فهمي محمد
الثورات ضد الحكام وسلطتهم السياسية تتشابه في الأسباب والدوافع الكامنة وراء اندلاعها، لكنها تتميز فيما بينها في مسألة حضور الوعي السياسي، الذي يجعل المجتمع في بعض الثورات طرفا في معادلة الصراع لصالح فكرة التغيير في هذا البلد دون الآخر.
في مقولة «أنا الدولة» للويس الرابع عشر ملك فرنسا، نجد تلخيصا مكثفا لأسباب الثورة الفرنسية، ومشروعيتها تجاه سلطته السياسية، بمعنى آخر كان الفرنسيون قبل الثورة بحاجة إلى نظام جمهوري ودولة وطنية ديمقراطية تتجاوز السلطة السياسية لآل لويس الحاكمين، وهي المشكلة نفسها التي يواجهها اليمنيون منذ اندلاع ثورة سبتمبر وأكتوبر، وحتى الثورة الثالثة التي يخوض اليمنيون مساراتها المتعرِّجة بفعل تناسخ الانقلابات السياسية والعسكرية عليها.
اليمنيون، رغم كثافة الفعل الثوري والتضحيات الجِسام، منذ سبعة عقود، لم ينتصروا سياسياً لفكرة الدولة الوطنية الديمقراطية التي يجب أن تتجاوز سياسياً مفهوم السلطة السياسية التاريخية.
فالثورات في اليمن كما لو أن قدرها تتعرّض للانقلابات أو للثورات المضادة، التي تعيد إنتاج سلطة اللا دولة، هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية إذا كنا نجد في مقولة «أنا وبعدي الطوفان» للويس الخامس عشر تعبيرا مكثفا لفداحة الجريمة السياسية، التي يرتكبها الحاكم منذ أن يتولَّى مقاليد السلطة السياسية وحتى اليوم، التي يغادر فيها كُرسي السلطة على إثر ثورة أو انتفاضة شعبية تطيح به، فإن جُل الحكام في اليمن هم الأكثر ارتكابا للجريمة السياسية في حق الشعب اليمني بالمعنى الذي تجسّده مقولة “أنا وبعدي الطوفان”، كمنهج سياسي للبقاء في السلطة.
مفهوم “أنا وبعدي الطوفان” يعني أن مغادرة الحاكم في هذا البلد، أو في تلك سوف يعقبها انهيار كبير أو تام للمنظومة السياسية والأمنية وحتى العسكرية؛ هدم المعبد عليَّ وعلى أعدائي، أو بمعنى آخر ينتقل المجتمع إلى الفوضى والمستقبل المجهول كما هو الحال في اليمن بعد رحيل الرئيس صالح، الذي خاطب اليمنيين مراراً وتكراراً بمفرداته السياسية {اليمنيون سوف يتقاتلون، اليمن سوف تتصومل، الجنوب سوف ينفصل…الخ}، وهي مفردات سياسية خطابية ليست تحذيرية حانية، أو حريصة على اليمنيين، بل هي تهديدية توعدية تجسّد شخصية لويس الخامس عشر وفلسفته السياسية في إدارة السلطة الحاكمة.
عيون السلطة السياسية عندما تلاحظ بأن جنين الثورة بدأ في التشكَّل (وهو تشكّل تدرك السلطة أكثر من غيرها أنه لم يولّد من فراغ بل يولّد من رحم المعانات التي يعيشها المجتمع في ظلها)؛ يبدأ الحاكم في مقابلة هذا التشكّل الثوري بالتلويح السياسي الذي يذهب فيه إلى حد تخيير شعبه بين قبول سلطته السياسية السيِّئة وبين مستقبل أسوأ ينتظرهم بعد رحيله تحت مقولة “أنا وبعدي الطوفان”.
وهي مقولة يجد الحاكم في هذه البلاد، أو في تلك، مفرداتها السياسية والخطابية؛ انطلاقاً من خصوصية الجرائم السياسية التي ارتكبها خلال سنوات حكمه في حق شعبه، لاسيما وهو يدرك مآلاتها الكارثية، التي سوف تحول المشهد بعده إلى طوفان يغرق الجميع، فهي في الأساس صنيعته “اللا وطنية”، التي أراد بمآلاتها السياسية والاجتماعية عقاب شعبه في حال إن تم الخروج على سلطته السياسية.
الحديث عن ارتكاب الجريمة السياسية في هذه المقالة يعني الحديث عن الحاكم الذي أراد أن يكون هو الدولة، وليس مجرد رئيس للدولة، كما هو الحال مع لويس الرابع عشر، الذي قال للفرنسيين “أنا الدولة”، وهذا الصِّنف من الحُكام يعمل دائما على تزويد سلطته السياسية بمزيدٍ من عناصر القوّة والغلبة والنفوذ والهيمنة السياسية حتى تتمكّن سلطته السياسية من ابتلاع الدولة ككيان سياسي وطني، ناهيك عن ابتلاع مؤسساتها المدنية والعسكرية والقانونية.
وهو في سبيل تحقيق ذلك، يسخّر سلطته السياسية في ضرب الفرص التاريخة المتاحة أمام شعبه للانتقال إلى المستقبل، الذي يجب أن يكون، كما يستخدم في الوقت نفسه سياسة التهميش والإقصاء وسياسة “فرّق تسد”، ويكرّس الفساد في أجهزة السلطة، ويلعب على المتناقضات السياسية والاجتماعية، ويوظِّفها ضد بعضها البعض في الوقت نفسه.
يفتعل الحروب من أجل البقاء في السلطة، ويتحالف في حروبه اللا وطنية مع المكوّنات الممانعة لفكرة الدولة، والمعادية للمشروعات الوطنية، يخلق بأدواته وسلطته السياسية مئات الثعابين للإكثار من نسخته الشخصية داخل المجال السياسي والاجتماعي.
ثم يحكم على رؤوس هؤلاء الثعابين كما لو أنه – وحده – البطل القادر على إدارة كُرسي السلطة والحُكم في هذه البلاد دون غيره، في حين أن وجوده على رأس السلطة السياسية قد أصبح -مع هكذا حال- مسألة توافقية مطلوبة لهؤلاء الثعابين اللا وطنيين الذين وإن كانوا يرون في وجوده كبحا لجموحهم السياسي الشخصي لكنهم في حال رحيله سوف يتقاتلون ويقتلون الشعب في سبيل السيطرة على السلطة وغنائمها؛ خصوصاً مع عدم وجود دولة حاكمة على رؤوس هؤلاء الثعابين، وقادرة في الوقت نفسه على بسط سيطرتها وسلطتها على كامل المكون الإنساني والجغرافي بعد رحيل شخص الحاكم، أو حتى في حال قدوم هذا الحاكم – اللويسي – على تسليم سلطته السياسية والعسكرية لمن هم أسوأ منه للانتقام من شعبه الذي رفض أن يمنحه وأسرته صك الحكام المؤبدين على حاضر ومستقبل هذا المكون الإنساني والجغرافي.
بمقياس الوعي السياسي الثوري المطلوب دائما في معركة التغيير والتقدّم في أي بلد لم يتحوّل بعد إلى دولة ووطن، كم هو مؤلم أن يأتي من يحتجون بخطاب الحاكم الذي خاطب شعبه بحدوث الاقتتال، أو الانقسام، أو التشظي، أو حتى انتقال المجتمع إلى واقع ينعدم فيه الأمن والأمان، ناهيك عن أن لسان هؤلاء المحتجين تقول إن ثورتكم أو خروجكم كان خطأ تاريخيا في حق هذا الحاكم؛ بدليل أننا وصلنا إلى ما كان يحذّرنا من حدوثه!
مع أن ما حدث وتحقق بعد رحيل هذا الحاكم هو عبارة عن مآلات ونتائج للجريمة السياسية التي ارتكبها في حق شعبه خلال فترة حكمه، فأقل ما يقال في حق هذا الحاكم إنه عمل -طول فترة حكمه- على تفخيخ المجال السياسي والاجتماعي، وتحويل المجالين إلى قنابل موقوتة يتم ترحيل انفجارها فقط بمقدار الزمن الذي يقبل فيه الشعب وجود سلطته السياسية الحاكمة.
ثم تنفجر بعد ذلك؛ نتيجة أن هذا الحاكم لم يستخدم -أثناء حكمه- سلطته السياسية ومسؤوليته الوطنية في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تحكم ككيان سياسي وطني بعد رحيله كشخص على رأس السلطة، ولم يستخدم سلطته السياسية ومسؤوليته الوطنية في بناء جيش وطني قادر على حماية الأمن والاستقرار، والدفاع عن سيادة الدولة، والسيادة الوطنية، بعد رحيله، ولم يستخدم سلطته السياسية ومسؤوليته الوطنية في معالجة القضايا الوطنية والاحتقان السياسي والاجتماعي في ظل وجوده على رأس السلطة، ولم يستخدم سلطته السياسية ومسؤوليته الوطنية في محاربة الفساد المالي والإداري حتى لا يتحول الفساد -خلال فترة حكمه- إلى ثقافة مجتمع.
ما يعني في النتيجة النهائية أن الحاكم، الذي لا يستخدم سلطته السياسية ومسؤوليته الوطنية في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ومؤسساتها السياسية والعسكرية، هو الحاكم القادر دائما على أن يقول لشعبه مهدداً “أنا وبعدي الطوفان”، أو إنكم “سوف تذهبون إلى المجهول بعدي”، وهو صادق فيما يقول، لكن تحقيق ذلك يعني الجريمة السياسية في حق الشعب، وليس الخطأ التاريخي في حق هذا الحاكم، الذي جسّد شخصية لويس الخامس عشر في إدراة الحكم.