فهمي محمد
المواطن – كتابات
ثورة الــ14من اكتوبر ” إنتصار شعب وهزيمة امبراطورية ” ذلك ما قاله احد ثوارها الرفيق المناضل ” محمد سعيد عبدالله محسن ” في كتابه القيم عن هذه الثورة العظيمة والمطبوع تحت هذا العنوان الذي يحمل دلالآت وقيمة الحدث الثوري في الــ14/ من اكتوبر على المستوى النضالي للشعب اليمني وكفاحه في سبيل التحرر من قوى الاستعمار والرجعية وهيمنة الإمبرالية العالمية ، التي اكتسحت شعوب العالم الثالث بقوة الحديد والنار ، بحثا عن الثروات والمواد والاسواق بكل الوسائل المتوحشة التي أفرزها النظام الرسمالي بصورته الامبريالية العالمية .
ومع ان الفعل الثوري ” للذئاب الحمر ” على حد وصف ” المقالح ” والذي انطلقت شرارته من جبال ردفان بقيادة الجبهة القومية ، قد حقق هذا الهدف التحرري لثورة ال14/ من اكتوبر 1963/ في جنوب الوطن اليمني ، وبالشكل الذي اجبر قوى الاستعمار والامبريالية البريطانية على أن تحمل عصاها وترحل من جنوب اليمن ، وذلك حدث تاريخي محل فخر واعتزاز في الذاكرة الكفاحية والنضالية لليمنيين جميعاً ، إلا أن ماهو اهم في انجازات ثورة اكتوبر المجيدة والذي يجعلنا نصفها ” بالحدث التاريخي ” يكمن في نجاح سلطة الثورة في تطبيق مشروعها الثوري في مرحلة مابعد الثورة وفي ممارساتها الناجحة للقيم الثورية والوطنية والوحدوية على مستوى الواقع الاجتماعي حيث نجحت بشكل كبير في تغيير قاع المجتمع في جنوب اليمن ، رغم وجود بعض الاخطاء التي صاحبت التجربة الثورية ، عكس ما حدث في ثورة 26 / سبتمبر/ والتي أميل الى وصفها بالحدث السياسي مع الاحتفاظ بالقيمة السياسية والاجتماعية والتاريخية لها في اليمن بشكل عام .
الحديث عن ثورة 14اكتوبر المجيدة من زاوية الحدث التاريخي الذي أقصده هنا والذي مثلته هذهِ الثورة في تاريخ اليمن الحديث ، يعني تجاوز الحديث عن أحداث هذه الثورة عسكريا او عن أسبابها أو حتى الحديث عن فعلها العسكري أبان الكفاح المسلح في مواجهة قوى الاحتلال البريطاني رغم أهمية ذلك ( فقد كتب الكثير عن ذلك ) بل ما يعني هنا هو الحديث في النضال الثوري المتواصل الذي خاضته حكومة الثورة بقيادة الجبهة القومية وبأدوات سلطة الثورة في سبيل تغيير واقع الانسان في جنوب اليمن اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا إنطلاقاً من الايمان الحقيقي بالمشروع الثوري الذي صاغته القوى الثورية بغية النجاح في خلق واقعاً جديد نحو المستقبل في جنوب اليمن
فنجاح أي سلطة ثورية في تغيير أي واقع إجتماعي وقدرتها على تجذير قيم المشروع الثوري في أعماق هذا الواقع هي التي تعطي التوصيف الدقيق للحدث الثوري ، بكونه يمثل حدثاً تاريخياً قادرا على صناعة التحول التاريخي في المجتمع نحو المستقبل ، وهو ما نجده في ثورة 14 اكتوبر ، او بكونه يمثل حدثاً سياسياً فحسب حين تعجز الثورة او سلطتها عن صناعة التحول التاريخي وهو ما حدث في ثورة 26/ سبتمبر رغم اهمية هذه الثورة السبتمبرية الخالدة على مستوى الحدث الثوري في اليمن .
عندما نجح الفعل الثوري لثورةالــ14من اكتوبر 1963/ في هزيمة الغزاة في الــ30من نوفمبر 1967/ وتسلمت الجبهة القومية السلطة في عدن ، كان الجنوب اليمني يعيش حالة من التقسيم والتشرذم على المستوى السياسي إلى اكثر من 22 سلطنة ومشيخة مستقلة وكل واحدة منها تحمل علم دولة مستقلة ، بل كان جنوب اليمن يعيش حالة من التمزيق الشديد في الهوية الجامعة (على سبيل المثال وليس الحصر) بين من يدعو إلى الهوية العدنية = ( عدن للعدنيين ) وأخر يدعو إلى الهوية الحضرمية = ( قيام دولة حضرمية مستقلة ) وثالثا يدعو إلى هوية جنوبية = ( قيام دولة مستقلة في الجنوب بدون إعتراف بهوية يمنية ) ورابعا يدعو إلى هوية يمنية = ( قيام دولة في الجنوب تسعى للوحدة مع شمال اليمن ) هذا التشرذم المخيف في المشروعات الصغيرة على المستوى السياسي داخل الهوية الجامعة ، قد انعكس سلبياً على وحدة المكون الاجتماعي والثقافي في جنوب اليمن قبل الثورة ، لا سيما وقد ساهمت الحدود السياسية لتلك السلطنات واطماع السلاطين في الحكم ، على بقاء وتكريس هذا الانقسام والتمزيق الذي مثل التحدي الاول امام سلطة الثورة حيث تم مواجهة ذلك بسياسة صارمة
فكما لم يقبل الفعل الثوري في اكتوبر إحتشاد القوى التقليدية في حركته الثورية ضد المستعمر وحتى تلك القوى السياسية المترهلة عن فكرة الكفاح المسلح ، كذلك لم تقبل سلطة الثورة حضور هذه القوى التقليدية بكل أشكالها في سلطة الثورة ولم تتخذ سياسة التماهي والمهادنة مع هذا الواقع التقليدي المُختل في الجنوب كما حدث من قِبل قيادات الثورة في شمال اليمن حيث تم إعاقة التحول الثوري والتاريخي من داخل سلطة الثورة منذو إنقلاب 5/ وبشكل تدريجي ممنهج وصلت معه الأمور إلى ما وصلنا إليه اليوم من إنقلاب سياسي ليس على السلطة بما تحمله من بقايا شكلية لجمهورية مفرغة المحتوى والمضمون فحسب ، بل ذهب الى الانقلاب على فكرة الجمهورية والثورة وتجريمها كثقافة وسلوك ومعنى ليس على مستوى الحدث الثوري في ذاكرة الماضي تاريخيا ، ولكن في وعي الحاضر كممارسات اجتماعية سلالية مذهبية وعصبوية قبلية متخلفة يتم إحيائها بهدف إعاقة حركة المستقبل كصيرورة نحو التقدم ونحو بناء وطن للجميع في أرض اليمن .
نعود ونقول على العكس مما حدث في سلطة الثورة في سبتمبر في الشمال ، مارست قيادة الثورة في ثورة 14 اكتوبر في الجنوب وبوعي شديد سياسةً ثوريةً صارمة وجذرية في مواجهة الواقع السلبي بكل مظاهره .
فعلى المستوى السياسي نجحت سلطة الثورة بقيادة الجبهة القومية ، في القضاء على جميع السلطنات والمشيخات والغت حدودها السياسية وآثارها المتجذرة على المستوى الجغرافي والاجتماعي كموروث سياسي ( انجلو سلاطيني ) يعول عليه في التقسيم والتمزيق لليمن الجنوبي ، وبهذا النجاح خضع كامل التراب في جنوب اليمن لسلطة الدولة ونظامها المركزي ، كما تم بسط سيادة النظام والقانون على كل المحافظات وعلى كل مواطن في الجنوب ، حيث اصبح الإلتزام بالنظام والقانون في دولة الجنوب محل شهادات وإعتراف حتى من قبل المعارضين للتجربة الثورية في الجنوب
واذا كان ابن خلدون في مقدمته وهو يتحدث عن واقعنا العربي يقول بإستحالة قيام الدولة بدون عصبية ، فإن سلطة الثورة بقيادة الجبهة القومية نجحت ايضاً على المستوى السياسي في تأسيس بناء الدولة ومؤسساتها على مفهوم عصبي حداثي حزبي ، يتقاطع جذرياً مع ما يفرزه واقع المجتمع من عصبية تقليدية ” قبلية ومذهبية وطائفية وعشائرية او سلالية ” تتقاطع بطبعها وجوهرها مع مفهوم الدولة ، فكانت سلطة الثورة في الجنوب بهذا التأصيل الحداثي للقيم السياسية في المجال السياسي عام لا تتماها مع المكونات السلبية في الواقع الاجتماعي ولا تُعد انعاكساً سلبياً لوجودها في الواقع ، واكثر من ذلك نجحت سلطة الثورة في 14/ اكتوبر في إحداث تحول تاريخي على مستوى الهوية الوطنية الجامعة والتي تم التأصيل الثقافي والسياسي والاجتماعي ( الإنجلو سلاطيني ) على تمزيقها لاكثر من قرن
فقد نجحت سلطة الثورة بشكل كبير في صهر الهويات الجزئية المترسخة في الواقع لصالح الهوية الواحد الجامعة تاريخياً وهي الهوية اليمنية الجامعة لكل المكونات السياسية والاجتماعية في الجنوب ، وتم تأصيل ثقافة الانتماء لليمن الواحد بشكل ممنهج وبسياسة موجهة من قبل الحزب الحاكم ، وبالشكل الذي جعل كل مواطن في الجنوب يشعر بروح الانتماء المطلق للهوية الوطنية اليمنية ويطوق في نضاله السياسي لتحقيق الوحدة اليمنية كمنجز تاريخي لشعب اليمني الواحد والموحد عبر التاريخ
وفي سبيل تجذير الهوية الجامعة في الجنوب على أساس هوية وطنية يمنية واحدة عملت سلطة الثورة في الجنوب على تغيب المسميات الجزئية بما في ذلك المسميات الطبيعية للجغرافيا مثل اسماء المحافظات والتي تم إستبدال مسمياتها في الخطاب الرسمي على مستوى السياسي والادراي بالارقام ( المحافظة رقم 1 والمحافظة رقم 2… ) حتى لاتخلق المسميات ” حضرمي عدني… ” انتماءت جزئية ضيقة على حساب الهوية اليمنية الواحدة والجامعة ، وقد تجسد هذا التأصيل والتجذير للهوية اليمنية من قبل سلطة الثورة في الجنوب على مستوى المسمى العام لدولة ” جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ” وفي مسمى الحزب الحاكم ” الحزب الاشتراكي اليمني ” الذي تأسس على أساس ثلاث فصائل في الجنوب وخمس فصائل في الشمال، عكس ما حدث في الشمال والتي لم تكن تعاني من دعوات تمزيقية على مستوى الهوية الجامعة إلا أن سلطة الثورة بعد ذلك عملت على تجسيد الهويات الجزئية جهوية ومذهبية وقبلية ومناطقية وهي التي شكلت هويات جزئية ممانعة امام نجاح عملية التحول التاريخي ، بل واعاقة بناء الدولة التي مازال اليمنيون بعد 56 عام من الثورة يبحثون عنها.