معاذ عبدالفتاح الصوفي
دكتوراه في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي
صدر في 9 أكتوبر 2025 تقرير State of AI 2025 الذي يُعَدّ من أكثر التقارير انتظارًا وقراءةً في العالم، إذ يرصد سنويًا حالة الذكاء الاصطناعي عالميًا على المستويات التقنية، الاقتصادية، والحوكمة. حيث تصف النسخة الحالية عام 2025 بأنه عام الانتقال من الانبهار بالتقنية إلى التطبيق الواقعي، حيث تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة توليد للنصوص والصور إلى منظومة قادرة على التفكير والتخطيط والتحقّق الذاتي.
ويشير التقرير إلى أن التطوّر الأبرز خلال هذا العام هو تحسّن قدرات النماذج في ما يُعرف بـ”التفكير المتسلسل” (Chain-of-Thought)، أي قدرتها على تحليل المخرجات على مراحل للوصول إلى نتائج أكثر دقة. كما رصد التقرير تحوّلًا ملحوظًا في بنية الأنظمة الذكية: فبدلًا من الاعتماد على نموذج عملاق واحد، تتجه الشركات إلى دمج عدّة نماذج متخصّصة تعمل بتناغم لزيادة الكفاءة وتقليل التكلفة. إلا أن هذا التقدّم لا يخلو من المخاطر. فبعض النماذج، بحسب التقرير، باتت تُظهر مايسمى ب “التوافق المزيّف” (Fake Alignment)، أي أنها تبدو ملتزمة بالضوابط الأخلاقية أمام المستخدم، لكنها قد تُخفي سلوكًا غير متوقّع أو متحيّزًا في ظروف معينة.
من الجانب الاقتصادي، يؤكد التقرير أن الذكاء الاصطناعي لم يعد حكرًا على شركات التكنولوجيا الكبرى. فقد ارتفعت نسبة الشركات التي تدفع فعليًا مقابل استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي إلى نحو 44% من إجمالي الشركات الأمريكية مقارنة بـ5% فقط قبل عامين. وبحسب التقرير، تتراوح قيمة العقود المتوسطة في هذا المجال بين نصف مليون إلى مليون دولار، ما يعكس دخول الذكاء الاصطناعي مرحلة الإيرادات الفعلية لا التجريبية. كما أوضح التقرير أن الشركات التي تبني أعمالها على الذكاء الاصطناعي منذ البداية (AI-First Companies) تحقق نموًا أسرع، في حين بدأت مؤسسات تقليدية في قطاعات البنوك، التعليم، والصناعة في دمج الذكاء الاصطناعي ضمن عملياتها اليومية.
و تُظهر بيانات التقرير أن الطلب الهائل على الحوسبة جعل الطاقة والبنية التحتية الرقمية أحد التحديات الكبرى أمام توسع الذكاء الاصطناعي. حيث تواجه مراكز البيانات ضغطًا في التبريد واستهلاك الكهرباء والمساحة، بينما تتسابق الدول والشركات لتأمين شرائح المعالجة المتقدمة مثل H100 وA100. ويحذّر التقرير من أن مشكلات الطاقة والبيئة قد تصبح العقبة التالية في طريق الذكاء الاصطناعي، تمامًا كما كانت الشرائح هي العقبة في السنوات الماضية.
و يرصد التقرير سباقًا ثلاثي الأبعاد بين الولايات المتحدة، الصين، وأوروبا: الولايات المتحدة تركز على جعل الذكاء الاصطناعي ركيزة استراتيجية وطنية في الأمن والاقتصاد. و تسعى الصين إلى تقليص الفجوة التقنية بسرعة، وتقدّم مختبرات مثل DeepSeek وKimi وQwen نماذج قادرة على منافسة أنظمة غربية مثل GPT-5. بينما يواجه الاتحاد الأوروبي صعوبات في تطبيق قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act)، وسط انتقادات بأنه معقّد ويُبطئ الابتكار.
يتوقّع التقرير أن يشهد عام 2026 تطورات نوعية في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
1. وكلاء الذكاء الاصطناعي (AI Agents) سيصبحون أكثر استقلالية في إنجاز مهام بحثية أو علمية دون إشراف بشري مباشر.
2. الطاقة والبيئة ستصبحان محور جدل سياسي حول مواقع مراكز البيانات واستهلاك الكهرباء.
3. الابتكار العلمي قد يشهد مساهمة فعلية من نماذج الذكاء الاصطناعي في اكتشافات أو ربما تطوير أدوية جديدة.
ويرى التقرير أن منطقة الشرق الأوسط تملك فرصًا واعدة في سباق الذكاء الاصطناعي بفضل قدراتها الاستثمارية العالية. حيث أن دول مثل السعودية والإمارات وقطر تبني بالفعل مراكز بيانات ضخمة وتستثمر في الأبحاث والتدريب. لكن التقرير يحذّر من الاعتماد الكلي على الشركات الأجنبية، داعيًا إلى بناء قدرات محلية في تطوير النماذج وتدريب الكفاءات العربية.
وبناء على ما ورد في التقرير ولمواجهة هذا التداعيات والتقدم المتسارع في هذا المجال يمكن استخلاص عدد من التوصيات والفرص للمنطقة العربية والشرق الأوسط على وجه التحديد كالتالي:
1. الاستثمار في المواهب: تأسيس برامج تدريب وأبحاث متخصصة في هندسة النماذج والبيانات.
2. البيئة المستدامة: وضع معايير خضراء لمراكز البيانات للحد من استهلاك الطاقة.
3. حوكمة الذكاء الاصطناعي: إنشاء أطر رقابية وطنية لضمان الاستخدام الآمن والمسؤول.
4. تشجيع الشركات الناشئة المحلية: دعم رواد الأعمال في بناء حلول AI موجهة للغة العربية والأسواق الإقليمية.
ويختتم التقرير برسالة واضحة:
“لم يعد الذكاء الاصطناعي وعدًا مستقبليًا، بل أصبح بنية تحتية استراتيجية تشبه الكهرباء والإنترنت.”
لكن الطريق نحو 2026 يتطلب توازنًا بين الطموح والرقابة، وبين التسارع التقني والضوابط الأخلاقية.
فالمستقبل، كما يقول التقرير، لن تحدده أقوى النماذج، بل أكثرها انسجامًا مع الإنسان والمجتمع.






























