المواطن / كتابات د. ياسين سعيد نعمان
لا يمكن النظر إلى تحريك جبهة نهم خلال الايام الماضية من قبل الحوثيين ، وبتلك الصورة الدرامية المتعطشة للدم ، إلا بأنه قرار إيراني بتنشيط الذاكرة بأن مقتل سليماني لن يؤثر سلباً على تماسك كتلة المشروع الايراني في المنطقة ، وأن من الممكن امتصاص تأثير الصدمة ، واستعادة المبادرة ، وتكوين رأي عام بين الانصار على امتداد الإقليم بقدرة النظام الإيراني على الردع بطرق مختلفة.
لكن الأسئلة التي يتعين على اليمنيين أن يجيبوا عليها هي أنه:
لماذا قررت “كتلة المشروع الإيراني” في المنطقة أن تستعرض قوتها في جبهة اليمن دون غيرها من الجبهات الأخرى؟
لماذا ظهر العالم وكأنه قد بارك هذا الاستعراض بكل ما رافقه من خسة؟
هل مطلوب من اليمن أن يدفع ثمن تنشيط هذه الذاكرة كلما تعرض النظام في إيران لنكسة من هذا النوع ، وهل بات عليه ان يدفع ثمن تنفيس التوترات المترتبة على هذه الأحداث التي تضع المنطقة على حافة المواجهة ؟
وإذا كان الجواب بنعم ، فما هو المدى الذي ستمتد إليه هذه المباركة ؟ وما هي النتائج التي سيرتبها هذا الوضع على مستقبل اليمن؟ وهل ستقتصر هذه النتائج على اليمن أم أنها ستمتد إلى المنطقة كلها؟
كل ما يمكن أن يقال في هذا الشأن هو أن اليمن ، فيما بدا عليه من تفكك وخذلان ، سيواصل أداء هذه الوظيفة بتوافق ضمني ، أو صمت بدلالة الرضا ، مع ما يخلفه ذلك من تدمير وتراجع لفرص الخروج من بين الأنقاض والذهاب إلى السلام والتعمير.
الحوثيون يتحملون مسئولية هذا الوضع الكارثي والذي بدأ بإنقلابهم المشئوم ، مروراً بكل حلقات مشروعهم الذي جعل اليمن وأهله رهينة لمشاكل النظام الإيراني المعقدة والمركبة ، غير مبالين بما يرتبه ذلك من خراب ودمار على اليمنيين ومستقبلهم.
لهذا السبب عطلوا كل فرص السلام ، بما في ذلك تنفيذ اتفاق “استوكهولم” الذي قبلت به الحكومة ، في وقت كانت فيه قادرة على الحسم في أهم جبهة ، تمسكاً بالسلام لتجنب البلاد المزيد من الخسائر .
وكان الرأي الذي قلناه حينها بشأن هذا الموضوع ينطلق من حقيقة أن جبهة الساحل الغربي ، الممتدة من عدن حنوباً حتى الحديدة مرورا بالمخا ، كانت هي عنصر التفوق الوحيد بيد الدولة ، والذي لا يجوز التخلي عنه دون مكاسب حقيقية على الأرض .. لكن المشيئة التي فرضت الاتفاق قد تساوقت مع دوافع نبيلة للسلام ولكن مع مشروع غير نبيل.
عند هذا المنعطف ، الذي انكسرت فيه الإرادة الوطنية عن خلق معادلة حقيقية على الأرض ، أخذت تداعيات الانكسار تتجمع بيد الحوثيين على النحو الذي شهدناه خلال السنة التي امتدت من اتفاق استوكهولم حتى معارك نهم مؤخراً.
رغم كل ذلك ، ورغم كل التحديات الصعبة التي ترتبت على هذا الانكسار ، فإنه لا يجب أن نواصل خذلان مشروع استعادة الدولة الذي يرتبط به مستقبل اليمن ومستقبل الاستقرار في المنطقة كلها بهذا التفكك ، الذي يجسد الداء القديم ، والذي لطالما نخر القوة من داخلها حينما لا تستطيع هذه القوة أن تتشكل وفقاً لمعطيات الحاجة الوطنية بما يفرضه ذلك من إعادة بناء للذات باتساق تام مع هذه الحاجة.
يكمن هذا الداء المستعصي في حقيقة أن القوى السياسية بمختلف مكوناتها ، ولأسباب أيديولوجية وتاريخية ومرجعيات سياسية متنافرة ومتصادمة ، أقامت حواجز فاصلة فيما بينها لدرجة يصعب معها إنشاء كتلة موحدة متداخلة تؤسس لدولة تنفصل من حيث البناء المؤسسي والقانوني عن التكوينات التنظيمية الخاصة لهذه القوى.. وهذا ناشئ عن حقيقة أن كلاً من هذه المكونات ترى نفسها أنها هي الدولة ، بل وتعمل على ذلك انسجاما مع بنيتها السياسية والايديولوجية.
ولذلك فقد تعثر بناء الدولة الوطنية بسبب ذلك أيام السلم ، واستمر الوضع على حاله وبصورة أكثر تشدداً أثناء الحرب.
واستجابة لذلك المنحى السياسي والايديولوحي المتعسف لمفهوم الدولة فإنه لا بد أن يكون لكل من هذه التكوينات السياسية جيشها ، ولها الكلمة الحاسمة في المؤسسات التي تحمل إسم الدولة ، ولها علاقاتها الخارجية الخاصة ، ولها أمنها الخاص ، ولها إعلامها الخاص ، ولها موازناتها الخاصة ومواردها الخاصة، ولها جبهاتها الخاصة ، ولها انتصاراتها الخاصة .. ولها هزائمها الخاصة . الأمر الذي تحولت معه مكونات هذه القوة إلى جزر تراقب بعضها ، وتنشغل ببعضها بدلا عن انشغالها بالحاجة الوطنية التي تراجع سهمها في الاهتمامات التي تحولت إلى صراعات ليس لها سوى تفسير واحد وهو أن الأمراض الاجتماعية والثقافية التي رافقت نشوء الحياة السياسية قد شكلت المضمون الداخلي الهش للمؤسسة السياسية بغض النظر عن العناوين الكبيرة التي تحملها وتبهر الناظر.
أشد الأمراض فتكاً بالجهد الوطني المصاحب لهذه “القوة” المفككة ، ومكوناتها الهشة ، هو ذلك المرض الذي يتفاعل داخل كل تكوين ، على نحو نرجسي ، لا يمكن معه سوى أن يرى أن الآخر هو المخطئ، وهوالمقصر ، وهو الذي يجب أن يتحمل مسئولية الهزيمة ، وهو الذي يجب أن يحاسب .. وهو الشيطان ، وهو المتآمر.
وترتب المساحة الاعلامية ومساحة الاستئثار والهيمنة والهيلمان لهذا التكوين أوذاك الأحكام المجتمعية والسياسية والوثائقية .. الخ ضد الاخر ، وفي حين يعتقد “الهيلماني” أنه قد انتصر ، وبرأ نفسه من المسئولية ، في حين يقول واقع الحال إن الجميع مهزوم ، بل ويتحمل كل واحد الهزيمة بقدر تمدده وتمدد نفوذه في منظومة الدولة..
هذا هو واقع الحال الذي يعود في الأساس إلى الفشل الذاتي في بناء هذه “القوة”الكبيرة ، والتي تتسع رقعتها بحجم الوطن ، بأسس لا يسمح فيها لهذه الأمراض أن تعطل إنجاز المهمة الوطنية.
الجزء الأكبر من الإجابة على السؤال الذي أثرناه في بداية المقال يكمن في هذه الحقيقة بدون مواربة ، وحله بيد هذه القوى نفسها مجتمعة:
١- مغادرة الامراض القديمة ، ٢- إحترام الدولة ككيان سيادي وبناء فوقي مستقل عن المكونات السياسية والاجتماعية ، ٣- ترتيب أولويات المعركة ، ٤- الاعتراف بالمشكلات التي تحتاج إلى معالجات جذرية بتوافقات وطنية تكون الكلمة فيها للناس ، ٥- احترام المسئوليات وتراتبيتها دون تطاول مخل بقيم نظام الدولة أو استقواء بالظرف الاستثنائي الذي تمر به الدولة ، ٦- الانتقال الفعلي إلى الاعتراف بحق الناس في تقرير خياراتهم السياسية ، ٧- لا بديل لدولة المواطنة.
هذا هو المشروع الذي سيهزم المشروع الطائفي التفكيكي الذي يضع اليمن رهينة بيده ، ويهدد مستقبله ومعه مستقبل الاستقرار في المنطقة.