عيبان محمد السامعي
لم تتسبب الحرب الدامية المستمرة منذ مارس 2015 بأسوأ أزمة إنسانية على مستوى العالم كما وصفتها تقارير أممية، مُخلِّفة خسائر فادحة في الأرواح تجاوز تِعدادها عشرات الآلاف من اليمنيين أطفالاً ونساءً ورجالاً ومسنين، وخراباً مادياً هائلاً طال البنى التحتية والمؤسساتية والاقتصادية ونسق العلاقات الاجتماعية وحسب؛ بل إنها قد أحدثت خراباً نفسياً وذهنياً لا حدود له.
لقد فعلت الحرب فِعلتها بعقول الكثيرين إلى درجة أنّ هؤلاء لم يعودوا يعرِّفون أنفسهم إلا عبر موشور هوياتهم القزمية: القبلية والطائفية والقروية والجهوية والعائلية على حساب الانتماء الوطني وقيم المواطنة والتعايش والهوية الوطنية الجامعة.
وما يزيد الأمر قتامةً واسوداداً أن هذا السلوك “الشاذ” يصدر غالباً عمن يوصفون بأنهم طليعة المجتمع من المثقفين والأدباء والكُتَّاب والصحفيين والحقوقيين والسياسيين والناشطين… إلخ!
هكذا هو الحال، فعندما يبلغ الانحطاط ذروته فإن أمراض المجتمع تطفو على السطح، والحرب هي ذروة الانحطاط ومصدر كل البلايا والشرور، بالنظر لما أفرزته طيلة الـ 8 السنوات العِجاف من استقطابات وما خلقته من سيكولوجيا اجتماعية استدمجت الحرب وأنتجت قيم وممارسات شوهاء لم نكن نعرفها ولم يكن في تصوّرنا يوماً أننا سنصادفها في حياتنا!
تُشَرِّح هذه المادة بمِبضع نقدي استخدام مصطلح “الهاشمية السياسية”، كما يظهر في بعض الكتب التي صدرت مؤخراً، وفي بعض الكتابات الصحفية، وفي المنشورات التي تعجّ بها منصات السوشيال ميديا، وتبيّن خطأ استخدام هذا المصطلح لاعتبارات كثيرة.
بادئ ذي بدء، يمكن التمييز بين فريقين من الكُتَّاب ممن يستخدمون هذا المصطلح، فالفريق الأول: يستسهل استخدام مصطلح “الهاشمية السياسية” بدون فهم أو تمحيص، وبدون تقدير لعواقب استخدام مثل هذا المصطلح؛ لما من شأنه أن يكّرس المنطق الطائفي في العقل الجمعي ويزيد من حِدة الشِقاق والتذرير المجتمعي.
يبدو لي أن “الكسل الذهني” والاستغراق في المنطق الشكلي المأخوذ بإقامة ثنائيات متقابلة هو ما يُوقِع هذا الفريق في مُنزلق استخدام مصطلح “الهاشمية السياسية”.
سنضرب صفحاً عن هذا الفريق، لأن الدوافع تبدو بريئة. وسنركز على الفريق الثاني الذي يستخدم هذا المصطلح بوعي ولأغراض ليست بريئة! وقد وصل الحال بأعضاء هذا الفريق أن قاموا بنسج أساطير وخيالات حول ما يسمّوها “الهاشمية السياسية”. وقد صدرت مؤخراً كتباً تحمل عناوين، مثل: “القبيلة الهاشمية.. ألف عام من الدم” للصحفي سام الغباري، و”التنظيم السري للهاشمية السياسية” للكاتب رياض الغيلي، وأعيد نشر كتاب قديم بعنوان “خيوط الظلام.. عصر الإمامة الزيدية” لعبدالفتاح البتول وغيرها من الكتب، فضلاً عن العشرات من المقالات الصحفية والمنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي والتي تنضح بالطائفية والجهوية بشكل غرائبي لا يمكن فهمها إلا من قبيل التراجيديا السوداء أو المسرح العبثي!
لا يحتاج المُطلّع على هذه الكتابات إلى عناء كبير لكي يلمس النزعة الطائفية الفاقعة فيها، فهي لا تقدّم معرفة حقيقية ولا نقداً علمياً للظاهرة الطائفية؛ بقدر ما تعمل على إثارة الضغائن واستثارة النوازع الغريزية.
يدّعي مثل هؤلاء بأنّ الدافع وراء كتاباتهم هو شحذ أقلامهم لتمزيق أستار الطائفية الكهنوتية والذود عن النظام الجمهوري، لكنهم ــ ويا للعجب ــ يقفون على أرضية طائفية مُقابِلة، هي أبعد ما تكون عن القيم الجمهورية ومقتضياتها المواطنية والتعددية وحق الاختلاف.
ولكي لا يكون الحديث مُرسَلاً، نشير إلى ما كتبه أحد هؤلاء: بُعيد ثورة 26 سبتمبر 1962وقيام النظام الجمهوري في شمال اليمن، لجأ “الهاشميون” إلى وضع استراتيجية جديدة للملمة شتاتهم بعد انهيار النظام الإمامي، وقد نتج عن ذلك تأسيس “المجلس الأعلى لحكماء آل البيت” عام 1971 على يد أحمد محمد الشامي الذي كان وزيراً لخارجية الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، وأن هذا المجلس قد ضمّ في قوامه أبرز القيادات “الهاشمية”، ومنذ ذلك التاريخ يقوم المجلس بأدوار خفية ويرسم السياسات الهادفة إلى استعادة مُلك “بني هاشم” الضائع! وغيرها من الخزعبلات السياسية!
إنّ هؤلاء يتعاطون مع السياسة بمنطق السحر والخرافة. يريدون تصوير السياسة وكأنّها نسجٌ من المؤامرات، وأنّ ثمة أيادٍ خفية ترسم مسار التاريخ وتتحكّم بمصائر البشر.
تحضُرني هنا خرافة أخرى، هي خرافة “بروتوكولات حكماء صهيون” التي تعدّ أكثر شبهاً بخرافة صاحبنا. فقد صُوِّر لنا أن هذه “البروتوكولات” تمثل الأجندة الخفية التي تتحكّم من خلالها الحركة الصهيونية بالعالم! وفي الحقيقة هذه “البروتوكولات” ما هي إلا وثيقة معادية لليهود مصدرها المخابرات القيصرية الروسية، ونشرت في القرن التاسع عشر وكان الهدف من ورائها، شيطنة اليهود وتخويف الروس منهم!
إن ممارسة السحر في السياسة لا تعيق التوصل إلى فهم علمي للوقائع وللظواهر فحسب، بل تعمل على إشاعة الخوف في أوساط الشعب وتثبط عزيمته في تغيير واقعه، فتبث فيه روح الانهزام وتجعله مستسلماً “للأقدار المكتوبة”!
ينطوي استخدام مصطلح “الهاشمية السياسية” على أخطاء وهنّات عديدة، يمكن إجمالها على النحو الآتي:
أولاً: “الهاشميون”، من المنظور السوسيولوجي، لا يشكّلون طبقة/ فئة/ شريحة اجتماعية واحدة ومنسجمة. فالواقع يقول بأن “الهاشميين” متعددون في مواقعهم الطبقية، فمنهم الأغنياء أصحاب الأراضي والأملاك الكبيرة التي ورثوها أباً عن جد، ومنهم الطفيليون الذين ارتبطوا بالسلطة وأثروا من خلالها بطرق غير مشروعة، ومنهم المنحدرون من الطبقة الوسطى ويمتهنون المهن العصرية مثل: الطب، والتعليم، والقضاء، والسلك الدبلوماسي، والصحافة والإعلام، والكتابة والإبداع الثقافي، والمهن الفنية والهندسية… إلخ. ومنهم الفقراء والمُعْدَمون، وحال هؤلاء كحال غالبية جماهير الشعب المُفقَرة، يعيشون في أوضاع بائسة تفتقر لمقومات الحياة الكريمة، وفي تقديري أن القسم الأخير يمثلون النسبة الكبرى من “الهاشميين”.
ثانياً: “الهاشميون” ليسوا بكتلة سياسية متجانسة، فمن الصعب وضع كل “الهاشميين” في قالب سياسي واحد، فهم متعددون في انتماءاتهم السياسية، ويتوزّعون على مختلف الأحزاب السياسية، وهناك من لا ينتمي إلى أي حزب سياسي ولا ينشغل بالسياسة، بل يكفر بها كفراً بَوَاحاً..!
وبالقدر ذاته، يختلف “الهاشميون” في التوجهات الفكرية؛ فمنهم اليساري، ومنهم اليميني، ومنهم الليبرالي، ومنهم القومي، ومنهم الإسلامي، ومنهم العلماني، ومنهم الطائفي، ومنهم القبيلي، ومنهم الرعوي، ومنهم المتجاوز لكل التعبيرات الطائفية والتفريزات الفئوية.
وليس في هذا الأمر تكتيكاً كما يبالغ البعض، بل هو ناتج عن حقيقة وجودهم الاجتماعي، بحسبانهم مكوّن اجتماعي، مثله مثل المكونات والجماعات الاجتماعية الأخرى في المجتمع اليمني التي تنطوي في داخلها على تناقضات وعلى تنوّع لا حصر لهما.
ثالثاً: بخصوص ما يتعلق بالصراع الجاري في اليمن، يصعب فرز “الهاشميين” كقوة سياسية واحدة تتخذ مواقف سياسية متماثلة من الحرب وأطرافها؛ بل هناك مواقف مختلفة تختلف تبعاً لاختلاف اتجاهات الأفراد، فهناك من “الهاشميين” من يقفون مع الحكومة الشرعية وضد الانقلاب، وهناك من يوالون الانقلاب ويناوئون الحكومة الشرعية، وهناك المحايدون ممن لا يقفون مع هذا الطرف ولا مع ذاك، وهناك الانتهازيون الذين لديهم الاستعداد الكامل لتغيير ولاءاتهم وفق اتجاه الريح!
هذا الاختلاف في المواقف السياسية ليس ابن اليوم، بل يمثّل حقيقة تاريخية ساطعة، فعلى سبيل المثال: كان “الهاشميون” يمثّلون نسبة 80% من قوام تنظيم “الضباط الأحرار” الذي فجَّر ثورة 26 سبتمبر 1962 ضد النظام الإمامي في شمال اليمن بحسب شهادة اللواء عبدالله جزيلان (1936 – 2010) أحد أبزر قيادات الثورة السبتمبرية [2].
رابعاً: استخدام مصطلح “الهاشمية السياسية” ينطوي على خطورة كبيرة، لأنه يعمل على فرز أفراد المجتمع وتصنيفهم بناءً على أصولهم العرقية، وخلفياتهم الأهلية، وليس بناءً على مواقفهم السياسية وأنماط سلوكهم وهوياتهم الفردية كمواطنين محكومين بشروط المواطنة والدستور والقانون.
إنّ مثل هذا التفريز يعمل على تفكيك اللُّحمة الداخلية للمجتمع، وتقويض النسيج الاجتماعي، وينزلق بالمجتمع إلى “حرب الكل ضد الكل”، ناهيك على أنه يتساوق مع الأجندة الخارجية الامبريالية الهادفة إلى تذرير المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا اليمني، إلى كانتونات ودويلات طوائفية وقبائلية ومناطقية.[3]
خامساً: القول بـ “الهاشمية السياسية” لا يمثل استعداءً لمكون اجتماعي يمني ينطوي على اتجاهات سياسية وفكرية متباينة وحسب؛ بل إنّه قولٌ ينطلق في مواجهة المشروع الطائفي للحوثية من منطلق طائفي مضاد!
ولا غرابة أن يكون أكثر المتحمسين لتسويق واستعمال “الهاشمية السياسية” هم المنتمين إلى الحركات الدينية المضادة للحوثية من السلفية والإخوانية، لأن المنطق الطائفي يتسق مع مدخلاتهم الأيديولوجية، ويوفّر لهم ممكنات مثالية لتعبئة المؤيدين والأنصار وعامة الناس على أساس أيديولوجي ــ طائفي، وتأليّبهم على الآخر، مُستغِلّين العاطفة الدينية التي تَجيْشُ بها صدور عامة الناس. لهذا يَدأبُون على تصوير الحرب القائمة على أنها حرب مقدسة تتغيّا “حماية الدين والعقيدة والسنة المُطهّرة” من خطر “الرافضية/ الهادوية/ الجعفرية/ الشيعية”… إلخ. في الوقت الذي تصوّر الحركة الحوثية الحربَ على أنها حرب ضد “النواصب/الوهابية/ الداعشية/ التكفيرية”!
واقع الحال إن الصراع الجاري، هو صراع سياسي بامتياز، حتى وإن تلبّس بلبوس طائفية أو مناطقية، وهدفه السيطرة على مواقع السلطة والثروة، والتحكّم بمصير البلاد والشعب.
سادساً: الترويج لمصطلح “الهاشمية السياسية” يقدّم خدمة جليلة للحركة الحوثية؛ لأن الحوثية تستثمر مخاوف “الهاشميين” وأبناء “الجغرافيا الزيدية/ منطقة شمال الشمال” بصورة عامة إزاء مستقبلهم السياسي، وأن البديل سيكون جحيماً لهم، وأنه سيُمارَس عليهم أعمالاً انتقاميةً في حال انهزمت وانتصر الطرف الآخر.
توظّف الحركة الحوثية تلك المخاوف بصورة رهيبة، ويساعدها في ذلك عدة عوامل:
إخفاق السلطة الشرعية في تقديم رسائل تطمينية لأبناء “المنطقة الزيدية” حيال مستقبلهم السياسي كشركاء في يمن المستقبل.
صدور خطاب طائفي وجهوي ومناطقي من بعض مسؤولي السلطة الشرعية ووسائل إعلام الشرعية، يستعدي أبناء “شمال الشمال”، وينتقص من هويتهم اليمانية ويشكك في انتمائهم لليمن.
فضلاً عن الفشل الذريع للسلطة الشرعية في بناء نموذج وطني جاذب يمثل مصالح عموم اليمنيين، ويعيد بناء الثقة في أوساط المواطنين من خلال تقديم الخدمات العامة ورفع مستواهم الاقتصادي والمعيشي.
سابعاً: تسويق مصطلح “الهاشمية السياسية” وتكريس المنطق الطائفي لا يخلو من تحقيق أهداف ومكاسب سياسية للعصبيات بمختلف أشكالها وتلاوينها، فهو يعمل على إقصاء الشعب ككيان سياسي مواطني لصالح تكريس حضور التعبيرات الطائفية والقبائلية والولاءات ما دون الوطنية، ويعزز من نفوذ النخب العشائرية والدينية والجهوية على حساب تهميش الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، ويوفّر لهذه النخب مكاسب مادية هائلة في إطار ما نسميه “الاقتصاد السياسي للحرب”، وهو ما نلاحظه عَيَاناً من حصول زعماء الجماعات المسلحة وتجار الحرب على تمويلات مالية ولوجستية وتسليحية ضخمة من دول خارجية، وقيامهم بمراكمة ثروات خرافية بطرق غير مشروعة، في الوقت الذي تئنُّ فيه الجماهير المُفقَرة تحت وطأة الجوع والفقر والمرض والخوف وكل صور الحرمان الإنساني.
تتخادم النخب الطائفية والقبائلية والجهوية، وإن تصارعت اليوم بقوة السلاح، إلا أن ذلك لا يمنعها في الغد من أن تعقد تسوية شوهاء تتقاسم من خلالها كعكة السلطة والثروة، وتعيد صياغة المعادلة السياسية بما يثبِّت مصالحها الخاصة، ضِداً على مصالح الشعب وتطلعاته المشروعة نحو حياة كريمة في ظل دولة وطنية مدنية ديمقراطية اتحادية.
ثامناً: ذهاب البعض إلى اعتبار “الهاشمية السياسية” “إطاراً طائفياً” يجمع كل من يدّعي الانتساب لآل البيت، وأن هذا “الإطار الطائفي” قد تحكّم باليمن طيلة ما يقارب 12 قرناً، وأن جذر الصراع الدائر اليوم في اليمن يعود إلى اللحظة التي وَفَدَ فيها الإمام “الهادي إلى الحق” يحيى بن الحسين الرَّسي إلى صعدة قادماً من منطقة الرَّس في الحجاز عام 284هـ ــ 897م، بعد أن وُجهِّت له دعوة من مشائخ وأعيان قبائل صعدة لتسوية صراعات داخلية كمحكّم بينها، وأنه منذ ذاك الحين وجدت “الطائفة الهاشمية” فرصة للاستنبات في أرض الإيمان والحكمة؛ مثل هذا الكلام ليس سوى هرطقات زائفة، وحديث ممجوج ومفضوح، وذلك من عدة نواحٍ:
من ناحية أولى: إن “الهاشمية” لا تشكّل طائفة، لأن الطائفة تفترض وجود بنية تنظيمية هيراركية صلبة، قائمة على علاقات التضامن الداخلي، ولديها أوضاعاً طبقية متطابقة ومصالح متماثلة، وجهاز أيديولوجي يعلي من ذاتيتها في مقابل إبخاس غيرها. وكما أوضحنا سلفاً أن “الهاشمية” تنضوي في إطارها شرائح اجتماعية متعددة، وأوضاع طبقية متباينة، ناهيك عن اتجاهات ومواقف سياسية وفكرية مختلفة، كل ذلك يجردها من صفة “الطائفة”.
من ناحية ثانية: الطائفية ليست جوهراً ثابتاً في التاريخ، أو ماهية يتوارثها الأجيال على مر القرون، بل الطائفية في لُحمتها وسَداها ظاهرة سياسية معاصرة ناجمة عن أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية محددة تاريخياً، وتتمظهر في إعلاء الانتماءات الفرعية (الدينية/ المذهبية/ القبلية/ العشائرية/ الجهوية/ المناطقية/ القروية/ العائلية) فوق الانتماء الوطني الجامع.
وبناءً على ذلك فإن صفة “الطائفية” ليست صفة مقتصرة على جماعة محددة بذاتها، بل تشمل كل جماعة أو حركة تقوم بتقديم ولاءها الأولي على حساب الولاء الوطني.
ومن ناحية ثالثة: ما يحدث من صراع اليوم لا علاقة له بالماضي وإن كانت بعض أطراف الصراع تتوسل الماضي!
الصراع اليوم كان وما يزال حول السلطة والثروة مهما حاول البعض أن يتدثر بالدين وبثارات التاريخ.
إنّ البحث في أضابير التاريخ عن أسباب وجذور صراع يدور في القرن الحادي والعشرين كما يفعل البعض من العلمانيين والاسلاميين ـ على حدٍ سواءـ إنما هو إيغال في الوهم والتزييف وصرف أنظار الناس عن حقيقة الصراع وعن مداره الراهني الواقعي!
إن مواجهة قضايا الحاضر لا تكون إلا من خلال فهم الواقع القائم فهماً جدلياً بهدف تغييره، وهذا لن يتأتّى إلا بامتلاك منهجية علمية تتوخّى صناعة فضاء ديمقراطي تشاركي عادل لكل الناس بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم.
تاسعاً: يستشهد البعض بشعارات الحركة الحوثية وممارساتها، مثل: الادعاء بـ”الحق الإلهي في الحكم”، وإقرار “الخُمُس” وادّعاء بعض قادة الحركة ومنتسبيها بالتفوق العرقي والسلالي لـ” السادة الهاشميين” دوناً عن بقية اليمنيين كأدلة على طائفية “الهاشمية”، وهذا خلط واضح بين “الهاشمية” كمكون اجتماعي ينطوي على تعدد وتنوع طبقي وسياسي وفكري وسيكولوجي، وبين الحركة الحوثية كحركة سياسية مسلحة لا تمثّل إلا نفسها ومصالحها الخاصة، وينبغي التمييز بين الاثنتين.
إذن اعتبار البعض “الحوثية” بأنها تمثّل أو تقود “الهاشمية”، محض كلام فارغ يكذِّبه الواقع العَيني؛ إذ ليس كلّ “هاشميّ” هو “حوثيّ” أو يناصر “الحوثية” بالضرورة، وفي المقابل ليس كل من يناصر “الحوثية” هم “هاشميون” بالضرورة، بل إن هناك أفراداً كثيرون ليسوا بهاشميين ولا ينحدرون من “المنطقة الزيدية” يقفون مع “الحوثية”، وربما بعض هؤلاء يتعصّبون للحوثية بصورة أشد من تعصّب “قادتها” لها.
عاشراً: استخدام مصطلح “الهاشمية السياسية” يعمل على إهدار أي فرصة للتواصل الإنساني، وبتر للعلاقات الإنسانية والاجتماعية وتحويلها إلى علاقات أشبه بعلاقات قطيعية، ترتسم في فضاء من التعصب والأحكام القيمية ضد الآخر، فالآخر هو الشر، هو الجحيم، هو الرذيلة. هذا التنميط والاختزالية للآخر يقابله اتجاه تفضيلي نحو الذات، فالذات هي مصدر الخير وهي عنوان الفضيلة.
هذا الخطاب غرائزي ويتجرد من كل منطق عملي، ويعزز من ثقافة الكراهية، ويكرّس الاتجاهات التعصبية لدى أفراد المجتمع، في الوقت الذي يمارس فيه هذا الخطاب اغتصاباً للعقول من خلال نشر الأكاذيب وتأويل الأحداث والوقائع على نحو ديماغوجي بهدف تأجيج مشاعر الناس وتحريضهم ضد بعضهم البعض.
وكل ذلك يؤدي إلى تغييب قيم العقلانية والحكمة والتسامح والعلاقات الإنسانية على حساب طغيان قيم التطرف والإقصاء والعدوانية و”العصبية الجاهلية”.
عندها تصبح البيت الشعري للشاعر عمرو بن كلثوم معبّرة عن واقع حالنا المأساوي:
“ألا لا يجهلنّ أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا”!!
صفوة القول: مصطلح “الهاشمية السياسية” هو مصطلح مخاتل، ويفضي إلى بناء مواقف خاطئة بل كارثية على صعيد السياسة والعلاقات الاجتماعية، ويكرّس المنطق الطائفي، ويعمل على تجزئة المجتمع إلى كيانات أولية متناحرة تقوم على أساس الاصطفافات الطائفية والقبلية والمناطقية والقروية، مما يعني في المجمل إدامة الفَوَات التاريخي بتعبير المفكر القومي ياسين الحافظ، وإدامة حالة التخلف والجَهالة، وتقويض كل ممكنات التحرر الإنساني وبناء مجتمع المواطنة.
إن الحاجة الوطنية الراهنية تفرض إنتاج خطاب وطني ديمقراطي لمواجهة الخطاب الطائفي والشحن المناطقي والتحريض الديني، خطاب يُعلي من اسم اليمن شعباً وتاريخاً وأرضاً وهوية جامعة.
هوامش وإحالات:
[1] سيلاحظ القارئ أن الكاتب قام بوضع قوسين مزدوجين (” “) على لفظ “الهاشمية” ومشتقاتها: “الهاشميون”، “بني هاشم”،…إلخ، أينما ورد، وذلك للتأكيد على تحفظ الكاتب على هذه الألفاظ، واستخدامها هنا جاء لاعتبارات إيضاحية سياقية ولا تحمل أي مدلولات سياسية يتبناها الكاتب.
[2] من المهم إيراد النص الذي تضمن في ثناياه شهادة اللواء عبدالله جزيلان:
“أحاديث تدعو إلى تفتيت الوحدة الوطنية:
كنت ومعي الزملاء أحمد ثابت وعبدالله السنياني والشيخ علي حيدر رحمه الله ننتظر أن نسمع تعليق صوت العرب خصوصاً وقد بدأت حرب الكلام بين القاهرة وصنعاء. وكنا نتعمد رفع صوت المذياع لأن بعض الأسر المالكة ساكنة إلى جوارنا. وأدير مؤشر الراديو على إذاعة صوت العرب من القاهرة. وبدأ صوت ناصر السعيد ينساب هادئاً في بادئ الأمر ثم يرتفع رويداً رويداً داعياً إلى الثورة في الجزيرة العربية كلها.
وتحدث “الدكتور” عبدالرحمن البيضاني حديثاً عجباً، فهاجم الهاشميين هجوماً عنيفاً بلا مبرر، غير مدرك أن ما يقرب من ثمانين في المائة من ضباط الثورة هم من الهاشميين (التشديد من الكاتب) كما أن عدداً كبيراً منهم في السجون جزاء إعلانهم عصيانهم وتمردهم على أسرة حميد الدين الحاكمة في صنعاء، بل وهم في كل الانتفاضات في المقدمة.
وكان لحديث “الدكتور” عبدالرحمن البيضاني وقع سيء في نفوس الجماهير، وضباط الثورة، وجاء إلى منزلي بعض الضباط وكما أذكر الملازم أول السيد علي المؤيد، والملازم أول السيد عبدالله المؤيد والملازم أول السيد حسين شرف وغيرهم وقالوا وعلامات الحزن والألم قد برزت على وجوههم.
- يا أفندم لو كان ما يقوله البيضاني هو رأي القاهرة فكيف نقوم بثورة تساعدها القاهرة وترتبط مصيراً بها؟
فقلت لهم: يا إخواني إن البيضاني لا يعرف عنا شيئاً، فدعوه يتكلم كما يشاء وما سنقوم به هو عمل من أجل تخليص شعبنا من هذا الحكم الكهنوتي البغيض. وكاتب هذه السطور متأكد أن القاهرة لا تقبل مثل هذا الكلام الشاذ فالقاهرة في اعتقادي هي مجمعة الشعوب لا مفرقة. وسأتصل بالأخ الطيار عبدالرحيم عبدالله والأخ محمد عبدالواحد لإبلاغ القاهرة بإيقاف مثل هذه الأحاديث التي تدعو إلى تفتيت الوحدة الوطنية وتخدم السلطة الحاكمة في صنعاء..
اتصلت بالأخ محمد عبدالواحد وأخبرته بما حدث من رد فعل نتيجة لجهل “الدكتور” عبدالرحمن البيضاني بالمجتمع اليمني.
وأخبرت الطيار عبدالرحيم عبدالله بما حدث نتيجة مهاجمة الهاشميين من قبل “الدكتور” عبدالرحمن البيضاني. وطلبت وقف مثل هذه الأحاديث الشاذة، والتي تفرق ولا تجمع، وتخدم سياسة الإمام وأسرته البغيضة. وقد تم ما طلبنا وأوقف نهائياً الأخ “الدكتور” عبدالرحمن البيضاني من إذاعة أحاديثه.” (أ. هـ) راجع: اللواء عبدالله جزيلان، التاريخ السري للثورة اليمنية من سنة 1956 إلى 1962م، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط2، 1979، صص77 – 78.
[3] يشير د. سمير أمين إلى أن الاستراتيجية الصهيونية قد بَنَتْ رهانَها على بقاء المجتمعات العربية في وضع تفكك وتمزق دائم، للمزيد راجع: سمير أمين، الأمة العربية.. القومية والصراع الطبقي، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1988.