المواطن/ كتابات – طه العزعزي
لقد حسم الأمر
لدي الآن مايكفي من الكتب اللذيذة لرمضان الآتي في ظل هذه الحرب القذرة ، ولكن كعادتي سأحافظ على نفسي وعلى سلامة أفكاري هذه ، سأحافظ على نفسي من السوائل الفكرية الخاطئة كي لايتلف هذا الرأس فيصبح ثقيلاً وبلا وظيفة ، سأحافظ على ذاتي في رمضان هذا الآتي في ظل الدمار والجوع والحرب اللامنتهية ، سأرى ماسألتهم جيداً ، وبالطبع سأكون صديق نفسي وهذه الكتب فقط ، أنا لا أصدقاء لي سوى هذه الكتب ، سأكتب في رمضان ” هذا ” ولو قصيدة وقحة أو قصة طازجة أجرب فيها بعض الشتائم والفضائح المالحة ، لكن كعادتي لن أكتب لأحدهم الوعظ كما الآخرين في هذا الشهر ” الكريم ” ، فقط يكفي أن أحدثه عن الإنسانية ، أظن هذا يكفي وأن دوري هنا لن يكون شاق كما تظنون .
لم أعد صالحاً للفرح أو الفرح ” ليس مهنتي ” كما يذهب الماغوط ، في رمضان هذا سأقرأ الماغوط ، ببؤسه وتحيته وبسمته الصغيرة وبدمعته أيضاً ، سآوي في الرصيف كالمشردين الذين كان الماغوط أحدهم ، يذكرني الماغوط كثيراً بالأرصفة ، وكم أنا سأكون مخادعاً في رمضان القادم هذا حين أخذل هذه الأرصفة ، حقاً أنا لست كالماغوط أحَبَ هذه الأرصفة كثيراً ، لست مثله تماماً ، هي الأخرى خذلتني ، لم تكن لي رغم هذا التشرد والبؤس ، إنها كهذا الوطن ” التعيس ” ليست لي تماماً ، ليست لهذا الكاتب الليلي ، الكاتب المثخن بالجروح ، الكاتب الناعم الحيلة والمتسع الصدر ، ليست لهذا العَبث واللامُستقر في أحايين كثيرة ، ليست له ، إنها تخونني هي الأخرى ، هي لهؤلاء الأوغاد الذين أحالوا حياتنا إلى جحيم ، لم يبق وطن ، لم يبقى رصيف ، كل شئ صار في قبضة هؤلاء المجرمين الذين دفعوا بنا وبهذا الوطن صوب الهاوية .
حقاً نحن بحاجة للعيش ، ” نحن ” فقط بحاجة للعيش ، من نَحن أصلاً ؟ ! ، لم يعد يهمني هذا السؤال ، ولا أستطيع الإجابة عنه الآن ، ولكنني مدرك كدرويش أن ثمة من ” يستحق الحياة ” في هذه الأرض ، هؤلاء الآخيرون يعيشون بالحب كل دقيقية وثانية ولايتوقفون لحظة عند كل ألم أو رصاصة طائشة ، هم مثلي تماماً يجمعنا الحب وتنبذنا هذه القواميس الجافة التي تفرق وتنبذ وتقتل أيضاً ، إنه الحب وكَم هو كبير ، حقاً هو كبير جداً ، ومن دونه نحن لاشئ ، نقاوم به ، وننتصر به أيضاً ، نعم ننتصر ولكن على نحو مختلف ، إنه الحب وهذا يكفي .
في رمضان هذا ، أنا الكائن القلق بقدومي الأسطوري رغم أنف هذه الحرب ، أحب أن أُرحب بالجميع هنا بعد هذا الخراب المؤسف : مرحبا بالدموع التي لاتغادر أعينكم أيها الأوغاد ، أحب أن أطمئنكم الآن ، العهر مايزال باقياً ، السقوط المخيف والانحدار الإنساني أيضاً مايزال باقياً ، طهطاوي مايزال كعادته مزعج حتى بكتاباته الفوضوية ، مجرد أنف دائخ يفكر فيما يعنيه ، لافتةً ناعسة قبل كل منعطف خطر ، صوت مرتفع حينما يتعلق الأمر بالحرية ، قدم تتحرك صوب لاحياة سعيدة ، جرحٌ عميق تشعله دمعة مالحة ، فضيحة تتمدد بساقيها النحيلتين أمام الأدعياء ، كاتبٌ ذو العشرين عاما والأربعين وجع ومايزال هنا .
أُحب القراءة ، أحبها كثيراً وأفضلها في الليل ، هنا حيث الهدوء النسبي ، والقلق يتلكأ في قلب كل نافذة أطل عليها ، أستطيع الكتابة في ظل هكذا حياة ، وأفضلها على أشياء كثيرة ، في رمضان هذا سأقرأ رواية ” مصحف أحمر ” للعملاق محمد الغربي عمران ، أيضاً سأعيد قراءة رواية العملاق وجدي ” أرض المؤمرات السعيدة ” للمرة الثانية ، سأقرأ روايات سودانية كثيرة ، يذهلني الأدب السوداني وأحترم صناعه ، كبار وقامات عظيمة وقلوب بيضاء عملاقة ، سأقرأ كتاباً لسيف الرحبي في النقد ومجموعة قصصية للقاص اليمني العملاق محمد عبدالولي ، ساقرأ كتاب ” كنائس النقد ” للناقد التونسي الكبير عبدالدائم السلامي ، وسأقرأ أيضاً في الفلسفة الماركسية ، ومجموعة شعرية للشاعر والسياسي المعروف محمد عبدالوهاب الشيباني ” نهار تدحرجه النساء ” أيضاً سأقرأ لأدونيس وجابر عصفور وسيوران ودستوفوسكي وبوكفسكي كتابه ” الأدب الرخيص ” ، سأقرأ هؤلاء ولن أتقيأ كوزراءنا ولصوصنا الكبار بعد كل وجبة تتكرش وتنتفخ فيها بطونهم بأذءٍ قبيح .
سأحسم الأمر في رمضان هذا ، سأكمل مجموعتي الشعرية الأولى المعنونة سابقاً بي ” صوب حدود رصاصة وأبعد من ذلك ” ، سأكمل مشواري على شرط بسيط ، هو ألا أتخطى الضوء أو ألهث ورائه ، لاتعنيني الشهرة فأنا مجرد بسمة تنطفيئ كل لحظة ، أيضاً لاتعنيني الأضواء فهي غالباً ماتسلط على اللصوص ، مايعنيني أكثر هو تأصيل فكرة المقاومة عن طريق الكلمة التي بدأ بها العظماء الكبار من الكتاب والفلاسفة والمفكرين والصحفيين وغيرهم من أصحاب الكلمة ، مايعنيني هو كيف أُخرج وجعي من أعماقي الداخلية على هيئة كتابة ، كيف أتحرر ، كيف أبكي بحب وأحياناً بوقاحة ، كيف أزهو كأن لا أحد يعرفني جيداً في الخراب ، كيف أحطم الجفاف وأبتعد عن التقاليد الجنونية ، كيف أهزم خوفي الآن وقبل الآن ، كيف أضحك كأني لست أقصد إيذاء أحد في هذا العالم لمجنون .
لابد من كتابة جديدة وقراءة جديدة وأيضاً من رمضان جديد ، الكتابة هي نفسها ، تكرارية وبشعة ، هذا مايقوله الواقع بكل صراحة ، البعض يجيد توظيف المساحيق على لغته ، والبعض الآخر يتساهل هنا وهناك في مسائل عميقة وحساسة وهذا هو الأخطر ، وآخرون أصبحوا في الرخاوة والهشاشة كقطع البسكويت المصابة بالبلل ، ولكن رغم هذا كله مايزال في النقيض من هذا الدمار من يتماسك حين يكتب ، هؤلاء قليلون ، ولكن الكلمة ليست قليلة ، الكلمة الغير زائفة بحر أول السطر وآخره وحيثما هي ، هنا تظهر الكلمة الحقيقية ، إنها غير هذه الكلمة التي تتعفن وتتشوه على نحو مخيف ، التي تفقد وزنها الحقيقي ولاتكون في مكانها الصحيح والتي تتكرر بإزعاج مخيف في كل إتجاه .
هناك قراء سريعون يهرولون كالبعض من مثقفي جيلنا هذا ، يحلمون بأن تكون لهم آراء مضافة وسمو في المجالس وعلى الطاولات ، فقط كما هي عادتهم يظلون يمطون في كلمات وأقوال المشاهير وفي أسماء الكتب التي قراؤها ، يتشاجرون إذا تعلق الأمر بمناقشة جادة حول أبسط المسائل وأتفهها ، منجرون مطبلون إذا تعلق الأمر بالتحدث ، خونة الثقافة هؤلاء يقرأون على حسب أذواقهم فقط ، أنا أيضاً أقتنع بذوقي الخاص وأحترمه ولكني لست كهؤلاء القراء ، أقرأ كل شئ وفي كل إتجاه ، حتى عناوين الأسواق الشعبية ولافتات المحلات التجارية والشوارع العامة ، أقرأ كثيراً من الكتب ولكن هذا لايمنع من أن يكون لي إنطباعي وقناعتي الخاصة و الحادة في نقد هذا الكتاب أو ذاك ، أو في الإعجاب بهذا الكتاب وذاك ، أقرأ بعفوية أحياناً وأحياناً بتوجس وخيفة ولست كالكرسي ثابتاً لا أتحرك ولا أتكلم وليس لي أي ذوق .
هاهو رمضان يتقدم رغم هذا الفشل الخانق كالإسراف ، هاهو يأتي بقبعة جديدة وبقدمين تعرفان الطريق جيداً ، هاهو الآن ربما لايضحك لي لأني لا أعجبه تماماً ، هو مثلي لا يهضم هذه البسمات الحزينة ولا يكلمها إطلاقاً ، وهو أيضاً يمنع عني كبقية الشهور هذه الوجبات السريعية والموائد الفاخرة ، ليس وحده الشهر الذي يسرف في منعي ، من يسرف في منعي كثيرون حتى هذا الشارع لذي أخرج إليه كل صباح لأجد لافتةٍ هنا مكتوب عليها ” ممنوع المرور ” وثانية مكتوب عليها ” ممنوع الجلوس ” وأخرى مكتوب عليها ” ممنوع الوقوف ” ، تطاردني هذه الكلمات وأنا كذلك ، أطارد نفسي معها ، أطاردها بإتجاه آخر كما أريد ، فليأتي رمضان سأهضم هذه الكتب الكثيرة ، وفيه أيضاً ساقدم للآخرين وجبات سريعة من الأفكار والقصائد ، سأحدث الجميلات أنني نادمٌ ، سأخون الإدعاءات الخاطئة وعضوي الذكري ، سأخون الحياة وهذه الأنماط السائدة واليابسة كالخشب الجاف ، سأحترف ضياعي حتى آخر يوم من رمضان ، وبعد رمضان هذا . لاشئ جديد ، أنا أيضاً مازلت ضائعاً.