د. محمد قحطان
تواصلا مع مقالتنا السابقة بعنوان (( الحصار وتعميق الانقسام الاقتصادي ))، نستأنف مناقشتنا لهذه الفقرة، على النحو الآتي :
لقد أدت الحرب إلى انقسام البنك المركزي بين سلطتين : أحدهما في عدن والأخرى في صنعاء. وهذا الانقسام أدى إلى انقسام الجهاز المصرفي ثم انقسام للعملة الوطنية . حيث صار للريال اليمني شكلين : أحدهما الشكل القديم السابق لمرحلة نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن مع احتفاظ بنك مركزي صنعاء بنشاطه كبنك مركزي وبالتالي خلق هذا الانقسام وجود سعرين لصرف الريال اليمني. أحدهما في مناطق نفوذ سلطة عدن وآخر في مناطق نفوذ سلطة صنعاء.
وهذا الوضع شكل وضعا في غاية الصعوبة للتحويلات النقدية والتبادل التجاري الداخلي في إطار الدولة اليمنية الواحدة. وبنفس الوقت أدى لخروج الجهاز المصرفي عن سيطرة الدولة. فلا السلطة الشرعية قادرة على إدارة الجهاز المصرفي ومواجهة التقلبات الاقتصادية والحفاظ على استقرار سعر العملة الوطنية ولا سلطة الأمر الواقع في صنعاء قادرة على مواجهة انهيار الوضع الاقتصادي والمعيشيي للسكان في منطق نفوذها بالرغم من فرضها سعرا ثابتا لصرف الريال المتداول في مناطق نفوذها مقابل الدولار طيلة سنوات الحرب الماضية منذ إعلان نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن وانقسام الريال اليمني وسعر صرفه مقابل العملات الأجنبية .
ومع استمرار هذا الانقسام صار من المستحيل تعافي الدورة الاقتصادية استئناف الأنشطة الاستثمارية . حيث أن الجهاز المصرفي منهار وخارج الدورة الاقتصادية وهو الجهاز المتحكم بتشغيل هذه الدورة. كما تراجع النشاط المصرفي بصورته الطبيعية المعروفة في عموم البلاد وبرزت ظاهرة انتشار محلات الصرافة كبديل للجهاز المصرفي. وهذه المحلات تزاول أعمال مصرفية محدودة بالتحويلات والمتاجرة بالعملات الأجنبية، خارج إطار الجهاز المصرفي الأساسي ، المتمثل بالبنك المركزي والبنوك التجارية، كما تحولت بعض المصارف لبنوك إسلامية شكلا وفي المضمون فإنها تمارس مهنة محلات الصرافة لا أكثر ولايمكنها شغل الفراغ الذي تركته البنوك التجارية . الأمر الذي أخرج الجهاز المصرفي اليمني عن النظام المصرفي العالمي وصار من الصعب الحفاظ على بقائه، خصوصا بعد أن عجزت البنوك التجارية عن الوفاء بحقوق المودعين بالسحب من أموالهم المودعة قبل الحرب بحجة تجميد أرصدة البنوك لدى البنك المركزي في صنعاء وعجز بنك عدن عن اتخاذ سياسات فعالة لمواجهة هذه المشكلة، وبالتالي فقدت البنوك ثقة المودعين وتوقفت عمليات الإيداع للحسابات الادخارية وهو أمر يشير إلى تعطيل آلية الادخار التي بدونها لا يستطيع أي اقتصاد تعويض الاهلاكات وتنمية التراكم الرأسمالي لمواجهة تزايد الحاجات الإنسانية لمواطني الدولة. ولذلك فقد استمر النشاط الاقتصادي بالتدهور وتحجم دور البنوك بعمليات محدودة للغاية كما أقفلت بعض البنوك ألتجارية أبوابها وبخاصة ذات الطابع الاستثماري الدولي واضطربت أسواق النقد الأجنبي وخرجت تماما عن سيطرة البنك المركزي المعترف به دوليا. ويعني ذلك غياب الدولة عن ممارسة أي دور فاعل، مباشر أو غير مباشر في توجيه السوق النقدية ومواجهة انفلات محلات الصرافة وتعافي الوضع الاقتصادي والحفاظ على استقراره .
وترتب على ما أشرنا إليه فشل البنك المركزي في عدن في مواجهة تدهور سعر صرف الريال اليمني في مناطق نفوذه بالرغم من الدعم الإقليمي والدولي الموجه لهذا الغرض وبنفس الوقت عمل بنك مركزي صنعاء على استحداث نظاما جديدا لجهازه المصرفي تمثل بإلغاء آلية عمل البنوك التجارية تحت مبرر العمل بالتشريعات الإسلامية من خلال سن قانون منع التعامل بالفوائد الربوية وبالتالي الإجهاض الكامل على الجهاز المصرفي الأساسي في مناطق نفوذه، الأمر الذي أثر سلبا على مجمل مكونات الجهاز المصرفي بما فيها المكونات العاملة في مناطق نفوذ بنك مركزي عدن نظرا لأن البنوك التجارية التقليدية العريقة بالعمل في اليمن كانت ولازالت تتخذ من صنعاء مركزا لإدارة فروعها في المحافظات.
ونتيجة لذلك فقد تعمق الانقسام الاقتصادي بين مناطق نفوذ عدن ومناطق نفوذ صنعاء وأدت لتراجع مستمر للأنشطة الاقتصادية واشتداد حالة الركود التضخمي للاقتصاد اليمني وصار يتعمق يوما بعد الآخر مع غياب الدور الفاعل لكل من حكومتي عدن وصنعاء. الأمر الذي يحتم من وجهة نظرنا تظافر جهود كلا السلطتين والعمل على :
إنهاء انقسام البنك المركزي وتوحيد سعر العملة الوطنية. والعمل بسياسة نقدية واحدة. وذلك من خلال الإسراع بتوقيع وثيقة التفاهمات الجارية بخصوص مواجهة هذا الوضع. إذ أن الوضع الاقتصادي والإنساني في عموم البلاد قد وصل لأدنى مستوياته من التدهور والانهيار. وأي تباطئ بهذا الخصوص سيكون له نتائج كارثية على الوضع الاقتصادي والإنساني الموصوف حسب المنظمات الدولية بأنه الأسوء على مستوى العالم. وسيؤدي ذلك إلى تعزيز الانقسام السياسي والجغرافي والإضرار بالوحدة الوطنية.
أ.د.محمد قحطان
14 ديسمبر 2023