المواطن/ كتابات ــ عيبان محمد السامعي
المثقفون أو (الأنتلجنسيا), بطبيعة الحال, ليسوا كتلة متجانسة ولا يشكلون طبقة واحدة, بل ينطوون على صور وأدوار متباينة, فلكل طبقة مثقفيها, فهناك المثقف الذي يدور في فلك السلطة, وهناك المثقف المنحاز للشعب, وهناك المثقف الانعزالي الذي يعيش في برج عالٍ.
فكيف بدا المثقف اليمني في سياق الثورة والصراع الجاري؟؟
لقد أبانت ثورة 11 فبراير الشعبية وسيرورتها عن حالة انكشاف للمثقف وللنخب السياسية والاجتماعية بوجه عام, وظهر المثقف اليمني في خمس صور:
الصورة الأولى: مثقف السلطة:
ينسلخ مثقف السلطة عن انسانيته ويخون مجتمعه ليتحول إلى بوق للسلطة, يبيع ضميره لقاء حفنة من المال ليؤدي دوراً تجميلياً للنظام, أو يسوغ الممارسات الاستبدادية والسياسات الجائرة.
هذه النوعية من “المثقفين” تمارس استلاب لوعي الناس لصالح بقاء السلطة, “فتحاصر العقل في صينية الطعام المعد سلفاً داخل مطبخ السلطة”.
كما تمارس أيضاً الحرب النفسية ضد الشعب, بإنتاج خطاب التضليل والتزييف, وإدانة الثورة وتصويرها بأنها مؤامرة كونية وأنها أفضت إلى الفوضى والدمار والتطرف. وكأنَّ الشعب قبل الثورة كان يعيش في نعيم مُقيم.
وفي حقيقة الأمر فإن الفوضى والدمار والتطرف كانت, طيلة فترة حكم النظام السابق, في حالة كمون وتكسوها قشرة رفيعة, وما إن انهار النظام طفت على السطح واستفحلت في ظل غياب البديل.
الصورة الثانية: المثقف البهلوان:
المثقف الذي يتنقل من موقع إلى موقع نقيض حسب اتجاه الريح, كلاعب السرك, ولا يجد في ذلك حرجاً, لأنه ببساطة مثقف انتهازي ينتهز أي فرصة بغية تحقيق منفعة ذاتية على حساب الموقف الأخلاقي.
هذه النوعية من المثقفين هي الغالبة, وقد لاحظناها تتنامى مع صعود جائحة الميليشيا الحوثية وانقلاب 21 سبتمبر الآثم. حيث وجدنا قطاع من المثقفين ينقبون في “أحفورات الأصول” ويفتشون في “مشجر الأنساب”, ليؤكدوا انتسابهم إلى فئة أو سلالة معينة؛ متوهمين بأن هذا سيساعدهم في الظفر بمكسب أو منصب ما. ونقول بكونهم متوهمون, ذلك لأن “مستويات التدرج الطبقي في اليمن تعود في واقع الحال إلى تأثير التقسيم الاجتماعي للعمل, وإن النسب وما شابه ذلك مجرد غلاف خارجي يسبب الخلط والارتباك, كما أن المزاعم الخاصة بهذه الأنساب استخدمت بالفعل لتبرير امتيازات طبقية.”
إذن, “ينبغي أن نبتعد عن التصور الزائف القائل بأن ‘السادة’ يشكلون شريحة اجتماعية واحدة. فقد كانوا, ولا يزالون, موزعين على الطبقات. وكان بينهم الفقراء والمعدمون.”
الصورة الثالثة: المثقف المحايد:
ينأى بعض المثقفين بأنفسهم عن الصراع وقضايا المجتمع, ويلوذون بالخطاب الوعظي كممر للهروب السهل من تعقيدات الواقع ومسؤولياتهم تجاهه.
يتخذون موقفاً موارباً في لحظات الانهيار الوطني وانسحاق المجتمع بين رحى الحرب؛ ظانين بأنّ الوقوف في المنتصف هو الموقع السليم بالنسبة لهم ويضمن لهم راحة البال و الضمير.
لذا تجدهم مهجوسين بالحياد وتأثيم الصراع والحرب. يستخدمون لغة فخمة وخطاب وعظي متعالٍ, يدعون إلى السلام؛ لكنهم يقفون عاجزين عن إقناع الناس كيف يتحقق ذلك السلام, بأي شروط, وبأي أسس؟!
يعجزون عن فهم تناقضات الواقع وملابساته, فضلاً عن عجزهم الذاتي عن وضع تصور منطقي وواقعي لمعالجة مشاكل الناس؛ لذا ينصرفون إلى بناء عالم من اللغة والتجريدات النظرية مُنزوعة الصلة بالواقع.
إنّ هذا الموقف الهُلامي (موقف اللاموقف) يصب في آخر التحليل في مصلحة القوى المضادة للشعب, لأنه موقف يمارس تزييفاً للحقائق ويقوم بتوجيه أذهان الناس باتجاه معين, فيثبط الشعب عن خوض معركته داعياً به إلى التسليم بالأمر الواقع ليدرأ بنفسه عن دفع ثمن حريته, والمعنى أن يظل رازحاً تحت نير الاستبداد والقمع وإلى الأبد…!
الصورة الرابعة: المثقف الضوضائي:
على الرغم من أنّ هذا الصنف من المثقفين يقفون في لحظات ما مع الحراك الشعبي؛ إلا أنه يضر أكثر مما يفيد, لأنه مُنحكماً للعواطف وللرغبات وللانفعالات الطارئة, دون فهم موضوعي لشروط الواقع وملابساته.
ففي مرحلة الزخم الشعبي وتنامي الحركة الجماهيرية يندفع هذا المثقف ويبتهج ويضفي طابع القداسة على الشعب, فيغرق في تمجيده وكيل المديح له.
بينما يُصاب باليأس والانخذال في لحظات انحسار المد الشعبي, فيَعْمَد إلى إدانة الشعب والانتقاص منه وما هو أكثر من ذلك.
لقد رأينا كيف تحوّل فرح المثقف هذا إثر اندلاع ثورة الشعب مطلع عام 2011م, إلى حالة يأس وقنوط عندما أفضت هذه الثورة إلى نتائج لم تكن في الحُسبان..!!
ويدأب البعض على رسم طابع سوداوي للواقع الراهن, بالاستناد إلى ظواهر الانفلات الأمني غير المعهودة لدى كثير من سكان بعض المدن اليمنية “المحررة” وانتشار مظاهر التطرف والعصبيات والاعتداد بالقوة, وينتاب البعض القلق والخوف من تحول هذه الظواهر الطارئة إلى ثقافة وسلوك مترسخ.
يكتفي هؤلاء بالوقوف عند الشكل الخارجي (المظهري) لتلك الظواهر دون الغوص في أسباب وجودها وعوامل تفجرها.
ونود هنا أن نقول بأن تلك الظواهر إنما هي تراكمات لعهود من القمع, فقد رزح مجتمعنا تحت نير القمع سنين طويلة، وظل يعاني الكبت والقهر والإزاحة والحرمان..
وعندما انهار نظام القمع فجأة، أصبحت القوة في متناول المجتمع؛ وهو ما أنتج حالة من تملك القوة والاعتداد بها والاحتكام إليها.
في كل الأحوال ليس بمُستطاع هذه النوعية من المثقفين أن تعي الطبيعة الجدلية للمزاج الشعبي ولا أسباب الاندفاع وأسباب الانحسار, لأنهم ببساطة بعيدون عن المنهج العلمي.
إن المزاج الجماهيري مزاج عفوي, إذا لم ينحكم إلى التنظيم الثوري وتقوده طليعة واعية فإنه غالباً ما يقع فريسة التوظيف السياسي للخصم أو يُمنى بالفشل.
الصورة الخامسة: المثقف العضوي:
المثقف العضوي هو ذلك المثقف الملتزم الذي يتخذ موقعاً من الصراع الاجتماعي, ويتبنى موقفاً منحازاً للجماهير, فيعمل على تنوير المجتمع وتثويره بالوعي الجديد, وفي الآن ذاته يواجه الدعاية التضليلية التي تبثها القوى المضادة, أي أنه يعمل على نشر الوعي المطابق للواقع (الوعي الفعلي), ويواجه الوعي المفارق للواقع (الوعي الزائف).
وإذا قمنا بعملية تقصٍ وبحث لهذا النموذج من المثقف في واقعنا اليمني, فلن نجد إلا القلة القليلة.
وعلى الرغم من قلة هؤلاء فالأمل معقود عليهم في ممارسة النضال ضد مراكز الأيديولوجية المسيطرة ومواجهة أشكال الوعي العصبوي بتلاوينه المختلفة (الطائفي والجهوي والقبائلي) بتبني خطاب وطني ديمقراطي يرتكز على الهوية الوطنية الجامعة والقواسم الحضارية والمادية المشتركة لأبناء المجتمع.
ولا تتوقف مسئوليته عند هذا المستوى, بل تبرز مهمة أخرى في سياق الوضع اليمني الراهن, ولابد أن يضطلع بها, والتي تتمثل بمواجهة الثقافة الانهزامية وحالات الإحباط, ببث روح الأمل في أوساط الشعب وتبشير الناس بالآفاق الرحبة, ودحض الأساطير الثقافوية والأوهام الاستشراقية التي تزيف الوعي وتثبط العزائم.