المواطن/ كتابات – ياسين الزكري
ثمان سنوات متتالية يمكنها أن تقلب الحياة في أي بلد تتنافس قواه السياسية في تقديم افضل مالديها ..كما أنها كافية تماما لاشعال حرب أهلية طاحنة حين تقدم الأخيرة أسوأ مالديها
الحديث عن استراتيجية طموحة، وشعب يعيش في سلام حين لا يبدأ الأمر من ضبط وتنظيم العملية التعليمية. يشبه الحديث عن علبة هدايا مطرزة تحتوي لغما جاهزا للانفجار
أن تضع استراتيجية للدولة هذا يعني بالضرورة وجود الدولة وفعالية مؤسساتها
بحسب خبراء التخطيط يبدأ رسم الاستراتيجيات من الرؤية والرسالة ثم تاتي مرحلة وضع الأهداف الناظمة لتحقيق الرؤيا الواسعة
حين تتحدد الأهداف فإن السير في رسم الاستراتيجية يبدأ من رسم توجهات التعليم، كونه البوصلة الأساس في قيادة الرحلة نحو المستقبل الذي تعمل مؤسسات الدولة على تحويله من سطور وأرقام على الورق الى حقيقة حية على الأرض.
في اليمن وبعد تخلخل تدريجي في البنية بدأت مرحلة الانهيار السريع للتعليم مابعد العام 2006
ومعه بدأت قيمة النجاح تتوارى تحت ركام الانقاض
ثمة عوامل أساس في صناعة النجاح تعلمناها في المدرسة حين كانت المدرسة مكانا لاعداد الانسان.
أشياء لم يقلها الأستاذ او الكتاب بالضرورة بل قالتها الإجراءات والضوابط بشكل عملي
المواضبة والسلوك ، المقدرة على التعبير ومواجهة الأسئلة المباغتة في الاختبارات الشفهية، الاعتماد على الذات ،وإعادة تأليف الفكرة بطريقتك انت في الاختبارات التحريرية ، العمل مع الفريق في التجارب العملية والأنشطة المدرسية والكشفية
أن تغادر منزلك في وقت مبكر خالي البطن ربما وخالي الجيب من أمل شراء كأسة شاي خلال الاستراحة ..أن تقطع مسافة بالكيلو مترات سيراً على الاقدام وان تصل قبل السابعة والنصف موعد طابور المدرسة الصباحي نظيفاً متأنقا بأفضل مالديك .. أن وأن … وأن تجيد معرفة اين ومتى وكيف يمكنك طرح السؤال للحصول على إجابة جيدة.
كانت تلك بعض ملامح التكوين الاولي للشخصية والدرس الأول في معرفة أن للمعلومة والمعرفة ثمن ينبغي عليك أن تدفعه جهدا ومثابرة وعقوبات تهذيبية أيضاً
من الجيد أن يساعد الانترنت اليوم في تسهيل عقبات الوصول الى المعلومة بشكل ما ،لكن ماذا عن كل ماتبقى.
خلال الفترة بين 1995،1996 شهد مجال التعليم أوسع عملية حقن فيروسية في جسد البنية الداخلية تحت عنوان “اجراء المعادلات” ليستبيح الجهل مقاعد أساتذة التعليم ولتبدأ رحلة النهب لمقدرات التعليم ومصروف الطالب المدرسي من داخل بنيته الإدارية
مابعد العام 2006 بدأت الاعراض المرضية الناتجة عن نشاط الفيروس بالظهور.
في البدء كان الامر يسير وجهة تسيس التعليم بشكل خجول غير أن فترة الحياء تلك لم تطول
فخلال عامين فقط تم توظيف السياسة بشكل سافر في قتل روح المنافسة ولي عنق الفرصة، حين تحولت الفرصة الى استمارة حزب حاكم أو خدمة أجندة احدى عصياته المشرعة سراً او علانية على شكل حزب او تنظيم سياسي أيضا لتبدأ مرحلة سن المعاول.
لاحقا كانت معاول الهدم أكثر جاهزية من أرضية البناء فتم تحويل الكفاءات التعليمية الى خانة موجهين او مستشارين خارج الخدمة
ورويدا رويدا بدأت تلك القيم الأساس في التهاوي واحدة تلو أخرى ومعها تغير لون النجاح ثم رائحته وأخيرا مذاقه .
صار النجاح بل وربما التفوق على مسافة خمسمائة ريال من مقعد الاختبار او على مرأى علاقة بأحد أعداء النجاح
وصار أولئك الذين لا يجيدون كتابة عبارة خالية من أخطاء املائية او دون الحاجة الى فك شيفرة الطريقة التي يرسم بها الحروف الابجدية يقفون في الصف الأول على شبابيك التسجيل الجامعي يحملون أوراقا عليها ارقام بين تسعة صفر وتسعة تسعة تماما كنتائج انتخابات الدول الديكتاتورية.
حين تنضبط معايير النجاح يصبح التفوق حلما ذي قيمة، وحينما يفقد النجاح معاييره المفترضة يصبح الاستهتار عنوان مرحلة نفقد فيها الوطن والانسان معا.
حين يصير النجاح على مرمى وساطة أو فئة نقدية يخرج الطالب وفي مخيلته ان كل التحديات مجرد اكذوبة وان كل شيء يمكن العبث به مادام الوصول اليه اسهل من فهمه
لاحقاً.. يتساءل الأستاذ ما جدوى ان تبذل جهدا في التحضير والشرح وتتساءل الإدارة عن جدوى المتابعة والتقييم مادامت الحصيلة النهائية من كل ذلك قد دخلت أوراق التسعيرة او صارت مكشوفة الابواب نحو الاعتساف ..ثم صار الاعتساف ذاته احدى قواعد العمل اليومية
رويدا تتحول فصول الدراسة الى مقهى مفتوح لتبادل النكات واختراع قصص المغامرات الوهمية وتكوين الشلل وتعلم ابجديات المؤامرة على زميل المقعد الدراسي أوبنت الجيران أوأو…
بعد عام.. تتحول الدفعة السابقة الى بلطجية مهمتهم تأمين وصول الغش الى قاعات اختبارات الدفعة التالية لتبدأ المرحلة الأخيرة من مراحل نسف القيمة الباقية للتعليم وهيبته ولتغدو تلك العملية أشبه ببطولة أو مغامرة للتفاخر مابين دفعة وأخرى
في المدرسة القديمة كنت اذا اردت ان تتميز فهناك بنود ينبغي اتباعها ..الاناقة بالقدر المتاح.. اللياقة في التعامل ..اللباقة في التعبير ومطالعة اكبر قدر من الكتب التي تقودك الى البحث عنك بين صفحات الصحف او في معامل العلوم التطبيقية او في التعامل مع الالات او او..
في الحديثة لديك التزام أخلاقي في متابعة تغريدات الشلة ووضع لايك على عبارة ليس مهما ان تعني شيئا بالضرورة فالهدف لايعدو استعادة اللايك وتوثيق أواصر الارتباط بالشلة ..وهي ذاتها الخبرة التي يجري تصديرها صعودا في كل مرة.
اليوم لدى الطالب متسع للتعامل اللا أخلاقي مع العلم والمجتمع تحت عنوان هلامي اسمه “التمرد” ..او بشكل أوضح ..التمرد على الضوابط والقيم ..وذلك هو المخرج الاولي الذي يساهم اليوم بقوة في رسم مستقبل منفلت للبلد
في الاتي القريب ربما لن يكون مستغربا ان يقول لك احدهم انه وفلان أعضاء في عصابة من أيام المدرسة في تحريف لم يعد فارقا مع عبارة من أيام السجن.
هؤلاء لم يعودوا يجيدون العمل كموظفين فمادام النجاح سهلا فالتفوق قد يزيد سعره قليلا عنه وعليه فإن هؤلاء قد خلقوا ليكونوا مدراء ووزراء وقادة ولديهم تلك الأدوات التي تمرسوا عليها جيدا فمادامت المسئولية مسالة شكلية ينبغي التمرد عليها فاين تكمن الصعوبة اذاً! مادمت فقط ستصل ثم لن تفعل شيئا جيدا بعد ذلك ..أنت لست عميقا لتفعل شيئا جيداً!
في واقع يصف الانصاف بأنه “تحيز” والاستقامة بـ” الموضة العتيقة” يهرب الإنجاز من خرم الباب وتدلف القرارات من هوائيات التغطية او ربما من “شاقوص” غرفة المقيل
فحين تكون الضحكة أصل القضية يصبح الإنجاز مجرد نكتة ،تماما كالحديث عن المستقبل داخل مركبة الرحلة نحو ماضٍ سحيق.