المواطن/ كتابات ـ ريان الشيباني
أفتى هاني بن بريك، وقال إنه رجل دين، وأدرى بالفتوى وضوابطها. في 29 ديسمبر من العام المنصرم، أي قبل ما يقارب أربعة أشهر من هذه الفتوى، كان الرجل قد خلع هذه الجبة، بالتزامن مع جهود وزارة الخزانة الأمريكية ضمّه على لائحتها السوداء للإرهاب.. لقد كان حينها يحضر حفلة غنائية راقصة في لندن، أقامتها الجالية الجنوبية.
كان هاني بن بريك، ولا يزال، واحداً من أنصع النماذج على إخفاق السياسية في جعل اليمنيين يتسقون مع ذواتهم.
لقد قدم إلى “السياسة” من بؤرة “دماج” السلفية، التي حاولت أن تثبت أن للتطرف إهتمامات علمية، ليس من بينها البندقية. وفي الفترة الانتقالية، فشلت هذه الأطروحة، لنجد أفواجاً من السلفيين، بأثوابهم القصيرة التي تمثلوا بها لبوس النبي، وهم يتسكعون في أسواق سعوان، حتى ليخال المرء نفسه، وقد نام، وصحى على مشهد التائهين هؤلاء، وكأنه في سوق عكاظ.
كان الكثيرون، يقولون أن هذه الفتائل الخامدة، مؤهلة للاشتعال في أي وقت، يجب أن يستوعب هؤلاء ضمن اهتماماتهم العلمية، ليبقى العنف المكتسب من العزلة التي يحيطون بها أنفسهم، رمزياً في دروس الجرح والتعديل.. في الطعن على أحقية بعضهم في الفتوى والتنافس السلمي على تبوء الدرجات العليا في السماء.
فبعد أزمة حصار مكة، التي قادها جهيمان في نوفمبر 79، إقتصر نشاط مقبل بن هادي الوادعي في “دماج”، بالهجوم اللفظي على كل أقرانه السلفيين في المنطقة، لقد وصف “الزنداني” بـ”الضال” و”القرضاوي” بـ”الكلب العاوي” و”كشك” بـ”حاطب الليل”، ثم وبموازاة العنف المادي الذي أغرقت به الجماعات السلفية الجهادية المنطقة بعد العام تسعين، تطور العنف في ألفاظ الوادعي ومريديه، إلى درجة استخدام مصطلحات تقنية أكثر مثل “المكنسة الكهربائية” لوصم نظرائه بالضلال والابتداع.
ويبقى الجانب “الكفكاوي”، في تحوّل الجماعات السلفية، من “الدعوة” إلى “السياسية”، في كونها توجد رجالاً مُسخاً على شاكلة هاني بن بريك. إن موقع رجال الدين السلفيين، الذين إنخرطوا في السياسية، أو الاقتتال بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حرج للغاية، ما يجعلهم أكثر عرضة للابتزاز، والإستقطاب والإغراء.
وشجّع هذا التوجه، المعايير الدولية في مكافحة الإرهاب، التي أوقعت جيل كامل من السلفيين الشباب إما في أحضان الجماعات الجهادية، أو الدول التي استثمرت في خوفهم، وطمعهم، وحرمانهم، وعزلتهم، لتقدم لهم صكوك الحصانة، مقابل الاستثمار في عنفهم، ليصبح عنفاً مشروعاً، ويصبح هؤلاء المتطرفين في خدمة الليبرالية الجديدة.
اليوم أفتي بن بريك، بعد أقل من أربعة أشهر من شعوره بالعار من نفسه. لقد قال إنه أصبح متحملا لمسؤولية وطنية، ودعى الجميع إلى عدم نعته بالسلفي، فهو “لا يمثل السلفيين، ولا أي تيار في الطوائف الدينية”. كان حينها قد خلع جلباب لباسه الإماراتي، وشذب قليلاً من لحيته، ولبس بدلة إفرنجية زرقاء، واقتعد على كرسي أحد الملاهي اللندنية، يصفق لفتاة راقصة، بينما يلوح شبان في الخلفية، بأعلام شطرية، ليهلل له مناصروه، وهم يضعوا الفيديو المنشور، لبنة جديدة، في البناء المضني، لخلع صفة “الإرهابي” عن رجل الدين “السابق”.
لكن ما يراه، مناصرو بن بريك، إنفتاحاً في السلوك، يراه من هو على مسافة مما يجري، إذعاناً لتنازع إرادات بين الولايات المتحدة التي ترى في مواصفات وسجل بن بريك، مطابقاً لمعاييرها في تصنيف الناس إرهابيين، بينما ترى الإمارات في سمات العنف الكامن الذي يبطنه رجل الدين، نموذجاً رائعاً لثلة من السياسيين الذين سيصونون بتصرفاتهم الرعناء، المصالح الاستراتيجية لدولة تعتقد أنها ستسود المنطقة بالفوضى. فـ”هاني” الليبرالي “غير السلفي والذي لا ينتمي للطوائف الدينية” بإمكانه أن يُفعّل -وفقاً للمصلحة التي يمليها الراعي الأقليمي- وضع “نقطة الاستعادة” لو تطلب منه الأمر، أن يخلع سترته الأفرنجية، وأن يعيد تقصير ثوبه وإطالة شعر لحيته..
يتذكر اليمنيون، آخر استخدام للفتوى في حرب 94 الأهلية، وبعد كل هذا الزمن، سقطت الفتوى والمفتي والنظام الذي كان وراءها، وتشظى الكيان اليمني، وما بقي هو تذكر الناس لبشاعة الفتوى التي منحت “قاتل الأبرياء” الغفران. الحروب بشعة، ومدانة، لكن استعارة الخطاب الديني، أو خطاب الكراهية “العالمي” للإيغال في دماء اليمنيين وإعطاء الحق في قتلهم، هو أبشع ما تنتجه النفس البشرية، في طريق إعتناقها للشرور.
ما يجري في جنوب البلاد اليوم حرب أهلية، مكتملة الأركان، كل الذين يتقاتلون فيها يمنيين، وقد تكون أيقظت الروح العشائرية والقبلية الجنوبية، التي طمرها تقادم الأيام، لتبقى مسميات مثل “إرهابي” و”إنفصالي” و”وطني” و”محتل”، مسمّيات يراد بها إذكاء النعرات وبث الحمية في النفوس، لمزيد من إراقة الدماء، ما بالنا، بأن تتحوّل هذه المعركة من معركة “مدانة” إلى معركة “ذات بعد مقدس”.
رأت الأنظمة في الخليج العربي، ولا زالت، في الإسلام السياسي الديني، مهدداً استراتيجياً لمصالح زعمائها وممالكهم، ولقد سعت -وبالتحديد الإمارات- للتدخل في اليمن، لتحجيم تغوّل الإسلام السياسي، في مفاصل الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي، كان هذا إدعاءً مضمراً، في طريق القتال لأجل “علمانية” الدول العربية، لكن كل ذلك إنفضح، أمام الخراب الذي أصبحنا معه لا نستطيع أن نرى مساحة دولتنا، التي كانت تدعى قبل أكثر من خمس سنوات: الجمهورية اليمنية، فيما يمضي رعاة “العلمانية” هؤلاء، لصب زيت جديد، بتشجيع سياسيها اليمنيين لجلببة حروبهم بمسوح “القداسة”، بعد أن خيضت -إبتداءً- بهدف إعادة الوطنية اليمنية.