المواطن/ كتابات ـ فهمي محمد
منذ القدم نستطيع أن نقول أن اليمن عاشت في وسط حالة مكثفة من الإنقسام السياسي الغير مستقر = { دويلات مستقلة ومتصارعة تظهر ثم تختفي بفعل الحروب والتغالب العسكري } لكن ما كان ثابت لحد المطلق – على إمتداد حركة التاريخ والجغرافيا – أن سؤال الهوية والإنتماء لليمن الواحد كان حاضراً وغير قابل للإنقسام في وجدان المكون الإنساني وبشكل جعل من هذا الإنتماء هوية سياسية وثقافية جامعة تتجاوز في كل زمان ومكان حالة الإنقسام السياسي، بل أن صراع الدويلات المستقلة مع بعضها عبر التجربة التأريخية الطويلة في اليمن كان يتحرك دائماً بدوافع الرغبة الشديدة من قبل الدولة القوية على فرض سلطانها السياسي ونفوذها العسكري على كامل المكون الجغرافي والإنساني في اليمن، ما يعني أن صراع وحروب هذه الدويلات المستقلة كان يتحرك دائماً تحت غطاء كبير من المشروعية التي يفرضها سؤال الهوية والإنتماء الجامع في اليمن،
فالإنقسام السياسي ظل على الدوام يتموضع ويتحرك سياسياً وعسكرياً وحتى إقتصادياً بمخيال سياسي إجتماعي مؤمن بأحادية الهوية والانتماء لليمن الواحد .
كان هذا قبل أن تتبلور مفاهيم الفكرة الوطنية أو الوطن الجامع في الفكر السياسي الحديث، لذلك استطاعت حركة التاريخ في اليمن أن تجعل من كل أشكال هذا الإنقسام السياسي = { الدويلات المستقلة وحكامها } شيئاً من الماضي وبقت اليمن كحالة إنتماء وهوية جامعة هي الكائن الوجداني الحي والحاضر دائماً وحتى القادر على مواكبة حركة التعاقب الإنساني للأجيال المتعاقبة،
فالمواكبة المستمرة لسؤال الإنتماء والهوية في اليمن لم تكن في يوم من الأيام تمثل حالة نشاز منقطعة الصلة، بل هي منسجمة وتعبر في نفس الوقت عن ثوابت الجغرافيا والتأريخ والإنسان منذ القدم وحتى اليوم .
وعندما تبلورت مفاهيم الفكرة الوطنية عبر عقود من النضال السياسي والوطني منذ خمسينيات القرن الماضي، كان المناضل والمثقف السياسي في اليمن لاسيما المثقف اليساري ، يعمل على تحويل سؤال الإنتماء والهوية الجامعة من الحالة الوجدانية إلى مشروع سياسي إجتماعي وطني ووحدوي حالم بقيام الدولة الوطنية في اليمن المنقسم سياسياً حتى عام 1990 بين شمال وجنوب، وبقدر ما نجحت نضالات اليمنيين في تحقيق وحدتهم السياسية المنسجمة مع الحالة الوجدانية والذهنية للمكون الإنساني عبر التاريخ، بقدر ما فشل العقل السياسي للنخب الحاكمة في تحويل المشاريع النضالية الطموحة إلى دولة وطنية ناجعة تعمل على تحول الجغرافيا في اليمن إلى وطن للعيش الكريم لاسيما بعد تحقيق دولة الواحدة في 22 من مايو 1990/ م التي تعرضت مبكراً للإنقلاب العسكري عليها في صيف 1994/م .
سوف يسجل التاريخ أن حرب 1994 كانت أقبح حرب في تاريخ اليمن على الإطلاق مع أن الحروب في هذا البلد منذ قرون تكاد تكون هي القاعدة وليس الإستثناء !
فحرب 1994/ حدثت بعد أن تغلب اليمنييون على عقدتهم التأريخية وتجاوزوا كل أشكال الإنقسام السياسي، بمعنى آخر نستطيع القول ان اليمنيين في عام 94 كانوا ولأول مرة بعد قرون طويلة من التجزئه يعيشون سياسياً ووجدانياً وإجتماعياً في منتصف عقدهم الأول تحت سلطة دولتهم الموحدة في اليمن ( دولة الوحدة 1990 ) ما يعني في النتيجة الأولى أن مجرد التفكير في الحرب أو محاولة التذرع في تفجيرها تحت غطاء من مشروعيه سؤال الهوية والانتماء لليمن الذي رفع في الحرب ={ محاربة الإنفصال } كان أكبر الأخطاء القاتلة في تأريخ اليمن على الإطلاق، فأنت تقتل بإسم الوحدة من ضحى وناضل من أجل الوحدة لكي تدفعه مكرهاً للكفر بالوحدة التي لم تؤمن بها أنت ! لاسيما وأن الحرب لم تقف عند حدود المكون السياسي بل استهدفت المكان والمكون الإنساني الذي ينتمى إليه هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية كانت حرب صيف 94 أول حرب في تاريخ اليمن تستهدف مشروع الدولة الوطنية الحديثة وتنقلب عليه، بعد أن أصبح قيام الدولة الوطنية في اليمن قاب قوسين أو أدنى، على إثر نجاحها في تحقيق وحدتها السياسية التى اعترفت بفكرة الديمقراطية والتعددية السياسيه في إطار الثوابت الوطنية الجامعة، ما يعني في النتيجة الثانية أن حرب 1994 لم تقف عند حدود الحيازة الغير مشروعة لكامل لسلطة في اليمن بل استهدفت عن قصد قتل الفرصة التاريخية وضرب المشروع السياسي الوطني الذي تخلق من رحم الوحدة اليمنية .
ومن إجتماع هذا وذاك فإن حرب 1994 بكل مألاتها الكارثية لم تؤسس فحسب لما نحن فيه اليوم، بل أستدعت بعد تحقيق التوحد فكرة الإنقسام السياسي وحتى الإنفصال الوجداني الإجتماعي في اليمن على أساس التنكر لسؤال الهوية والانتماء لليمن وذلك لم يحدث منذ فجر التاريخ وحتى حرب 1994/م، ما يعني في النتيجة الثالثة أن نجاح النخب السياسية في الجنوب في مسألة تحقيق الإنفصال على هذا الأساس اللا يمني سوف يجعل من المكون الإنساني في الجنوب يعيش في فراغ كبير من إنعدام سؤال الهوية والإنتماء الجامع للجنوبيين الأمر الذي سوف يصبح الجنوب معه أكثر قابلية للإنقسام والتشظي .