المواطن/ كتابات – عيبان محمد السامعي
استكمالاً لما سبق, تتناول الحلقة الثالثة واقع الحركة النقابية العمالية في الشطر الجنوبي خلال الفترة (1950 – 1967م).
كانت عدن سباقة في نشوء النقابات العمالية المنظمة على مستوى اليمن, بفعل تطور اقتصادها, لاسيما توسيع الميناء وبناء مصفاة الزيت, وازدياد أعداد العمال, ونشاط التنظيمات الوطنية الأولى.[24]
ولا يوجد اتفاق حول تاريخ محدد لبداية نشوء النقابات العمالية, فهناك ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يذهب عبدالله مرشد ــ أحد القيادات الريادية للحركة النقابية ــ إلى القول بأن بداية نشوء النقابات في عدن تعود إلى ما قبل أربعينات القرن العشرين, مستشهداً بقيام السلطات الاستعمارية البريطانية بإنشاء مكتب العمل في عام 1938م, وإصدار “قانون نزاعات العمل والنقابات” عام 1942م “الذي لم يصدر اعتباطاً, إنما يصدر بعد أن تكون قد تكونت النقابات وذلك لغرض كبحها وتسخيرها” على حد تعبيره.[25]
والرأي الثاني: يقول بأن النقابات نشأت مطلع الخمسينات, وإن كان يتفق حول قضية إصدار قانون للنقابات ونزاعات العمل قبل هذه الفترة, وتحديداً في العام 1942م, غير أن طلبات التسجيل الأولى للنقابات لم تقدم إلى السلطات الاستعمارية البريطانية ــ آنذاك ــ إلا بعد مرور 10 سنوات على اتخاذ القانون.[26]
الرأي الثالث: يؤكد على أن العمل النقابي بدأ عام 1948م, ويستشهد على ذلك بأنه في سبتمبر 1948م أضرب عمال شركة تجارية هي (الشركة الانجلو ــ إيرانية) مقدمين مطالب اقتصادية.[27]
ونذهب إلى تأييد الرأي الثاني الذي يقرر بأن نشأة النقابات العمالية تعود إلى مطلع الخمسينات, فوجود حراك عمالي وإضرابات عمالية عفوية قبل الخمسينات لا يعني بالضرورة وجود نقابات عمالية منظمة بالأسلوب والمعنى الفعلي لها.[28]
لقد شهد مطلع الخمسينات سلسلة إضرابات عمالية, وبدأت الحركة العمالية في التعبير عن نفسها بين تيارات ثلاثة:
تيار الانفصالية, ومثلته الجمعية العدنية بقيادة: حسن علي بيومي, وأحمد محمد خليل, وعلي محمد لقمان, وأحمد محمد العلوي, وعبده حسين الأهدل, ومحمد علي الأسودي.
وعبّر هذا التيار عن مصالح البرجوازية التجارية العدنية التي ارتبطت بالمستعمر, وعرف بالنزعة الانفصالية الضيقة التي نادت بالحكم الذاتي لأبناء عدن, واتخذ مواقف عدائية تجاه العمال المهاجرين القادمين سواء من المحافظات الجنوبية أو المحافظات الشمالية.
تيار تبنى الدعوة لوحدة الجنوب العربي, ومثلته رابطة أبناء الجنوب العربي, تأسس عام 1951م, بقيادة: محمد علي الجفري, وشيخان عبدالله الحبيشي, وعبدالله علي الجفري.
وقد مثلت الرابطة أولى المنظمات السياسية في جنوب اليمن, ورفعت في بادئ الأمر شعارات وحدوية الجنوب وشعارات قومية وشعارات وطنية ضد الاستعمار.
وانخرط في صفوفها خليط من السياسيين من ذوي التوجهات السياسية والمنابت الطبقية المختلفة, فقد ضمت من أبناء الأسر السلاطينية والعائلات الغنية إلى جانب القوميين والماركسيين. وبسبب هذا الخليط غير المتجانس, شهدت الرابطة حالة انشقاقات في صفوفها, لاسيما عام 1955م, بعد أن شاركت قيادة الرابطة في انتخابات المجلس التشريعي الشكلية والتي أشرفت عليها السلطات الاستعمارية في مستعمرة عدن.
تيار ثوري بدأ يهتم بالمصالح الطبقية للعمال وأكد على وحدة اليمن الطبيعي (جنوباً وشمالاً) بقيادة المناضل والصحفي الأبرز عبدالله عبدالرزاق باذيب.[29]
شهد العام 1951م نشوء نقابة “رابطة عمال الصناعات المتنوعة”, وفي 1952م “اتحاد عمال وموظفي شركة عدن للطيران”[30]
وأسس اتحاد عمال وموظفي عدن في عام 1952م تحت التأثير المباشر من جانب رابطة أبناء الجنوب العربي.[31]
وهكذا جرى تأسيس النقابات العمالية, ووصل عدد النقابات الكبيرة حتى العام 1955م في عدن إلى (12) نقابة, من بينها نقابة شركات الاستيراد والتصدير: شركة “البس” وشركة “لوك تامس” وشركة “كوري براذرز” وغيرها.[32]
بدأ الحراك النقابي يتنامى, ففي عام 1955م نفذت النقابات حملة مقاطعة لانتخابات مجلس عدن التشريعي, لكونها انتخابات شكلية وتلبي مصالح السلطات الاستعمارية, وقد انضمت لحملة المقاطعة كل الهيئات والمنظمات الوطنية عدا حزبي “الجمعية العدنية” و”رابطة أبناء الجنوب” الرجعيين. لقد كانت هذه المقاطعة بمثابة مظاهرة هامة لقوة الحركة النقابية وشاهد على أهمية منظمات الطبقة العاملة. كما مثلت أول موقف سياسي للنقابات ليس فقط ضد الاستعمار, وإنما أيضاً ضد الأحزاب السياسية الرجعية التي شاركت في هذه الانتخابات”.[33]
لقد كان من نتائج مشاركة الرابطة في هذه الانتخابات أن حدث انشقاق بعض الوطنيين والنقابيين منها وقيامهم بتأسيس كيان سياسي جديد هو “الجبهة الوطنية المتحدة” بزعامة: محمد عبده نعمان رئيس نقابة المعلمين, وعبدالله الأصنج رئيس نقابة شركة طيران عدن, ومحمد سالم علي رئيس نقابة عمال المواصلات, وعبدالقادر الفروي رئيس نقابة شركة لوك توماس, وعبده خليل سليمان رئيس نقابة عمال الميناء, وعبدالله عبدالرزاق باذيب سياسي وصحفي ذو التأثير الواسع.
وبدأت الطبقة العاملة وفصائل الحركة الوطنية تتبين بوضوح أنه بدون وحدة النضال ضد الحكم الاقطاعي في شمال البلاد والاستعمار في جنوبها لا يمكن أن يحقق الشعب اليمني أهدافه الوطنية والاجتماعية.[34]
إن إعلان الجبهة المتحدة عبّر أساساً عن وجود جناح يساري في الحركة الوطنية في ذلك الوقت وخاصة عام 1955م, وعن أماني العمال وصغار الموظفين والطلبة.[35]
وقد رفعت الجبهة المتحدة شعار الوحدة اليمنية في وجه المحاولات الاستعمارية الرامية لتفتيت وحدة الحركة العمالية, وزرع بذور الشقاق بين أبناء الجنوب وبين العمال القادمين من الشطر الشمالي, فقد أصدرت السلطات الاستعمارية قانون “حقوق المواطنة في عدن” الذي نصّ على اعتبار كل “أبناء الكومنولث البريطاني مواطنين في عدن”. وعلى الضد من ذلك فقد صنف القانون اليمنيين من أبناء الشطر الشمالي والمحميات مهاجرين لا يملكون حقوق المواطنة, هؤلاء اليمنيين الذين مثلوا حتى عام 1955م, حوالي 72% من إجمالي سكان عدن.[36]
لقد أدرك الاستعمار البريطاني خطورة هذا النهج الجديد الذي أرسته الجبهة الوطنية المتحدة, فعمل على نفي قادتها, وكان أبرز من تم نفيه محمد عبده نعمان الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة ورئيس نقابة المعلمين.[37]
استمرت عملية نفي وطرد القيادات النقابية والسياسية وكذلك العمال, فحتى بداية عام 1956م قامت السلطات الانجليزية بطرد حوالي 700 عامل من عدن, لقد سبب هذا النفي التعسفي أزمة في الكوادر المجربة والواعية في قيادة النقابات, الأمر الذي اضطر الجبهة الوطنية المتحدة والنقابات إلى التفكير الجدي في إنشاء اتحاد يضم كل النقابات في عدن.[38]
تشكيل مؤتمر عدن للنقابات:
تأسس مؤتمر عدن للنقابات في 3 مارس العام 1956م كإطار نقابي توحيدي لجميع النقابات التي بلغ عددها في ذلك الوقت (25) نقابة, وهي:[39]
نقابة العمال والفنيين.
نقابة عمال (أنجلو ــ إيرانيين) كمبني.
نقابة الموظفين المدنيين للقوات المسلحة.
نقابة عمال المصافي.
نقابة عمال شل.
نقابة عمال كالتكس.
نقابة عمال موبيل أويل.
نقابة عمال أمانة ميناء عدن.
نقابة عمال لوك توماس.
نقابة عمال الملح.
نقابة عمال محطات البترول.
نقابة عمال البنوك.
نقابة عمال المعلمين.
نقابة عمال الينو.
نقابة عمال البرق واللاسلكي.
نقابة عمال البريد والتلفون.
نقابة عمال خطوط عدن الجوية.
نقابة عمال محلج القطن.
نقابة عمال البلدية.
نقابة عمال الحكومة والحكومات المحلية.
نقابة عمال الباصات.
نقابة عمال القوات المسلحة.
نقابة عمال سائقي التاكسي.
نقابة عمال المطابع.
نقابة جمعية الموظفين العدنية.
وتشكلت قيادة المؤتمر من: عبدالله الأصنج رئيساً, وعضوية علي حسين القاضي, وصالح محسن, وعبدالله عبدالمجيد السلفي, وعبده خليل سليمان, ومحمد سعيد مسواط, ومحمد عبده نعمان الحكيمي, ومحمد سالم علي, عبدالله علي عبيد, وزين صادق الأهدل, وغيرهم.
وقد تضمن دستور المؤتمر شعارات تقدمية, ودخلت فيه عناصر قيادية تقدمية كان لهم اسهام كبير في تنظيم الطبقة العاملة.[40]
ما من شك, أن واقع الاستغلال الذي مارسته الشركات الاحتكارية وواقع القهر الذي مارسه الاحتلال البريطاني وصعود القومية العربية وأصداءها قد وفرت الأرضية الملائمة لنشوء النقابات وانتظامها في كيان نقابي موحد. إن هذه الخطوة قد شكّلت أهمية كبيرة على صعيد الحركة العمالية والحياة السياسية في البلاد, فقد أصبحت الحركة العمالية قوة اجتماعية وسياسية مؤثرة في المشهد الوطني, واكتسبت نضجاً وتمرساً في النضال فقد تعدد أساليب نضالها بين الاضرابات والمظاهرات والانتفاضات, كما انخرطت بفاعلية في النضال الوطني الساعي إلى تحرير الشطر الجنوبي من سيطرة الاستعمار البريطاني وتخليص الشطر الشمالي من قبضة الحكم الإمامي الكهنوتي.
ومع ذلك, لم يكن وضع مؤتمر عدن للنقابات منذ تأسيسه مستقراً, فقد بدأت الانقسامات والصراعات تتكشف بين اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول: الاتجاه التريديونيوني “الإصلاحي/ الاقتصادوي” بقيادة عبدالله الأصنج الذي أراد حصر نشاط المؤتمر والنقابات المنضوية فيه على الجانب المطلبي الاقتصادوي فقط وعزله عن النشاط السياسي والنضال الوطني العام بدعاوى زائفة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه الثوري “اليساري”, الذي أكد على ارتباط وتواشج مسار النضال النقابي المطلبي بمسار النضال الوطني العام, فالقهر والاستغلال الذي يطال سواء العمال أم المواطنين اليمنيين ينبثق من منبع واحد وهو الاستعمار البريطاني وشركاته الاحتكارية, وعليه أدركت القيادات النقابية الثورية أنه لا يمكن تحقيق خلاص جزئي للطبقة العاملة إلا في إطار تحقيق الخلاص العام لليمن من الاستعمار ومن الإمامة.
يشير عمر الجاوي إلى أن محاولات الأصنج وجماعته لصرف النقابات عن الانخراط في النضال الوطني العام قد جاء بتأثير من حزب العمال البريطاني الذي وضع ضمن أهدافه توجيه النقابات في المستعمرات على أساس “النقابية” المحددة سلفاً بالمطالب الاقتصادية والابتعاد عن السياسة. فلقد زار عدن كثير من النقابيين الانجليز بحجة المساعدة في تنظيم النقابات. ونتيجة لنشاطهم وجدت بعض التغييرات في تركيب قيادة مؤتمر عدن للنقابات وفي الدستور نفسه. فقد تمكن الخبراء المرسلون من النقابات البريطانية أن يقنعوا قيادة مؤتمر عدن للنقابات بتطرف الدستور الأول “ويساريته” التي لا يمكن أن تساعد على إيجاد لغة مشتركة بين النقابات والشركات الاحتكارية في عدن.[41]
وكان من ثمار هذه المساعي أن تم تغيير الدستور الأول للمؤتمر, وإصدار دستور جديد لم ينص لا من قريب ولا من بعيد على نضال العمال من أجل أهدافهم السياسية والطبقية المشروعة.
كما تم تغيير الشعار من “الخبز, الحرية, السلام” ورفع شعار قومي: “وحدة, حرية, اشتراكية” وتغيير الاسم من “مؤتمر عدن للنقابات” إلى المؤتمر العمالي عام 1958م.
ويضيف الجاوي قائلاً: يفسر هذا التقبل السريع لمثل هذه السياسة “الغربية” المنشأ الطبقي والفئوي للقادة في عدن, الذين لا ينتمون إلى الطبقة العاملة إطلاقاً من ناحية التركيب والانتماء الايديولوجي, فعلى سبيل المثال: كان رئيس مؤتمر عدن للنقابات العيدروس واحد من أكبر التجار الوسطاء في عدن, والأمين العام للمؤتمر عبدالله الأصنج مديراً لفرع شركة الطيران البريطانية (BOAC), ولقد ساعدته السلطات والشركة في القفز على رأس مؤتمر عدن للنقابات.[42]
في أغسطس 1960م أصدرت سلطات الاستعمار البريطاني قانون العلاقات الصناعية, وقد تضمن القانون تحريم الإضرابات, وإنشاء محكمة عمالية تقوم بحل الخلافات والمنازعات التي تحدث بين العمال وأرباب الأعمال,[43] وقد مثل هذا القانون سوطاً على رقاب العمال, وقد تسبّب بتداعيات كبيرة تمثلت في حالة سخط عام وإضرابات عمالية شملت مختلف القطاعات.
لقد كان موقف قيادة المؤتمر العمالي موارباً فقد حاولت تقديم تنازلات للسلطات ودعت العمال للكف عن الاضرابات لأجل الحفاظ على الحركة النقابية, وفي الوقت نفسه لم تعترف بالقانون المعادي للعمال, غير أن القيادات النقابية الثورية واصلت تنظيم الاضرابات, بينما ظلت القيادة الاصلاحية التريديونينية تصوب جهودها نحو عقد اتفاقات بين النقابات وأرباب العمل من شأنها تخلي العمال عن الاضرابات.[44]
تواصلت إذن عملية تنظيم الإضرابات واتسع نطاقها, رغم وجود قانون يمنع الإضراب ورغم الموقف المتخاذل للقيادة الإصلاحية في المؤتمر العمالي. وكان من أبرز تلك الإضرابات: إضراب نقابة العمال والفنيين 1961م, وإضراب عمال المصافي 1962م, وإضراب المزارعين في لحج وأبين والعواذل ضد سيطرة الانجليز على السوق المركزية لبيع الخضار والفواكه 1961م, بالإضافة إلى الانتفاضة الطلابية في فبراير 1962م ضد السياسة التعليمية.[45]
وفي عام 1963م, نفذ عمال زراعيين في سلطنة الفضلي[46] بمحافظة أبين إضراباً شاملاً بسبب العسف الذي مارسه السلطان الفضلي بحق العمال الزراعيين.[47]
واجهت السلطات الاستعمارية هذه الإضرابات والانتفاضات بعنف وحشي, وقد سقط العشرات من الشهداء والجرحى, وزج بالعشرات من القيادات العمالية والعمال في المعتقلات, فيما تم نفي المئات إلى الشطر الشمالي, ومع كل ذلك لم تتمكن هذه الإجراءات القمعية من إخماد جذوة الاحتجاجات العمالية.
المؤتمر العمالي أمام مفترق طرق.. وبروز النقابات الست:
جاءت الأحداث والتطورات التي شهدتها المناطق الجنوبية منذ عام 1963م لتزيد من حدة الاستقطاب في أوساط الحركة النقابية وتضع المؤتمر العمالي على مفترق طرق, ويمكن تبيان ذلك من خلال موقفين هامّين:
الأول: انطلاق شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963م من جبال ردفان, وبدء سريان الكفاح المسلح بقيادة الجبهة القومية[48] ضد الاستعمار البريطاني, وقد أعلنت القيادات النقابية الثورية عن مساندتها لهذا الخيار, فيما وقفت قيادة المؤتمر العمالي على النقيض من ذلك؛ ووضعت رهانها على خيار المفاوضات مع الاستعمار.
ولما كشفت الأيام خطأ موقف قيادة المؤتمر العمالي, والتفاف الجماهير حول الجبهة القومية وخيار الكفاح المسلح حاولت قيادة المؤتمر العمالي أن تدارك الأمر. ففي منتصف عام 1965م, أعلن عبدالله الأصنج وجماعته عن حل حزب الشعب الاشتراكي[49] وتشكيل منظمة تحرير الجنوب المحتل, وقد ضمت هذه الجبهة قادة رابطة أبناء الجنوب العربي وعدد من السلاطين والمشائخ, وكان الهدف من وراء تشكيل هذه الجبهة هو مواجهة الجبهة القومية, لكن أتت الرياح بخلاف ما اشتهته جماعة الأصنج, وارتد الأمر عليها.
يعلق عمر الجاوي بالقول: لقد وضع هذا الحدث النهاية المؤسفة لقادة المؤتمر العمالي كونهم اشتركوا مع الرابطة التي تعتبر أكثر المنظمات رجعية في المنطقة, وانتهى معهم تاريخ من الخداع السياسي للعمال من قبل القادة.[50]
الموقف الثاني: في مايو 1965م نفذ أول عمل تضامني عمالي نظمته العناصر الثورية[51] في النقابة العامة لعمال البترول تضامناً مع عمال المصافي الذين تعرضوا للطرد من قبل إدارة الشركة, وكان عددهم (200) عامل, حيث امتنع العمال عن العمل ما تسبب بشل الحركة في عموم البلاد, فقد تعطلت المطارات والموانئ ووسائل النقل البرية في عدن وما كان يسمى المحميات الشرقية والغربية, وبذلك استطاعت النقابة من خلال هذه الخطوة أن ترغم إدارة شركة المصافي على إعادة العمال المطرودين ودفع رواتبهم كاملة. وقد مثلت هذه الخطوة البداية الفعلية لنشاط النقابات الست الثورية.[52]
اتخذت قيادة المؤتمر العمالي موقفاً سلبياً حيال هذه القضية وتخلّت عن العمال, وكشفت هذه الخطوة عن حاجة العمال لقيادة نقابية ثورية تتبنى قضايا العمال وتقف إلى صفهم, قيادة بديلة عن القيادة المتربعة على رأس المؤتمر العمالي.
كما أكدت هذه الخطوة على قيمة الوحدة النقابية والتضامن العمالي, فوعي العمال وتضامنهم ووحدتهم كفيل بإرغام الرأسمال المستغل للانصياع لشروطهم وتحقيق مطالبهم.
لقد كان من نتائج ذلك أن تغير التركيب الداخلي للمؤتمر العمالي, فمن التسعة الاتحادات التي تشكل قوام المؤتمر, انسحب ستة وسموا أنفسهم بالنقابات الست[53] وهي:
النقابة العامة لعمال البترول.
نقابة عمال وموظفي البنوك المحليين.
نقابة عمال وموظفي أمانة الميناء.
النقابة العامة للمعلمين.
نقابة عمال وموظفي اتحاد الطيران المدني.
نقابة عمال وموظفي البناء والانشاء والتعمير.
تكشف التجربة النضالية للنقابات الست عن دروس هامة في النضال الوطني وأساليب العمل بين الجماهير, وحري الاستفادة منها.
لقد حققت هذه النقابات الست انتصارات متتالية على القيادة التريديونيونية, واستطاعت كسب القاعدة العمالية العريضة وذلك بفعل العوامل الآتية:
دعم قادة النقابات الست لخيار الكفاح المسلح بقيادة الجبهة القومية منذ أول وهلة باعتباره الخيار الوطني الكفيل بتحقيق الاستقلال.
كسب العمال وذلك بسبب المواقف المبدئية التي اتخذتها قيادة النقابات الست, وتبنيها لقضايا العمال والوقوف في صفهم.
الأنشطة المتنوعة التي مارستها قيادة النقابات الست من إضرابات وخلافه وانخراطها في النضال السياسي الوطني, وعدم تقوقعها في النشاط المطلبي.
رفع شعار الوحدة اليمنية والاستقلال الوطني.
قيام قادة النقابات الست بنسج علاقات خارجية مع الاتحاد العمالي العربي وجامعة الدول العربية وتوضيح حقيقة الانقسام في المؤتمر العمالي, ومن ذلك على سبيل المثال: قيام قادة النقابات الست في يناير 1966م ببعث برقية إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية توضح فيه انتهاء شرعية قيادة المؤتمر العمالي استناداً إلى القانون الأساسي للمؤتمر الذي حدد نهاية الولاية القانونية للمجلس التنفيذي للمؤتمر نهاية 1965م.[54] وكان من نتائج ذلك أن دعا الاتحاد العام للعمال العرب قادة كل النقابات في عدن إلى القاهرة لإدارة حوار بينهم وقد تم الاتفاق على إجراء انتخابات لانتخاب مجلس تنفيذي جديد للمؤتمر العمالي, وقد أيدت النقابات الست هذا الاتفاق.[55] وهكذا أسدل الستار على الأصنج وجماعته وأصبح النقابيون الثوريون في صدارة المشهد النقابي.
في الحلقة القادمة سنتطرق إلى واقع الحركة النقابية الجنوبية خلال الفترة (1967 – 1990م).
يتبع…
الهوامش والإحالات:
[24] فيتالي ناؤومكين, مرجع سبق ذكره, ص50.
[25] عبدالله علي مرشد, مرجع سبق ذكره, ص112- 113.
[26] فيتالي ناؤومكين, مصدر سبق ذكره, ص50.
[27] عمر الجاوي, مصدر سبق ذكره, ص8.
[28] هامش: في فترة ما قبل الخمسينات وجدت أشكال بسيطة وعفوية من التجمعات العمالية, على نحو “جمعيات ونوادي عمالية” تعاونية ضمت أبناء مهنة واحدة أو أبناء منطقة معينة, وكانت تقوم بتقديم العون لأعضائها المحتاجين. وقد أنشئت أول جمعية وهي “جمعية النجارين” في العام 1935م. وتلتها بأربع سنوات في العام 1939م نشوء “جمعية الصلاوية” وضمت عمالاً من أبناء منطقة الصلو, كانوا يعملون في الميناء لنقل وتنزيل البضائع. كما أنشئت العديد من الأندية العمالية ذات الطابع المناطقي, مثل نادي العمال اللحجي, ونادي الأعبوس, ونادي الأثاور, ونادي المياسرة, وغيرها.( انظر: عبدالله مرشد, ص113, 114, 116) وفي كل الأحوال فإن الطابع القروي والتعاوني التقليدي لهذه الجمعيات والنوادي العمالية يختلف اختلافاً بيّناً عن التنظيم النقابي الحديث.
[29] بتصرف: عبدالله مرشد, مرجع سابق, ص118.
[30] عمر الجاوي, مرجع سابق, ص11.
[31] فيتالي ناؤومكين, مرجع سابق, ص50.
[32] عمر الجاوي, مرجع سابق, ص11.
[33] نفسه, 13.
[34] بتصرف: نفسه, ص 13, 14.
[35] د. أحمد عطية المصري, النجم الأحمر فوق اليمن, مؤسسة الأبحاث العربية, لبنان, ط3/ 1988م, ص86.
[36] عمر الجاوي, مرجع سابق, ص10.
[37] نفسه, ص14.
[38] نفسه, ص15.
[39] عبدالله مرشد, مرجع سابق, ص129- 130.
[40] الجاوي, مرجع سابق, ص16.
[41] نفسه, ص25.
[42] نفسه, ص26 و27.
[43] ينظر: عبدالله مرشد, مرجع سابق, ص139.
[44] فيتالي ناؤومكين, مرجع سابق, ص54-55.
[45] عبدالله مرشد, مرجع سابق, ص145- 146.
[46] إحدى السلطنات التي كانت القائمة إبان فترة الاحتلال البريطاني, كانت تمثل إقطاعية زراعية كبيرة تتبع السلطان أحمد عبدالله الفضلي ويزرع فيها القطن وتمون مصانع “لانكشتر” البريطانية بمادة القطن (مرشد, ص160. وبقدر ما شكل هذا الإضراب مؤشراً على تنامي وتوسع الوعي الطبقي لدى العمال الذي امتد إلى السلطنات الريفية المعزولة عن المركز الحضري والصناعي (عدن) والتي لا تزال تعيش في أوضاع القرون الوسطى. بقدر ما خلق حالة خوف ورعب لدى السلطات الاستعمارية ومواليها من السلاطين من تنامي هذا الوعي.
[47] عبدالله مرشد, مرجع سابق, ص160.
[48] الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل, تأسست في أغسطس 1963م, وتشكلت من المنظمات التالية: حركة القوميين العرب, والجبهة الناصرية, والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل, والجبهة الوطنية, والتشكيل السري للضابط والجنود الأحرار, وجبهة الاصلاح اليافعية, وتشكيل القبائل.
[49] كان الدافع وراء تأسيس حزب الشعب الاشتراكي في يوليو 1962م هو تخوف الأصنج وقيادة المؤتمر العمالي من نفوذ الماركسيين المتعاظم في النقابات, لاسيما بعد إعلان تأسيس اتحاد الشعب الديمقراطي بزعامة عبدالله عبدالرزاق باذيب في 22 أكتوبر 1961م (ينظر: فيتالي ناؤومكين, مرجع سابق, ص57.) وقد كان حزب الشعب الاشتراكي هذا بمثابة فاترينة لمؤتمر عدن للنقابات بحسب توصيف عمر الجاوي.
[50] عمر الجاوي, مرجع سابق, ص64.
[51] هامش: كان من أبرز العناصر الثورية: عبدالله عبدالمجيد السلفي, ومحمد صالح عولقي, وعبدالله علي مرشد, والملح, والعوبلي, والطيطي وغيرهم.
[52] بتصرف: عبدالله مرشد, مرجع سابق, ص173 و174.
[53] عمر الجاوي, مرجع سابق, ص63.
[54] نفسه, ص77.
[55] نفسه, ص84.