المواطن/ كتابات _ فهمي محمد
الحديث عن إشكالية الدولة والديمقراطية على مستوى الواقع العربي حديث مرهق ومتشعب بتشعب المشكلة العربية التي تقف اليوم بكل أبعادها في وجه مشروع الدولة المدنية وحتى في وجه القوى المدنية في حال أن وجدت هنا او هناك دون تأثير كبير في مجريات الأحداث التي تدحرجت سلبياً اكثر منها إيجابياً بقصد فاعل أراد أن يجرم الفكرة الثورية بتداعياتها السلبية التي لاتخلو من الاصطناعية الممولة والممانعة في بعض الأقطار ، قبل أن تتحول فكرة الثورة ومشروعها في تلك الأقطار إلى نموذج جذاب وقادر على تجاوز الحدود السياسية إذا ما نجحت الثورة في التعاطي مع فكرة التغيير ، ومع هذه التشعبات والتدخلات فإن طبيعة الكتابة في هذه المقالة تفرض علينا أن نعمل على لم موضوعها في الكتابة بقدر الإمكان وبشكل يجعل الحديث فيها يقترب من تلك الأسئلة المثارة سابقاً والمتعلقة بإشكالية الدولة والديمقراطية لاسيما وأن احداث الربيع العربي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن ما ينقص شعوبنا العربية ليس عدم وجود الديمقراطية الليبرالية فحسب ، بل أنها مازالت حتى اليوم تعيش في ظل هلامية الدولة الوطنية التي يشكل وجودها قابلية سياسية ناجعة لفكرة التحول المدني في مضمار السياسية والديمقراطية ، فالسلطة التي نعيش في ظلها ناهيك عن كونها قادرة على إفراغ الديمقراطية من محتواها كما كان يفعل الحكام العرب قبل أحداث الربيع العربي ، فإنها تظل في كل الأحوال حالة سياسية نابذة وغير قابلة لفكرة الديمقراطية ولمسألة التعددية السياسية ، وحتى لمبدأ المشاركة في السلطة والثروة ، على إعتبار أن التوزيع العادل للدخل والثروة يظل هو الشرط الموضعي القادر على منح المواطن البسيط القدرة على الاحتفاظ بحرية الإرادة والإختيار في العملية السياسية الديمقراطية = { كرامة الصوت الانتخابي في العملية الديمقراطية } وبدون هذا التوزيع العادل للدخل والثروة يتحول صوت المواطن الذي يمنح الشرعية للحاكم من إرادة حرة وإقتدار سياسي إلى سلعة يتم تبادلها جبراً مقابل المصلحة الشخصية أو رغيف الخبز وهذا ما يحدث في ظل وجود السلطة في التجربة العربية .
إذاً إشكالية الدولة الوطنية والديمقراطية الليبرالية تبدأ من نقطة عدم وجودهما في الواقع العربي وهذا ما يجعل الفعل الثوري في زمن الربيع العربي معني بدرجة رئيسية بتحديد نقطة البداية والانطلاق في حال تعاطيه الجدي والمسؤول مع سؤال الدولة المدنية ، بمعنى آخر هل نبدأ بالوقوف على مشكلة الدولة الوطنية ام على مشكلة الديمقراطية الليبرالية ، وعطفاً على ذلك هل نبدا بالتوافق الوطني أم بالتنافس السياسي ؟
بمنطق هذه الرباعية التي تفرضها خصوصيتنا العربية في زمن الربيع العربي نستطيع القول على سبيل المثال أن الفعل الثوري في مصر قفز على خطوة كانت ضرورية في مسار التحول والتغيير حين بدأ بالوقوف على مشكلة الديمقراطية على إثر إزاحة الرئيس حسني مبارك ، فقد تم الشروع مباشره في الانتخابات الرئاسية ثم الانتخابات البرلمانية في ظل وجود السلطة القائمة = { التي عرفت فيما بعد بالدولة العميقة} وهذا التوجه الديمقراطي القائم على التنافس بعد سقوط مبارك أعاق مشروع الدولة المدنية في مصر !!!
فالانتخابات الديمقراطية أدت إلى فوز الرئيس مرسي ثم إلى فوز أغلبية ذات توجه إسلامي في مجلس الشعب المصري أو بمعنى آخر الأحزاب القائمة تاريخياً على الجملة الدينية وعلى الخطاب الإنشائي = { سلفيين + إخوان مسلمين } وإذا كان هذا الفوز شيء طبيعي ومقبول وحق مشروع لهؤلاء على اعتبار أن غاية الديمقراطية هي منح الحق في ممارسة السلطة للأغلبية العددية التي أفرزتها صناديق الاقتراع السري ، إلا أن تقرير ما يتعلق بمسألة الدولة الوطنية بكل أبعادها لاسيما الدستور بناء على تلك الأغلبية الحزبية التي أفرزتها صناديق الإقتراع كان هو الخطأ الفادح والمُشكل الكبير في عهد مرسي ، فالدولة في حد ذاتها تعبر عن حالة سياسية وطنية ولا تعبر عن حالة سياسية حزبية ، والدستور يظل في كل الأحوال هو الإطار القانوني والمرجعية السياسية للدولة على إعتبار أن الدستور هو عقد اجتماعي يعبر عن إرادة شعب ولو بالحد الأدنى المتفق عليه ولا يعبر عن إرادة الأغلبية الحزبية في الممارسة الديمقراطية ، هذا يعني أن الدولة الوطنية بكل أبعادها السياسية والقانونية وحتى فيما يتعلق بهويتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تظل نتاج لحالة من التوافق الوطني بين المكونات السياسية وليس نتاج لحالة من التنافسة الديمقراطية الحزبية الذي يفترض أن يأتي كخطوة ثانية بعد أن يتم بالضرورة حسم مسألة الدولة التي تعد من جهة أولى انتصار للهوية الجامعة على المستوى الوطني ومن جهة ثانية تعد حالة ضامنة على المستوى السياسي وناجعة في نفس الوقت للممارسة الديمقراطية التنافسية السلمية بين جميع المكونات الحزبية ذات البرامج والمشاريع الوطنية ، ومن هذا وذاك يجد المواطن نفسه أمام مفهوم الدولة الضامنة أو الدولة المدنية الحديثة .
إذا الفعل الثوري في مصر بعد إزاحة الرئيس مبارك سار بكعب أخيل بحيث تمثلت أول نقاط ضعفه بما نستطيع أن نصفه بتقديم عربة الديمقراطية الليبرالية على حصان الدولة الوطنية في معركة التغيير على المستوى السياسي ، ففيما يتعلق بالإطار القانوني وبالمرجعية السياسيه لمفهوم الدولة الوطنية تم مناقشتها وفرضها كخطوة لاحقة بناء على أغلبية حزبية في مجلس الشعب المصري ، وقد وصل بها الحال في استغلال مسألة الديمقراطية إلى المجاهرة بالحديث عن قانون أو إعلان دستوري يحصن قرارات وتصرفات رئيس الجمهورية وهو ما يعني أن الرئيس مرسي أصبح بشخصه فوق دستور الدولة في مصر وفوق مؤسساتها التشريعية والقضائية وليس محكوم بهما ، وهذا ما أدى إلى رفع شعار {اخونة الدولة} الذي تم استغلاله بسوء نية اكثر من استغلاله بحسن نية في تحشيد الجماهير الثائرة التي خرجت للمطالبة بإسقاط مرسي وجماعة الإخوان وهو ما أدى إلى إتاحة الفرصة أمام السلطة للإنقلاب على أول تجربة ديمقراطية حرة وعلى أول رئيس ديمقراطي منتخب في تاريخ مصر ، على يد العسكريين بقيادة عبد الفتاح السيسي الذي يؤسس اليوم في مصر سلطة مستبدة ونظام قمعي بوليسي أشد قمعاً مما كان عليه الحال في عهد حسني مبارك وهو ما يعني العودة بمصر إلى ما قبل عام 2011/ مع الفارق الكثيف في استخدام وتوظيف أدوات البطش عند نظام السيسي الذي تمكن من إزاحة مشروع الدولة المدنية في مصر ، بل وترحيل هذا المشروع الحضاري إلى أجل غير مسمى ، فأم الدنيا على حد وصف نابليون بونابرت تعيش اليوم محنتها في ظل أفق سياسي مسدود ومحتقن أكثر من اللازم مهما حاول المكابرون تجميل وجه السيسي المستبد بعد ثورة 25 يناير التي رفعت شعار الدولة المدنية