فهمي محمد
على إثر حرب صيف 1994م ، أصبح الفعل السياسي الديمقراطي تجاه الواقع السياسي والإجتماعي ، قابل للمصادرة حتى نظام صالح الذي انتصر عسكرياً على الوحدة اليمنية “السلمية” أصبح غير قابل للإتساع السياسي تجاه حلفائه السياسيين والعسكريين الذين شاركوه سيناريو حرب 1994م تحت مزعوم الدفاع عن الوحدة اليمنية ، فقد استطاع صالح بعد الإنقلاب على المرجعيات السياسية الوحدوية ، وعلى حاملها السياسي والشريك في دولة الوحدة ، أن يسيطر على قيادة الجيش والأمن ، بل أسس ألوية ومعسكرات ضارية داخل المؤسسة العسكرية ، أصبحت تخضع لقيادة الضباط من عائلته ، مثل ألوية الحرس الجمهوري والحرس الخاص التي كانت تخضع لقيادة أحمد علي ، وكذلك معسكرات الأمن المركزي التي تخضع لإبن أخيه يحيى وبعض المعسكرات المستحدثة تحت هذا أو ذاك من أسرة صالح التي أرادت لهذا الإسم أن يتخذ موقعه الجديد في القاموس السياسي بما يجعلها أي عائلة صالح صاحبة السيادة في تاج السلطة الحاكمة ، على حساب بيت الأحمر التي كانت صاحبة السيادة منذ عقود .
مثل هذا التحول اللا وطني في تركيبة الجيش وإن كان من جهة أولى قد عمل بنسبة كبيرة على زحزحة مقاليد السلطة السياسية الحاكمة في اليمن ، من يد القبيلة السياسية الجهوية إلى يد الأسرة أو العائلة ، إلا أنه في نفس الوقت خلق تركيبه ثنائية فيما يتعلق بالولاء السياسي والعقيدة القتالية داخل مؤسسة الجيش بحيث أصبحت معسكرات الفرقة موالية لعلي محسن وألوية الحرس الجمهوري موالية لصالح ونجله ، ومن جهة ثانية إذا كان مثل هذا التحول يعبر عن رغبة السلطة الحاكمة منذ عام 1990 على ابتلاع دولة الوحدة ، إلا أن ذلك كان يعني في نفس الوقت أن سلطة الرئيس صالح هي السلطة الأكثر توجهاً في مسارها السياسي العام نحو إفراغ محتوى النظام الجمهوري بحيث أصبحت معها الجمهورية اليمنية التي تأسست مع حدث الوحدة عام 1990م ، على نظام الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة بين أبناء الشعب اليمني ومكوناته السياسية ، أصبحت على وشك التحول الحقيقي إلى جمهورية وراثية على غرار ما حدث في سوريا ، مع الفارق أن سلطة الجمهورية في سوريا لم تكن مقيدة في مسار توجهها المستقبلي بأي مرجعيات سياسية وإلتزامات دولية تجاه الحفاظ على الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ، وهذا بحد ذاته كان كافياً في استحقاق حدث ثورة يعمل على إعادة محتوى النظام الجمهوري ومكتسبات الوحدة اليمنية التي صادرتها سلطة الرئيس صالح على المستوى السياسي فقط ، ناهيك عن الوضع الإقتصادي والفساد المالي والإداري.
بخصوص شرعية الرئيس قد يقال أن صالح كان يتم انتخابه عن طريق صناديق الإقتراع ، ما يعني عدم جواز الفعل الثوري تجاه رئيس شرعي تم انتخابه عن طريق الديمقراطية التنافسية في أكثر من جولة انتخابية تمت في الموعد المستحق ، إلا أن استخدام الرئيس صالح لأجهزة السلطة والمال العام وحتى الإعلام لصالحه في تلك الإنتخابات ، بل ضد المنافسين له بما كان يجعل من هؤلاء المنافسين لا يواجهون صالح وحزبه السياسي كما هو الحال في الدول الديمقراطية بل يواجهون السلطة الحاكمة ونفوذها السياسي والعسكري والمالي والإعلامي وهي أدوات يجب أن تكون محايدة في عملية الإنتخابات الديمقراطية ، كل ذلك كان بحد ذاته ضرب للديمقراطية والتعددية السياسية الحزبية والتداول السلمي للسلطة ،
لهذا كان الرئيس صالح يلجأ في كل ولاية من ولايته الثانية والأخيرة دستورياً ، إلى استخدام أغلبية حزبه “العددية” في مجلس النواب وذلك لإجراء تعديلات دستورية تعبر عن حاجته كحاكم مستبد في تملك مقاليد السلطة الحاكمة للأبد ، ولا تعبر عن حاجة النظام الديموقراطي أو المجتمع للتغير السياسي والإجتماعي تجاه المستقبل ، سيما وقد كانت مثل تلك التعديلات الدستورية تجعل من انتهاء ولايته الثانية والأخيرة – قانونياً ودستورياً – بداية جديدة لتولي منصب الرئاسة في ولاية أولى جديدة وهكذا دواليك كان نظام صالح يجيد إفراغ محتوى النظام الديمقراطي ويسقط مبدأ التداول السلمي للسلطة ، الذي كان يمثل أهم مكتسبات الوحدة اليمنية في عام 1990 ، هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية كان صالح بدافع الإستبداد السلطوي وجموحه السياسي اللا محدود في السيطرة على مقاليد السلطة ، حريص كل الحرص على أن يكون حزب المؤتمر الشعبي العام حزب السلطة الحاكمة ولا تكون السلطة هي سلطة الحزب الحاكم ، بدليل نورده هنا على سبيل المثال وليس الحصر أن أغلبية حزب السلطة في مجلس النواب ذهبت على لسان زعيمها للقول بنزع عداد الديمقراطية ، أي منح الرئيس صالح سلطة دائمة على حساب مبدأ التداول السلمي للسلطة وتلك مألات ناتجة عن حزب السلطة وليس عن سلطة الحزب .
مع إمكانية الحديث بشكل مفصل في إشكالية هذه المفارقة التي جعلت حزب السلطة بلا مشروع وطني ديمقراطي ، إلا أن ما يهم في هذه المقالة أن الرئيس صالح أراد من حزب المؤتمر الشعبي ومن الجيش والأمن وأجهزة السلطة الأخرى أن يكونوا أدوات نفوذ وهيمنة بيد سلطته السياسية العائلية وليس بيد سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية ، التي يفترض أن تكون هي الكيان السياسي الحاكم بموجب المرجعيات السياسية التي قامت عليها الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه .
هكذا كان صالح يخلق ضرورة الثورة بل يعترف في خطاباته السياسية بوجود أسبابها كما سيأتي في موضوع الحلقة الثالثة
يتبع….