المواطن/ كتابات – د/ ياسين سعيد نعمان
مع تطاول الازمة اليمنية ودخولها العام الخامس منذ أن سيطرت المليشيات الحوثية على صنعاء وانقلبت على الشرعية الدستورية والتوافق الوطني في خريف عام ٢٠١٤، أخذ الوضع السياسي المقاوم للانقلاب يتفكك بخطاب محتقن باليأس والتشكيك والملاعنة .
هذا الخطاب منقسم على نفسه ، وهو وإن بدا أنه تعبير عن حالة من التراجع المعنوي الذي رتبته أمور عديدة ، كتلك التي بدت مغايرة لما كان يجب أن يكون عليه وضع الائتلاف الذي تصدى ويتصدى للإنقلاب العنصري الغادر ، إلا أننا يمكن أن نقرأ من بين ثناياه عدداً من الأفكار التي يجب إعادة بنائها بشكل هادئ بعيداً عن الانفعال أو التحدي المناقضان لصخب هذا الخطاب ، وما يحدثه من تفكيك وارباك على كل الأصعدة .
وبداية لا بد من التأكيد على أننا أمام أزمة مركبة بأبعاد سياسية – إجتماعية تم جرها إلى الوضع الذي غدت فيه أزمة وطنية بمضمون يتداخل ويتشابك بقوة مع المشروع الطائفي الذي صمم بموجب استراتيجية إيرانية هدفها دفع المنطقة برمتها إلى كارثة الانقسام الطائفي ، بما يرتبه ذلك من صراعات وحروب داخلية لا تنتهي .
بعد هذه السنوات من المواجهة يطرح السؤال الاول الجوهري وهو لماذا استطاع الحوثيون إعادة صياغة معادلة الصراع لتلتحم بالمشروع الطائفي الايراني على نحو لا يترك أي إمكانية لحل سلمي يستعيد المشروع الوطني لبناء الدولة ؟
للاجابة على هذاالسؤال لا بد من التطرق إلى جملة العوامل التي أبقت الوضع في حالة من المراوحة التي كرست إستقطاب الازمة في إطار هذا المشروع الطائفي تساوقاً مع ما يسعى الانقلابيون على تحقيقه من نتائج . فالحوثيون يعتمدون في سيطرتهم على ما تحت أيديهم من البلاد على عدد من العوامل الأساسية :
١-القمع وحملات البطش والتصفية في الجزء الذي يسيطرون عليه من البلاد وخاصة المناطق الحية : تعز ، البيضاء ، الجوف، دمت ، الحقب ، الحشاء، وأخيراً حجور ، مع كل ما قدمه رجالها ونساؤها من بطولات هي مثال على ذلك . ويتجه الحوثيون في نفس الوقت إلى إشعال الفتن والصراعات بين القبائل وتزويد أطراف الصراع بالسلاح والمال ، وهي سياسة قديمة لشغل الناس وإلهائهم واللجوء إليهم لحل النزاعات .
٢- تدافع عوامل الانقسام الطائفي ، الذي تقوده إيران في المنطقة ، لتشكيل حالة من الاستقطاب المتجاوز لحدود الجغرافيا-السياسية جعل من الحوثيين إمتداداً دينامياً لهذا المشروع ، حيث بات الدعم المادي والمعنوي الذي يتلقونه من البؤر التي تعمل على نحو طائفي ضمن المشروع الإيراني في المنطقة عنواناً لإرادة “لا يجوز أن تنكسر” على حد تعبير أحد منظريهم .
٢- إستمرار حالة اللا حرب واللا سلم ، مع قدر من المواجهات هنا وهناك والتي تشتد حيناً وتخفت حيناً آخر ، واستخدامها من قبلهم للتضليل الداخلي ومواصلة التعبئة لمواجهة ” العدوان” بتعبيرهم ، بما يوفره لها ذلك من مناخ لتكريسه باستخدام عامل الزمن كأحد محددات كسر الناس وتطبيع الانقلاب في هذا الجزء من البلاد الذي يقع تحت أيديهم .
٣- التناقضات التي تعيشها الجبهة الواسعة من القوى التي إئتلفت لمقاومة الانقلاب واستعادة الدولة ، وأخفقت في إيجاد “الحامل السياسي” للمقاومة كإسناد طبيعي للشرعية التي تجسد السلطة المعترف بها داخلياً وخارجياً .
٤- الجانب الانساني المتدهور ، والذي أخذ يوظف على نحو “منافق” لدفع المجتمع الدولي إلى الظغط بقبول الانقلاب كأمر واقع ، يكون من نتيجته تسوية يخرج منها الانقلابيون وقد حققوا مشروعهم الطائفي .
٥- تداخل جملة من العوامل التي لا يمكن إهمالها حينما يتعين أن ننظر إلى الخارطة السياسية للمشكلات التي رتبتها سنوات من حكم نظام كان سبباً في تكسير المشروع الوطني على النحو الذي انتج أكثر من مشكلة في آن واحد .
٥- تشوش الرؤيا من مخاطر المشروع الإيراني في المنطقة بسبب الخلافات التي عمت المنطقة ، وهو ما ترك آثاراً سلبية على الجهد الذي كان يجب أن ينتهي بصياغة استراتيجية واضحة لحماية الدولة الوطنية على صعيد المنطقة وتطويرها بما يؤسس لتكامل سياسي واقتصادي وأمني يحمي مصالح شعوبها ويحافظ على ثرواتها ومقدراتها وأمنها الجيو سياسي .
إن العامل الأشد تأثيراً من بين جملة هذه العوامل هو ذلك المتعلق بالتناقضات التي تعيشها الجبهة الواسعة من ائتلاف القوى التي قدر لها أن تتحمل مسئولية مواجهة الانقلاب والتصدي لهذا المشروع .
لسنا بحاجة إلى القول أن هذه التناقضات قد وصلت في المرحلة الراهنة إلى درجة ملحوظة من الخطورة التي لا بد من التوقف أمامها بشيء من المصداقية لبحث أسبابها والإجابة على أسئلة هي من صميم إصلاح هذا الوضع وتجاوز إشكالياته .
لا يكفي أن نواصل لعن وشتم هذا الحال والتنديد به دون الخوض بجدية في تدارس الأسباب الحقيقية التي أدت إليه ، كما أن البحث عن ضحية ، كما قلنا أكثر من مرة، لن يغير من الأمر شيئاً سوى أننا نكرر السير في الطريق الذي تعودناه حينما تشتكل علينا الأمو وتتعقد . فبدلاً من تفكيك المشكلة لمعرفة أسبابها الذاتية والموضوعية فإننا نختار أقرب “سايلة” لنرمي فيها أوجاعنا وهمومنا .
نحن أمام وضع يطرح أمامنا أكثر من سؤال ، فإلى جانب السؤال السابق يبرز سؤال آخر مكمل له وهو : هل هناك من يعتقد أن الحوثيين سيوافقون على عقد سلام ينهي إنقلابهم ويمنع قيام الدولة الطائفية التي يسعون إليها دون تفييرات جوهرية على الأرض؟
الإجابة بكل وضوح هي “لا” ، إذا لم يتغير الوضع على الأرض ، وهو الوضع الذي صنعوه بالقوة !! الحوثيون يعملون على مستويين : السيطرة الكاملة ، أو الدولة الطائفية التي ستشكل بالنسبة لهم خيار التفاوض فيما لو بقيت الأوضاع على ما هي عليه .
المستويين أحلاهما مر .
وهذا يعني أنه لا خيار أمام قوى هذا الإئتلاف الوطني لإستعادة بلدهم ودولتهم ومستقبلهم سوى أن يتمسكوا بهذا الائتلاف الواسع مع كل كل ما يعتوره من إشكاليات ، والنظر بجدية فيما يمكن إصلاحه من أعطاب في آليات عمله ، وإكسابه ديناميات الفعل القادر على إنتاج شروط أفضل للعمل .
إن الخطاب الراهن يشوش المشهد بأكمله ، ولا يسمح بالبحث الجاد في إصلاح الخلل بعيداً عن الحسابات الجاهزة ، والمواقف المعززة بالانحيازات السياسية المجردة .
ومع ما يرافق ذلك من دوافع لتحويل الصراع الرئيسي إلى صراعات جانبية فإنه لا يدل ، في أحسن الأحوال، على إدراك حقيقي للتداعيات التي سينتهي اليها الحال في حالة استمراره على هذا النحو .
لقد بات هذا الخطاب ، على ما به في كثير من الأحيان من حنق وحرص وغيرة ، مثار قلق ، فمن شأنه أن يفضي إلى تكريس حالة اليأس وتبيئتها في الوعي الاجتماعي كأحد شروط تطبيع الانقلاب والذي سيؤدي بالنتيجة إلى تكريس خيارات للحل تضع اليمن على مسار لن يفضي بها إلا المزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار