المواطن/ كتابات – فهمي محمد
المتمجدون وإن بلغوا منزلة مقرّبة من أصحاب السلطة والنفوذ ، أو حققوا بعض المكاسب على المستوى الشخصي ،على حد وصف ابن خلدون الاستهجاني ( فاز المتملقون ) لكنهم في كل الأحوال لا يتحولون إلى أسماء أو أعلام في ذاكرة المجتمع أوفي التاريخ السياسي، لأن هذا التحول مرتبط أساساً بالموقف النقدي الإنساني والأخلاقي تجاه ما يجري في الواقع، لاسيما فيما يتعلق بالسياسة والسلطة ،وحتى فيما يتعلق بالواقع الاجتماعي والاقتصادي ، وهذا الموقف المطلوب منعدم عند هؤلاء المتمجدين ،لأن التخلي عن الموقف والضمير هو شرط لازم يجب تنفيذه بالتلازم مع أول خطوة تقود صاحبها إلى الوقوف على باب السلطان .
في كل الأحوال يذهب هؤلاء المتمجدون أدراج الرياح ،حتى وإن ثخنوا في الأرض، لأن منزلتهم لا تقاس بقيمة أخلاقية، ولا تخضع لأي التزام أخلاقي على المستوى السياسي، لاسيما مع أولي النعمة عليهم ، فالمقياس هنا مقياس نفعي ،محكوم بالدور المطلوب تنفيذه ، والدور بحد ذاته عمل وضيع، يتمثل في تزيين ذقن السلطان وإحراق البخور في مجالس الحكام، أو على شرفهم بين العوام ، كما أن الدور هو الآخر يقاس بكمية البخور الذي يتم إحراقه اسبوعياً أو شهرياً أو حتى سنوياً ،
فمن خلال الكمية المحروقة يتم تحدد حجم العطاء المقابل لهؤلاء العطارين الواقفين على باب السلطان ، وعندما يتم استهلاك هؤلاء اوتتغير الظروف السياسية يتم الاستغناء عنهم ، وحتى في حال موتهم يكفنون بثياب العار، ويدفنون في مقابر النسيان التي تنقطع عنها الزيارة والترحم.
التاريخ في كل الأحوال أشبه بمتحف بابه مفتوح على مصراعيه أمام الأجيال القادمة ، وعندما يقرر الأحياء وحتى الأجيال من بعدهم زيارة التاريخ، فإنها لا تقف على قبور هؤلاء المتمجدين، وفي حال توقف البعض منهم فإنهم يقفون لتبول على قبور هؤلاء العطارين في عالم السياسة ،وليس لقراءة الفاتحة على أرواحهم ، لكنهم على العكس من ذلك يقفون مجبرون بقوة الضمير على قبور من سلكوا طريق المجد بكل تواضع، وكأنهم أحياء يرزقون وهم كذلك في ضمائر الشعوب .
ذلك ما فعله رجل البطش والقوة، بل والرعب الشديد على خصومه ، مؤسس الدولة العباسية ابو جعفر المنصور ،حين توقف بموكبه وجنده في منطقة مرّان ،وهو امير المؤمنين ، يومها ترجل عن فرسه مجبراً بقوة الضمير الإنساني على قبر خصمه السياسي عمر بن عبيد ، مع أن هذا الأخير لم يعترف أثناء حياته ببيعة أبو جعفر المنصور ، بل مات وهو يتزعم تيار يفكر بالثورة على المنصور ، وأكثر من ذلك أقدم ذات يوم على إهانة المنصور وولي عهده في مجلسهم وبين وزرائهم ، ثم غادر رافضاً قبول المال ورافضاً كل العروض المغرية التي وصلت للحد الذي أقدم فيه هذا الخليفة العباسي على خلع خيتم الخلافة ووضعه أمام عمر بن عبيد، طالباً منه أن يأتي بأصحابه ويضعهم أين ما يريد في جهاز الدولة، وفي المقابل يعزل من يريد من أصحابه ، ومع كل هذا كان الرد على تلك العروض حاسماً وقاطعاً ” اعرف الحق، يأتك أهله في بابك ألف مظلمة ردها يعرف صدقك ” ،وعندما حاول المنصور توديع الرجل محافظاً على شعرة معاوية في قوله: ألك حاجة نقضيها لك ؟ ،
كان الجواب: نعم لا تبعث في طلبي حتى اجيئك !!!