضية سوى قضية الثورة. لم يدخل مختبرًا ليمارس عمله. وعندما التحق بالدراسات العليا في إدارة المنشآت الصحية، لم يستطع إكمال رسالة الماجستير بسبب انشغاله بالقضايا العامة.
بدأ اهتمام رامز بالقضايا العامة من ساحة التغيير في صنعاء في بداية تفجر الثورة ولم يتوقف حتى بعد أن تعرض لطلق ناري في سبتمبر 2015 أطلقه قناص حوثي وأصابه في ورك رجله اليسرى. كان آنذاك يعمل مع منظمة إنسانية.
رحلة علاجه جعلته يكتشف معاناة جرحى الحرب، ومن حينها أصبح هذا الملف الشائك والمحاط بالمتاعب ضمن جدول اهتماماته المزدحم.
قبل عام ونصف، بدا رامز كأنه انتحاري وهو يتصدى لواحدة من أبرز القضايا الخطيرة والمسكوت عنها: تورط قيادات كبيرة في الجيش التابع للحكومة الشرعية بعمليات تهريب إلى مناطق سيطرة جماعة الحوثي التي يفترض أنها عدوة لهذه القيادات العسكرية.
تهريب المشتقات النفطية التي هي من حصة مناطق محافظة تعز الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية بما فيها المدينة المحاصرة من قبل جماعة الحوثي من ثلاث جهات، في واحدة من أكبر عمليات العقاب الجماعي الذي يتسبب بأزمات إضافية يتحمل عبئها السكان. ولكن عمليات التهريب المسكوت عنها تشمل السجائر المهربة وسلع غير مجمركة، والأخطر من ذلك أنه يتم تهريب سلاح الى جماعة الحوثي مقابل الحصول على مبالغ كبيرة يدفعها المهربون لهؤلاء القادة.
ينحدر رامز من مديرية جبل حبشي الواقعة غرب مدينة تعز، والتي كانت جماعة الحوثي تسيطر على معظم أجزائها، لكن الأهالي هناك قبل أربع سنوات تسلحوا وخاضوا معارك ضارية وتمكنوا من طرد مسلحي الحوثي إلى أطراف المديرية. لم يكن للجيش سوى دور محدود في تلك العمليات، لكنه جاء لاحقًا وفرض سيطرته على المنطقة، وبدلًا من استكمال خوض المعركة، بدأت قياداته تستخدم الطرق التي قام الأهالي برصفها على حسابهم الخاص، كطرق لتهريب المشتقات النفطية وغيرها من السلع.
في بداية الحملة التي اطلقها رامز على فيس بوك لمناهضة التهريب، (يصفها بـ”المشبوهة والمعادية للمجتمع ولقيم العسكرية”) لم يجد استجابة، فقد تضاعف التهريب، يقول رامز: “باتت قرانا ممرًا لسيارات التهريب وبرفقتها أطقم عسكرية تحميها”.
السيارات كانت تحمل السجائر المهربة، والألعاب النارية، والمشتقات النفطية، وموادًا أخرى لم يتم التعرف عليها، ويعتقد أنها أسلحة تقوم جماعة الحوثي بشرائها من تجار أسلحة في الضفة الأخرى وتتولى قيادة الجيش حماية تهريبها حتى تصل إلى الحوثيين ليقوم هؤلاء بعد ذلك باستخدامها في قصف المدنيين.
رامز بإصراره، نجح في اقناع أبناء منطقته بالتصدي للمهربين على الأرض، فتمكنوا من إيقاف عمليات التهريب، والهموا أبناء مناطق أخرى كان المهربون قد أخذوا يلجؤون إليها بأن يقاوموا هذه العمليات ويوقفوها، لكن هذا النجاح جاء بعد اعتقال عشرات الشباب من أبناء منطقته، واعتقال والده واخيه، وتهديده، وكثير من المتاعب الأخرى.
في مارس/ أذار من العام الماضي، بدأت المعارك تشتعل في مختلف جبهات تعز، وكان هناك انقسام في المجتمع بين مؤيد للجيش ومعارض أو معبر عن عدم ثقته بقيادات الجيش التي سبق لرامز ان خاض مواجهات معها وتعرض للأذى، لكن الغريب أن رامز اختار دعم الجيش.
سيتضح أن رامز ينطلق في هذا من قناعة أخرى تتعلق بجماعة الحوثي التي انقلبت على الدولة، وتدعي الحق الإلهي في السلطة وتقوم بمحاصرة مدينة تعز من ثلاث جهات. دعمه للجيش هنا هو دعمه لـ”معركة استعادة الدولة والجمهورية التي انقلب عليها الحوثي”.. بوصفه موقفًا مبدئيًا منسجمًا مع خط ثورة فبراير، وضدًا على الثورة المضادة التي قادها الحوثي وصالح”. ثم إن من يخوضون المعركة هم “أبناء الشعب” من الجنود والضباط الصغار وليس قادة الجيش الذين لرامز ملاحظات حول نزاهتهم.
بعد توقف المعارك التي استمرت لشهر واحد فقط، بدأ رامز ومجموعة من الناشطين يدعون إلى الخروج في احتجاجات مناوئة للفساد (في السلك المدني والعسكري) ومطالبة بعودة الخدمات العامة، وقد وجدت دعوتهم استجابة معقولة.
من يحاول ان يتتبع مواقف هذا الشاب؛ سيجد العديد من التناقضات. لكنها تناقضات منسجة، يشهرها رامز دون وجل أو حسابات، وقد يدفع ثمنها على شكل سوء فهم أو كما يبدو عليه الوضع مؤخرًا: تعب في القلب يبعث على الفزع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكتب هذا النص في يوليو/ تموز من العام الماضي، كجزء من متطلبات التقديم لزمالة الأكاديمية البديلة للصحافة العربية. وقد تواصل الحديث بيني وبين رامز بعدها، وكنت أخطط لإعادة العمل على النص ونشره. لكني لم أجد الفرصة المناسبة.
بالأمس عرفت ان وضع رامز يسوء بسبب متاعب في القلب. وهناك جهود نبيلة تبذل من بعض اصدقائه ورفاقه من اجل ان يتمكن من تلقي العلاج ذو التكاليف الباهظة. من حينها وانا اشعر بالفزع.
اليوم تذكرت هذا النص غير المكتمل، وقمت بإعادة تحريره سريعا ونشره. أعرف انه لن يرقى الى مستوى الدعم. لأنه احتياجات رامز الحالية من نوع مختلف. ولكن هذا جزء من دين رامز علينا، كونه أحد الأبطال الفعليين والقلة الذين برزوا خلال سنوات الحرب القاسية ووسط سيل من الاحباطات.
* كتب هذا النص في يوليو/ تموز من العام الماضي، كجزء من متطلبات التقديم لزمالة الأكاديمية البديلة للصحافة العربية. وقد تواصل الحديث بيني وبين رامز بعدها، وكنت أخطط لإعادة العمل على النص ونشره. لكني لم أجد الفرصة المناسبة.
بالأمس عرفت أن وضع رامز يسوء بسبب متاعب في القلب. وهناك جهود نبيلة تبذل من بعض اصدقائه ورفاقه من أجل أن يتمكن من تلقي العلاج ذو التكاليف الباهظة. من حينها وانا أشعر بالفزع.
اليوم تذكرت هذا النص غير المكتمل، وقمت بإعادة تحريره سريعًا ونشره، أعرف انه لن يرقى إلى مستوى الدعم، لأن احتياجات رامز الحالية من نوع مختلف، ولكن هذا جزء من دين رامز علينا، كونه أحد الأبطال الفعليين والقلة الذين برزوا خلال سنوات الحرب القاسية ووسط سيل من الاحباطات.
سلامات لقلب رامز..